ثقافة شعبية إسلامية - مسلسلات تركية تجتاح العالم

غزت المسلسلات التركية العالم بثقافة شعبية إسلامية، متباهيةً بحضور متزايد على الشاشات العالمية: من كوريا والصين وروسيا وباكستان شرقا إلى المنطقة العربية وإسرائيل وحتى الأرجنتين والمكسيك وتشيلي غربا، لتصبح تركيا ثاني أكبر مُصدِّر لمسلسلات التلفزيون عالمياً بعد هوليوود، موفِّرةً للجماهير -بحبكاتها الدرامية الدقيقة- بديلا عن بوليوود الهندية وهوليوود الأمريكية. الصحفي ماريان بريمَر والتفاصيل من اسطنبول لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Marian Brehmer

حين حثّ رئيسُ وزراء باكستان "عمران خان" بلاده على مشاهدةِ المسلسلِ التلفزيوني "قيامة أرطغرل"، قائلاً إنه يجسّدُ القيمَ الإسلاميةَ المثاليةَ، لم يكن لديه أي فكرة عن الحركة الجماهيرية التي كان على وشكِ إطلاقها.

إذ بناءً على تعليماتِ رئيس وزراء باكستان، بدأ تلفزيون باكستان PTV بعرضِ المسلسلِ التاريخي التركي مدبلجاً إلى لغة الأوردو مع بدأ شهرِ رمضان، في 25 نيسان/أبريل 2020. وبذلك، فإنّ قصصَ حب أرطغرل ومعاركه، الموجّهة أساساً للجمهورِ التركي، وجدت طريقها إلى ملايين البيوتِ الباكستانيةِ. فقضت عائلات بأكملها أسابيع تتابعُ بحماس الحبكات الدرامية، على الرغمِ من مشاهدِ القتالِ الوحشي بين الحينِ والآخر.

وبحلولِ الأسبوعِ الأخيرِ من رمضان كان المسلسلُ قد وصل إلى ما يزيدُ عن 130 مليون مشاهدٍ في أرجاء باكستان. كما حصلَ مسلسلُ أرطغرل على ملايين النقراتِ والمشاهداتِ على قناة اليوتيوب التابعة لقناة PTV. وقيامةُ أرطغرل هو مسلسلٌ تركي شبيهٌ بمسلسلِ "صراع العروش"، مستوحى من قصةِ حياةِ الغازي أرطغرل، والدُ عثمان، مؤسّس الامبراطورية العثمانية، والتي دامت ستة قرونٍ.

ومسلسلُ أرطغرل يتكوّنُ من خمسةِ مواسمٍ وهو واحدٌ من بين عدةِ مسلسلاتٍ تلفزيونيةٍ تركيةٍ اكتسبت شهرةً عالميةً في السنواتِ الأخيرةِ. ومع ذلك فإنَّ الأسبابَ وراء النجاح الهائل لمسلسلِ أرطغرل في باكستان هي أكثر من مجردِ عَرَضٍ من أعراضِ المللِ خلال فترةِ الحظرِ التي سبّبها وباء كورونا.

 

 مسلسل "سليمان العظيم" هو واحدٌ من العديد من المسلسلاتِ التلفزيونيةِ التركيةِ التي تجذب اهتماماً كبيراً من المشاهدين حول العالمِ.  Foto: imago/Seskim Photo
Türkische TV-Serien erobern die Welt: Die „Serie Souleyman, der Prächtige“ ist nur eine von zahlreichen türkischen Fernsehproduktionen, die weltweit auf großes Interesse der Zuschauer stoßen. Sie stehen symbolisch für die Bestrebungen der Türkei, sich als “Soft Power” jenseits der kulturellen Macht des Westens zu positionieren, schreibt Marian Brehmer in seinem Beitrag.

