مسيح دارفور يحج إلى ألمانيا

حل بالخرطوم المترجم الألماني غونتر أورت، وتأتي زيارته للسودان -منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2014- في إطار التحضير لترجمة رواية (مسيح دارفور) للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن، وأيضا للتعرف على هذا البلد الإفريقي العربي الذي تتناهبه الصراعات المسلحة واستشكالات الهوية والانتماء. جمال طه غلاب يسلط الضوء لموقع قنطرة على بعض جوانب الحوار الذي دار أثناء الزيارة حول واقع ترجمة الأدب السوداني والعربي إلى اللغة الألمانية.

الكاتبة ، الكاتب: جمال طه غلاب

استضاف اتحاد الكتاب السودانيين المترجم الألماني غونتر أورت -يوم الثلاثاء الموافق الثامن عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2014- في لقاء مفتوح مع جمهور كان معظم أفراده من الكتاب والمترجمين والمهتمين بالشأن الثقافي وقدم المترجم الألماني البارز تلخيصاً وافياً لتجربته في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الألمانية، والإشكالات التي اعترضت طريق عمله والتي تمثلت في الحضور الخافت للثقافة العربية في المشهد الثقافي الألماني و في الصعوبات الكامنة في التوفر على ناشرين ألمان لا مخاوف لديهم من طباعة الأدب العربي المترجم إلى اللغة الألمانية.

و حكى غونتر أورت أنه تقدم بمشروع ترجمة رواية "المترجم الخائن" للسوري "فواز حداد" لواحدة من دور النشر الألمانية فأقرت الدار بجودة الرواية وإن لم تتحمس لفكرة نشرها ولكن عندما أعلن عزمه عن ترجمة رواية "جنود الله" للروائي نفسه لم تتأخر دور النشر عن قبول العرض.

لدُور النشر معاييرها

تؤكد القصة التي رواها أورت أن ناشري الأعمال الأدبية المترجمة قد يضعون في حساباتهم جودة الأعمال الأدبية ومطابقتها للمعايير الجمالية والنقدية التي يحتكم إليها تحديد أصالة النصوص الأدبية وجودتها ولكن في الغالب فإن عوامل أخرى تتدخل لتحسم اختياراتهم.

رواية "مسيح دارفور" عن دار "أوراق" للنشر والتوزيع
ينتظر أن تصدر رواية "مسيح دارفور" في ألمانيا لتصبح ثاني رواية سودانية تستضيفها لغة غوته بعد أن استضافت سابقاً أيقونة الأدب السوداني "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، كما يكتب جمال طه غلاب. في الرواية نحو 200 صفحة وتدور حول الحرب بين أهل دارفور ومجاميع الجنجويد المقاتلين والقبائل العربية التى سكنت السودان منذ القدم وصارت جزءا منها. ويواجه الكاتب عبد العزيز بركة ساكن فى روايته الأفكار العنصرية بين البيض والسود، ويدين الحروب التى تظلم الناس وتدمر الأوطان.

جمهور الأمسية التي نظمها اتحاد الكتاب السودانيين اجتهدوا في تقديم مداخل تعريفية مختلفة للأدب السوداني استجابة للملاحظة التي طرحها أورت بشأن الإنتاج الأدبي المتواتر في بلدان عربية درج المترجم على زيارتها بانتظام مثل مصر ودول الخليج والدول المغاربية، حيث أشار إلى أن الرواية تكاد تتزعم المشهد الأدبي في تلك الدول مع حضور ملموس للأجيال الشابة في صدارة هذا المشهد، وتساءل: هل الحراك الأدبي والثقافي في السودان شبيه بما يحدث في تلك الدول أم أن الأمر مختلف؟

ازدهار لا تخطئه العين

أفادت إجابات الحاضرين أن الرواية والفنون السردية تشهد ازدهاراً لا تخطئه العين في السودان، وأكد بعض المشاركين في المنتدى أن التطور الحاصل في الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً هو تطور كمي في المقام الأول ولكنه لا يخلو من إشراقات نوعية هي التي تحفز مترجمين من قامة أورت للتصدي لترجمة اللافت من هذه الأعمال.

وقد وردت أيضاً تعليقات عن المساهمات النسوية في المتن الإبداعي السوداني، وأشار المشاركون إلى أن المرأة السودانية تسبق الرجل في مضمار الإبداع أحياناً فمن بين الروايات القليلة التي صدرت في السودان في الخمسينيات من القرن العشرين رواية "الفراغ العريض" للكاتبة السودانية "ملكة الدار أحمد"، وهذه الرواية التي وصفها أحد المشاركين بأنها ناضجة فنياً صدرت في وقت كانت فيه الرواية العربية تتلمس طريقها وتتحسس أدواتها تمهيداً لإعلان حضورها في أفق ثقافي كان وربما ما زال يحتفي بالشعر إلى درجة قريبة من التقديس.

السودان.. انتماء عربي أم إفريقي؟

ورداً على سؤال طرحه أورت عن الالتباس الحاصل بشأن انتماء السودان: هل هو انتماء خالص إلى العالم العربي أم هو انتماء جذري إلى القارة السمراء؟ أجابت الدكتورة "عائشة موسى" وهي أستاذة جامعية ومترجمة وباحثة مرموقة أنها تعتقد أن أهل السودان على تصالح مع سودانيتهم التي تحتفي بالتعدد وبالتنوع الإثني والثقافي، وأبانت أن السواد الأعظم من السودانيين لا يجدون حرجاً في تقديم "سودانيتهم" على عروبتهم أو "إفريقيتهم"، وهي ترى أن الالتباس الحاصل بشأن الهوية مربك للآخر الذي يتعاطى مع الشأن السوداني، سواء تعلق الأمر بالسياسة أم بالثقافة أم بدراسة التركيب الإثني المعقد لهذه الدولة أكثر مما هو مربك للسوداني نفسه.

