تجديد الخطاب الديني في الإسلام
نقد الناقد: قراءة نقدية في فكر نصر حامد أبوزيد

من مظاهر النقد المهمة واللافتة للتفكير هي "العادة" المستحكمة والملازمة له من حيث النظر في منهجه وفاعليته والغاية منه ودوره الأصيل في التساؤل عن ماهية دوره في التغيير والتأثير، وهذا ما يجعل النقد لا ينهش في الآخرين فحسب بل يلتف أيضًا ليعض ذيله.

ولهذا نحن بصدد تقديم قراءة نقدية مختصرة لما يتعلق بالنص القرآني والوحي في مشروع المفكر والباحث الإسلامي "نصر حامد أبوزيد" (1943 - 2010)، الذي قدم عدة قراءات تأويلية للنص القرأني أفتتحها بدراسة بعنوان "قضية المجاز في القرآن"، وتلتها عدة دراسات حول تأويل القرآن وتحديدًا لدى ابن عربي، إلى إن أصدر كتابه "مفهوم النص" والذي تعرض بسببه نصر للمُحاكمة والهجوم من قبل الأصوليين "التيارات السلفية والإخوانية والأزهرية" وأدى لخروجه من مصر إلى هولندا على أثر هذا النزاع القضائي والفكري.

جاء مشروع نصر أبوزيد في وقت شهد صعود نجم التيارات السلفية في مصر وخفوت مشاريع تنويرية مثلتها كتب محمد عبده "الإسلام دين العلم والمدنية"، وطه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي"، وعلي عبد الرزاق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، حيث تناول كتاب نصر "مفهوم النص" النص القرأني بالنقد والتحليل بصفته "منتجًا ثقافيًا" أنتجه واقع العرب التاريخي والإجتماعي خلال عهد النبوة، وأبعد النص القرأني عن أي بُعد ديني مطبقًا عليه الشروط النقدية كأي نص أدبي.

ولا شك أن مشروع نصر حامد أبوزيد ذا روؤية عميقة لمفاهيم قراءة وتأويل النص القرآني[1] . ومع هذا التقدير لمشروع نصر حامد أبوزيد  لكنه يبقى مشروعاً جدلياً لا يلقى قبول الجميع حوله.

عقدة النص

يطرح نصر حامد أبوزيد "النص الديني" بوصفه "نصًا لغويًا" محاولًا إستبعاد المضامين اللاهويتة والخرافية. وبالرغم من أهمية هذا الطرح "الإنساني" إلا أنه لم يرد قطع الحبل مع المنطق الديني وحاول الربط بين بشرية الخطاب وألوهية الوحي المنتج لهذا الخطاب، فكتب نصر في كتابه «نقد الفكر الديني»  «أن النص منذ لحظة نزوله الأولى – أي مع قراءة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم له لحظة الوحي – تحول من كونه (نصاً إلهيًا) وصار فهمًا (نصا إنسانيًا) لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. (ص 126) ويضيف في ص 206 في نفس الكتاب أن الأصل الإلهي للنص "القرآني" لا يعني أنه يحتاج لمنهجيات ذات طبيعة خاصة من أجل تحليلها وهذا ما يمكنا وصفه بـ "التقية المفضوحة[2]"، فهذه المداورة لن تغير من حقيقة تجرؤ نصر وتوجيهه لآلية النقد للنص القرآني، ولن تقيه شر الأصوليين الذي حاول تجنبهم بهذا الربط.