 

مسلسلاتٌ تتحدثُ عن الحساسياتِ الإسلاميةِ

ومن بين التفسيراتِ المحتملةِ أنّ أرطغرل يعرضُ للجمهورِ الباكستاني بديلاً -وبتكلفة إنتاجٍ عالية- لهوليوود وبوليوود؛ وهما صناعتان ضجرَ منهما العديد من المشاهدين في البلدِ. إذ يمكن للباكستانيين أن يشعروا بالارتباطِ مع الشخصياتِ في الدراما التركية بسهولةٍ أكبر مما مع النجومِ الأمريكيين الفاتنين: من بطولةِ الزعيمِ القوي، الذي يستمدُّ شجاعته وثباته من عقيدته الإسلامية، إلى أثوابِ الممثلاتِ المزركشةِ بالألوانِ، التي تشابهُ الزي التقليدي لإقليم بلوشستان في جنوبِ غربِ باكستان.

لكن في المقامِ الأول، يتحدّثُ المسلسلُ عن الحساسياتِ الإسلاميةِ للأغلبيةِ المسلمةِ في باكستان. إذ أنّهم يشعرون بالارتباطِ بسهولةٍ مع السلوكِ التقي للأبطالِ، على الرغمِ من أنّ هذا قد أدى إلى بعضِ الجدالاتِ الغريبةِ: مثل الجدال حول إسراء بلغيتش ذات الـ 27 عاماً التي تلعبُ دور حليمة خاتون في المسلسلِ، زوجة أرطغرل المخلصةِ. إذ أنّ الرجال الباكستانيين، مفتونين بمكرِ بلغيتش التمثيلي، بدؤوا بمتابعتها على منصةِ إنستغرام، بيدَ أنهم سرعان ما أصيبوا بخيبةِ أملٍ حين اكتشفوا أن بيلغيتش تتصرّفُ بشكل مختلفٍ تماماً عن الشخصيةِ العثمانيةِ المحتشمةِ من القرن الثالثِ عشر التي جسّدتها في المسلسلِ.

صور بكيني موحية؟ هل يناسبُ ذلك امرأةً مسلمةً؟ وكما أشارت أيمون فيصل في مقالتها في موقعِ (The Dawn) "أرطغرل، وإسراء بلغيتش، وإحباطات الرجال الباكستانيين"، فقد واجهت بلغيتش انقساماً موجوداً في عقولِ الرجال الباكستانيين: بين النساء السمراواتِ المسلماتِ المُلزمات باتباع الشريعة وبين نساءِ الخارجِ المرغوبات البيضاوات واللواتي تجعلهن تصرفاتهن الممنوعة أكثر جاذبية. وقد صادفوا فجأة في بلغيتش شخصاً واحداً اجتمع فيه نموذجا الأنوثةِ هذان جنباً إلى جنب.

 

..................................

طالع أيضا

جيل الألفية التركي: هل يقلب الموازين على إردوغان؟

 سياسة روسيا الثقافية في العالم الإسلامي

آيا صوفيا مسجداً في تركيا إردوغان - أوليفييه روا: أسلمة الأحجار أسهل من أسلمة الأرواح

"الإسلاميون اللطفاء"...ما هي "حركة غولن" ولماذا تراقبها السلطات الألمانية؟

...................................

 

ففي باكستان، أصبح أرطغرل شاشةً يمكن أن يُعرضَ عليها استعادةُ ذكرياتٍ إسلاميةٍ جامعة لمجتمعٍ مسلمٍ عابر للأوطان يتشاركُ مصيراً مشتركاً. وهذا يعكسُ توقَ باكستان، بعد سنواتٍ من اعتبارها كدولةٍ إرهابيةٍ، إلى عظمةٍ تاريخيةٍ وثقافيةٍ، برزت في قصائدِ الشاعرِ الوطني محمد إقبال. كما أنّ هناك شعبية الرئيس إردوغان بين الباكستانيين.

إذ حظي إردوغان -لسنوات عديدةٍ- بالثناء باعتباره قائداً مسلماً قوياً، ينظِّمُ حملاتٍ لصالحِ المسلمين المضطهدين في أوساط الروهينغا وفي كشمير وفلسطين.

ولم يسأم معجبو أرطغرل، في وسائلِ الإعلامِ الباكستاني، من الإشارةِ إلى التقاطعاتِ التاريخيةِ بين البلدين، ولا سيما "حركة الخلافةِ"، وهي حركةٌ سياسيةٌ من المسلمين البريطانيين-الهنود، سعت إلى إعادةِ الخلافةِ العثمانيةِ بعد سقوطها.