كلام الدكتورة عائشة على وجاهته و تمثيله للكيفية التي يتعاطى بها قطاع من المثقفين السودانيين مع معضلة الهوية لا ينفي الواقع المرير الذي أدى فيه الصراع على الهوية إلى انفصال جنوب السودان مع استمرار النزاعات الدامية في مناطق دارفور و جبال النوبة والنيل الأزرق. وهذه الصراعات لا تختلف في طبيعتها كثيراً عن الصراع الذي أنتج دولة جنوب السودان الناشئة والتي بدورها ومنذ تأسيسها احتدمت فيها الحرب بسبب أطماع الإثنيات المختلفة في الانفراد بإدارة شؤون البلاد واحتكار السلطة والثروة مع الإصرار على تمكين هوية واحدة ربما لا تراعي التنوع الإثني والثقافي الهائل الذي يذخر به جنوب السودان.

احتكام إلى الذائقة الفنية

في حديثه عن تجربته في ترجمة الأدب العربي أكد غونتر أورت أنه يحتكم إلى ذائقته الفنية في اختيار الأعمال التي يعتزم ترجمتها، مع علمه أن لسوق الأدب المترجم في ألمانيا وغيرها شروطه التي لا تتوافق دائماً مع شروط الإبداع والأصالة الفنية التي ترفع من شأن العمل الأدبي أو تخفضه، ليس لأنه يتطرق إلى مواضيع ملتهبة أو قضايا تتصدر أخبارها وتقاريرها شاشات التلفزة والمواقع الإلكترونية وواجهات الصحف بل لأنه إبداع يصح الحكم على فشله أو نجاحه بما حققه من تجاوز ملموس على مستوى اللغة والبناء وتمثيل العلاقة الجدلية بين الواقع والخيال تمثيلاً فنياً صادقاً.

رواية "جنود الله" للكاتب السوري فواز حداد صادرة عن دار رياض الريس في بيروت 2010
حين أعلن غونتر أورت عزمه على ترجمة رواية "جنود الله" لم تتأخر دور النشر الألمانية عن قبول العرض، كما يكتب جمال طه غلاب. وتتناول رواية "جنود الله" للكاتب السوري فواز حداد القضية العراقية بعد الاحتلال الأمريكي، وذلك عبر قصة والد يبحث عن نجله الذي التحق بتنظيم القاعدة في العراق.

انتقد أحد المشاركين الطريقة التي يتم بها اختيار الروايات العربية للترجمة إلى اللغات الأوربية وأشار إلى أن هناك جهات تتعمد تثبيت صورة محددة عن العالم العربي وإفريقيا في المخيلة الأوروبية وأضاف أن هناك روائياً سودانياً رائداً من أقليم دارفور -هو الأستاذ إبراهيم إسحاق إبراهيم- صور هذا الإقليم في رواياته وأعماله السردية تصويراً فنياً بديعاً قبل أن يغرق الإقليم في أزمته الحالية، التي تجتذب أنظار العالم إليه، مضيفاً أن مثل هذه الأعمال جديرة بلفت أنظار المترجمين.

وهنا سارع أورت إلى التذكير بأنه أشار إلى أنه مترجم مستقل كما ذكّر الحاضرين أنه أفصح عن المنهج الذي يعتمد عليه في انتخاب الأعمال التي يترجمها ولم ينسَ أن يشكر الحضور على تنبيهه إلى الأسماء والعناوين التي يعتقدون أنها تستحق الترجمة.

أدب سوداني بالألمانية 

وفي إجابته عن سؤال المنهج الذي يتوسله لترجمة اللهجات المحكية العربية والعبارات التي يتعذر العثور على مقابل لها في اللغة الألمانية قال المترجم إنه يستأنس بآراء مواطنين ينتمون إلى الدول التي تستخدم تلك اللهجات المحلية، و أضاف أن هذا المنهج أثبت نجاعته في تذليل العقبات التي تعترض مسيرة الترجمة.

وينتظر أن تصدر رواية "مسيح دارفور" في ألمانيا لتصبح ثاني رواية سودانية تستضيفها لغة غوته بعد أن استضافت سابقاً أيقونة الأدب السوداني "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.

وتأتي أهمية هذه الترجمة من أنها تقدم للقارئ الألماني جانباً من الأدب السوداني -الذي يشكل حضور الروائي "عبد العزيز بركة ساكن" المقيم في النمسا حالياً- علامة بارزة من علاماته إلى جانب زملائه الروائيين "أمير تاج السر" و"منصور الصويم" و"أحمد حمد الملك" و"هشام آدم" وغيرهم من كتاب المنافي و دول المهجر، والذين ترجمت أعمالهم إلى الإنجليزية والفرنسية. وأهم من ذلك تأتي هذه الترجمة فاتحة لانطلاق التحاور والتبادل الثقافي بين السودان وألمانيا.

ومن المهم في هذا السياق الإشارة إلى أن ترجمة رواية "الجنقو مسامير الأرض" لبركة ساكن إلى اللغة الإنجليزية ستصدر قريباً عن إحدى دور النشر الأمريكية، كما تجد أعمال هذا الكاتب رواجاً محلياً لافتاً وقد صادرت السلطات السودانية مجموعته القصصية "على هامش الأرصفة" سابقاً، وحظيت كتبه الأخرى مثل "رماد الماء" و "الطواحين" و "زوج امرأة الرصاص و ابنته الجميلة" و "امرأة من كمبو كديس" و "مخيلة الخندريس" باستقبال نقدي حافل.

 

 

جمال طه غلاب - الخرطوم

حقوق النشر: قنطرة 2014