فالقراءة الزيدية، "نسبة إلى نصر أبوزيد"، للنص القرآني لا تختلف عن قراءة الأصوليين للنص. ولكي نفسر هذا الرأي نشير أولًا إلى الكاتب على مبروك الذي يرى أن مشروع "القراءة" في ذاته قبل أن نحكم بأصوليته أو حداثته يلزم حضورًا مزدوجًا للمقروء "في مقالنا هنا - النص القرآني" والقارئ "الذات القارئة وآليتها- نعيدها هنا على نصر أبوزيد"، فإن غابت هذه الذات وتماهت في البعد الميتافيزيقي أنتجت قراءة "مكررة". ونصبح أمام قراءة واحدة ولكنها متباينة ومتعددة الأوجه.[3]

وهذا ما نصطدم به في قراءة نصر للنص القرآني من حيث "تلفيقية" المنهج^، ففي كتاب نصر "مفهوم النص" يشير للنص القرآني كما يلي: "إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص ومن ثم لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة، أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها" (ص 24 ) ومن هذه الفقرة نجد تعارضاً في بداية الطرح بين رأيين لنصر في حقل معرفي واحد، فالرأي الأول يرى فيه أن القراءة الميتافيزيقية تطمس فهم الدين، والثاني يتمثل في رؤيته أن الإيمان بالبعد الإلهي لا يتعارض مع فهمه للنص، وبالفعل يمكنا ان نعتبر هذا تعارضاً شكلياً.

 

 

لكن هناك رأي آخر لعلى حرب الذي يرى أن هذا الموقف يُمثل غياب  ذات "نصر" الواعية وآلياتها مما يجعله لا يختلف عن رأي الأصوليين في قراءته للنص القرآني "الحاضر - نسبة لطرح علي مبروك"، ويدلل حرب على رأيه أن نصر استمر في نفس النهج من بحث وتوليد للمفاهيم الإجرائية في الشرح والتفسير، كالتأويل والنسخ وأسباب النزول، وبالتالي أبقى نصر على نفس اللغة الماورائية الغيبيبة للأصوليين في حين أن مشروعه الفكري يقوم على الدعوة للتحرر منها.

في "مفهوم النص" (ص 27) يقدم نصر "المنهج اللغوي" فقط كآلية وحيدة لفهم النص القرآني. فالوصف الذي أعتمده نصر للقرآن "كنص لغوي" مرتكن إلى رأي أمين الخولي في إعتبار النص القرآني "كتاب اللغة العربية الأكبر وأثرها الأدبي الخالد"، لم يكن موفقاً فكان أولى مع آليات القراءة الزيدية أن يُطلق عليه "نص بياني"، حيث أن النص القرآني نص بياني وعرفاني أيضًا لأن القراءة اللغوية بمفردها أضيق من أن تدرك معاني هذا النص العلمي المتفرد كما وصفه المفسرون بإتساع أفق المعنى والتأويل فيه[i]. وهذا ما أفقد النص الكثير من أوجهه الأخرى التي يمكن قراءته منها بمناهج فلسفية وفقهية وعرفانية.

وهذا ما يؤكد عليه علي حرب. فلا ينبغي قراءة النص القرآني من جانب وحيد فهذا يعرض النص للإختزال بل يجب الإنفتاح على كل الكشوفات المعرفية المتاحة. ويضيف د. إسماعيل نقاز في دراسته الشرعية "مناهج التأويل" إلى أن ارتكان نصر إلى "القراءة اللغوية" للنص القرآني جعلها تفتقد للدلالة المعنوية التي تميز النص الديني عن النص الأدبي. فالحمولة المعرفية للنص الديني تضعه في حالة تفاعل مستمر مع الجانب الدنيوي "الواقع" فيتم إنتاج المقدس بشكل مستمر في إطار الدنيوي. وهذا ما لم يغب عن قراءة الأصوليين للنص القرآني وجعل قراءة ابوزيد تبدو استئناسية أو محاولة لتوسع في التأويل اللغوي.  ويتفق كل من النقاز وحرب على أن قراءة الأصوليين للنص القرآني كانت أكثر أصالة وعملية من القراءة الزيدية.

 

المزيد من المقالات حول معضلة الإصلاح في الإسلام

نقد الذات التراثية استفادة إسلامية من الكنيسة اللوثرية

هل كان المفكر نصر حامد أبو زيد مصلحاً لوثراً إسلامياً؟

الإصلاح الديني في المسيحية والإسلام

معضلة الإصلاح في الإسلام 

الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!