 

 

وقد ذهب الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى حدِّ زيارةِ موقعِ تصويرِ مسلسل أرطغرل في عام 2018. ففي الواقعِ يمثّلُ هذا المسلسلُ رمزاً لجهودِ تركيا الراميةِ إلى تثبيتِ نفسها كقوةٍ ناعمةٍ تتجاوزُ القوةَ الثقافيةَ التي يتمتعُ بها الغربُ. وفي السياقِ ذاته، تفتتح تركيا فروعاً لمعهد يونس إمرَة الخاص بها في البلدانِ الإسلاميةِ بصورةٍ رئيسيةٍ منذ عام 2007، لتعليمِ اللغةِ التركيةِ والترويجِ للثقافةِ التركيةِ في الخارجِ.

ويبقى سلاحها الأقوى من دون شك صادراتها التلفزيونية: إذ أنّ تركيا الآن في المرتبةِ الثانيةِ بعد هوليوود في تصديرِ المسلسلاتِ التلفزيونيةِ. فكيف وصلت إلى هنا؟.

في تركيا، يُسمى المسلسلُ التلفزيوني "ديزي". وهي مسلسلاتٌ من نوعٍ خاصٍ، تُوظِّفُ نمطاً مسرحياً تركياً نموذجياً، إضافةً إلى موسيقى تصويرية وحبكات محلية. والمسلسلُ التركي النموذجي غالباً ما يضمُّ عشرات الأبطال، ويَستخدمُ في كثيرٍ من الأحيانِ الجانبَ الأكثر جاذبية من اسطنبول كخلفيةٍ للمسلسلِ: منظرٌ لمضيقِ البوسفور، وسياراتٌ مثيرةٌ للانتباهِ وشققٌ حديثةٌ في المناطقِ المرغوبةِ. كما أنّ العديد من هذه المسلسلاتِ عبارةٌ عن مسلسلاتٍ طويلةٍ كلاسيكيةٍ أو كوميديا مفعمة بالحيويةِ، تُصوِّرُ حياة ساكني المدينةِ من الطبقاتِ الوسطى العليا.

نوعٌ خاصٌ بحدَّ ذاته - بنكهةٍ تركيةٍ

وخلافاً للمسلسلاتِ الأمريكية، كما يُلاحظُ في كثيرٍ من الأحيانِ، لا تحتفي المسلسلاتُ التركيةُ بالفرديةِ والاختلاطيةِ الجنسية، بل تتّخذُ من القصصِ العائليةِ التقليديةِ والعلاقات الصديقة للإسلام أساساً لها. وقد تمتّعت المسلسلاتُ التلفزيونيةُ بنجاحٍ عالمي لسنواتٍ طويلةٍ، لا سيما في البلقانِ ودول الخليج، ولكن أيضاً في روسيا والصين وكوريا. كما يوجدُ أيضاً سوق كبيرة للمسلسلاتِ التركيةِ في أمريكا الجنوبية، تحتلُّ الصدارةَ فيها تشيلي، تليها المكسيك والأرجنتين.

وفي حين أنه من الممكنِ تفسير الانجذابِ الأمريكي اللاتيني للمسلسلاتِ التركيةِ بأوجهِ التشابهِ الثقافيةِ، فإنّ نجاحَ هذه المسلسلات في الدولِ العربيةِ يُعتقدُ أنه يمثِّلُ توقاً إلى نمطِ حياةٍ أكثر ليبرالية، لكن مع وجودِ أساسٍ في الثقافةِ الإسلاميةِ: الممثلون في المسلسلاتِ التركيةِ يقومون بالتقبيل علانيةً ويشربونَ الكحولَ، بيدَ أنهم يحترمون آباءهم ويصلّونَ في المسجدِ.

 

 

 

وقد بدأ الصعودُ العالمي للتلفزيون التركي في عام 2006 مع إنتاج مسلسل "بين بير غيجيه - ألف ليلة وليلة" (اسمه بالعربية: ويبقى الحبُ)، والذي حقّقَ نجاحاً كبيراً في أكثرَ من 70 دولة وحتى أنه حصلَ على العديدِ من المعجبين في إسرائيل، التي توترت علاقاتها مع تركيا لسنواتٍ عديدةٍ. بيدَ أنّ المسلسلَ الأبرز بلا منازعٍ في الفترةِ الأخيرةِ لا بد أن يكون مسلسل الدراما العثمانية "القرن العظيم (أو حريم السلطان)"، والذي يتتبعُ قصة حبِ السلطان سليمان العظيم والسلطانة خُرَّم (هيام)، وهي جاريةٌ من أصل أوكراني.

ومثل مسلسلِ أرطغرل، فإنّ مسلسلَ حريم السلطان من إنتاجٍ مكلف ومفرط: فقد وُظِّفَ 25 شخصاً للعملِ على الأزياءِ التاريخيةِ فحسب.

تدفقٌ للسياحِ العربِ بتأثيرِ المسلسلاتِ التركيةِ

لفترةٍ من الزمنِ كان الرئيس إردوغان ضدّ مسلسل حريمِ السلطانِ لأنه، بحسب وجهةِ نظره، قد شوّه التاريخَ العثماني - وكنتيجةٍ لذلك، أزالت الخطوطُ الجويةُ التركيةُ، التابعة للدولةِ، مسلسلَ حريم السلطان من جدولِ الترفيه أثناء الرحلةِ. ورغم ذلك، أصبحَ المسلسلُ رمزاً للعثمانيةِ الجديدةِ لحكومةِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ. وتُشيرُ التقديراتُ إلى أنّ عدد مشاهدي المسلسل قد بلغَ نصف مليار شخصٍ في أنحاءِ العالمِ.

بيدَ أنّ المسلسلَ لم يكن مُربِحاً لتركيا من حيث أرقامِ المشاهداتِ فحسب. إذ بينما اكتسب المسلسلُ شعبيةً، ارتفعَ عددُ السياح العرب إلى اسطنبول ارتفاعاً كبيراً، بحيث أنّ وزارة الثقافةِ والسياحةِ التركيةِ بدأت بفرضِ رسومِ بثٍ على الدولِ العربيةِ.

 

مسجد في تركيا – إسطنبول.  Foto Sezayi Erkan/AFP/Getty Images
Türkische TV-Serien bieten Bilder eines exotischen Landes: Mit prächtigen Moscheen und Bildern von einem glitzernden Istanbul mit seinen angesagten Szenevierteln sind sie auch eine Werbung für die Türkei als Urlaubsland. Schauplätze der Serien locken vor allem arabische Touristen an.

 

وفي بعضِ أجزاء العالم العربي، بدأت تظهرُ مقاومةٌ دينية وسياسية لثقافةِ التلفزيون التركي. ففي شباط/فبراير 2020، اتّهمت دارُ الإفتاءِ المصرية (الهيئة الاستشارية الإسلامية الرئيسية التابعة لها والمسؤولة عن إصدار الفتاوي) تركيا برغبتها في استخدامِ "مجال تأثيرها" في الشرقِ الأوسطِ لاستعادةِ السلطةِ على البلدانِ العربيةِ بحكمٍ عثماني جديد.

واعتُبِرَ مسلسلُ أرطغرل دليلاً على هذا. ففي بيانٍ لدارِ الإفتاء، وردت تلميحاتٌ إلى حكومةِ إردوغان بأنّهم: "يصدِّرون للشعوبِ والأممِ بأنهم حملة لواءِ الخلافةِ، والمسؤولون عن نصرةِ المسلمين في العالم وخلاصهم من الاضطهادِ والظلمِ، والساعون لتطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ، ويخفون عن الناس بأنّ محركهم الأساسي في هذه الحملاتِ الاستعماريةِ هو ما يجنيه إردوغان من مكاسب مادية وسياسية ".

وبحلولِ عام 2018، أوقفت مجموعةُ قنوات إم بي سي MBC السعودية عرضَ المسلسلاتِ التركيةِ. بيد أنّ ذلك لا يُظهِرُ أيّ إشارة على وقفِ صعودِ المسلسلاتِ. ووفقاً لقطاع السينما التركي، فإنّ صناعة المسلسلاتِ ستحقق إيراداتٍ تزيد عن مليارِ دولار أمريكي بحلول عام 2023.

 

 

ماريان بريمر

ترجمة يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

 

[embed:render:embedded:node:32238]