 

وكان بإمكان نصر أن يُبقي في قراءته على فكرة نبوية النص القرآني من دون التفكير في مصدر هذه النبوة التي لا تتعلق، بالضرور، بالدين. فإدونيس يضرب مثلاً لاختلاف مصدر النبوءة حيث يصف نفسه في أحد الحوارات أنه نبي "وثني".[4] وكان هذا الفكر سيساعد نصر على تجنب الاشتراك مع القراءة الأصولية للنص. فالقرآن يمثل في النهاية تمثلًا من تمثلات النبوءة أيًا كان مصدرها، مما يجعل من الصعب فهم وتأويل النص بشكل حداثي بعيدًا عن بعده الإعجازي - وهذا ما تجاهله نصر وطرح افكاره العلمية ظاهرها تجديدي ولكن بتفكيكها نصل في النهاية لنفس المنطلق الميتافيزيقي للأصوليين.

وبتجميع هذه الإشكاليات وبالرجوع لشرطي القراءة الدينية* للنص القرآني بحسب محمد أركون في منهجه وهما:أولاً: أن كل أنماط القراءات أو مستويات الاستخدام الإيماني للقرآن مسجونة داخل السياج الدوغمائي المغلق. وثانياً: تساهم التفاسير الإسلامية التي فرضت نفسها كأعمال أساسية، تساهم في التطور التاريخي للتراث الحي تمارس دورها كنصوص تفسيرية صحيحة، مجمع عليها من قبل رجال الدين.

نستطيع أن نفهم أيضًا ما دفع أركون لكي يصف قراءة نصر أبوزيد للنص القرآني بالقراءة "العادية[5]" - مثلها مثل القراءات الماركسية لطيب تيزيني وحسين مروة، والأبستيمولوجية مثل قراءة محمد عابد الجابري. والتي لم تسطع أن تصل إلى مساحات "اللامفكر فيه" في الثقافة العربية وهذا ما يجب الإلتفات إليه بعيدًا عن الضجة والجدل. ولعل فكرة الضجة والجدل التي ينبه لها أركون تشير إلى أن الفكر الزيدي قد شغله في بعض الفترات الكبت السياسي والتشويش الصوفي ولعل هذا ما جعله يقدم على الوقوف على حقل بحثي يخص "ابن عربي" وهذا الحقل لم يكن "لامفكر فيه" بل كان حقلاً قدمت فيه العديد من الأبحاث والدراسات الاستشراقية، على الرغم من كل الآليات التي أتيحت لنصر لمحاولة قراءة النص من السيميائية والاركولوجية والتحليل السوسيولوجي والنقد التاريخي.

ونضيف أن الكبت السياسي لعب دورًا هامًا في مشروع نصر لقراءة النص. فصراع نصر مع قيادات أزهرية جعله ناقماً على الفكر التراثي "الأصولي" فنبذه بدلًا من القيام بدراسته وتحليله. فقد حاول إلغاء آليات القراءة التي طورها الإمام الشافعي ومن جاء بعده، بحجة أنها مؤدلجة. في حين أن المنهج التأريخي الذي بنى عليه نصر أغلب افكاره هو نتاج إيديولوجيا غربية ولا يخلو من اليوتوبيا كما يشير د. إسماعيل النقاز.
وهذا ما يؤكد عليه علي حرب وهو أن العديد من الكتابات المتعلقة بالنص القرآني بالرغم من منطوقها اللاهوتي إلا أنها حملت منطقاً علمياً يقترب مما قدمه نصر. ولو أعطى لها مساحة أكبر من الدراسة  لوجد أن الكثير من آلياته الفكرية مكررة ،على سبيل المثال في كتاب "البرهان في علوم القرآن" للزركشي.

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة