ومن اللافت للنظر كذلك دمج نجيب للعديد من الأغاني والأبيات الشعرية التي يكررها الأهالي، وارتبطت بمضمون النص وعبرت عن مشاعر الأبطال ببراعة. أضفت هذه الأغاني المحلية والأبيات الشعرية الطابع اليمنى على النص وأكدت على خصوصية المكان من جهة. ومن جهة أخرى ساعدت على الايحاء بواقعية النص السرد المتخيل. وتعد هذه السمات من أهم وظائف استخدام الأغنية في الرواية كما يرى ثائر زين الدين في كتابه "قارب الأغنيات والمياه المخاتلة [11]".

ولم يكن لجنس أدبيّ أن ينقل لنا هذا الجو المأساويّ والملتبس مثل الأدب القوطيّ والذي يعتمد عنصر التّشويق والموت والحزن والتّهديد الدّائم ليصوّر هذا الجوّ الغامض والمأساويّ الذي يعيشه الشعب اليمنيّ.
سرد ما بعد الحداثة والتاريخ والثورة
يرتبط أدب ما بعد الحداثة أساسًا بالثورة على السرديات الكبرى (Grand Narratives) والحقائق المطلقة التي قامت على احتكار المعرفة والخطاب من قبل سلطة واحدة. ونتج عن ذلك اضطهاد وقمع وتهميش فئات عديدة من المجتمع بثقافتها وأعرافها وتاريخها. فقد ظهر هذا النوع الأدبي كأسلوب أدبي وأيديولوجيا “كرد على أفكار وفلسفة عصر التنوير والتي تمثلت أساسًا في كونية المعرفة وتأكيد سطوة العلم وسيادة الإنسان على الطبيعة”، لينتشر أدب ما بعد الحداثة بصورة واسعة خصوصًا ابتداءً من الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية التي استعانت بشكل أساسي بالعلم ودعمت مركزية العقل. خلفت تلك الحروب وراءها دمارا هائلا للبشر والمنشئات، وهو ما دعا فئة من الكتاب لاستخدام الأدب والفن لمعارضة الاتجاهات السياسية والفكرية السائدة. فقد جاء هذا التيار الأدبي ليعكس توابع تلك الحروب على الحالة النفسية والفكرية في المجتمع ومراجعة كل ما قامت عليه الحضارة الغربية الحديثة، إذ يرى الكثير من النقاد والمؤرخين أن الحضارة الغربية الحديثة هي حضارة قائمة على فلسفة التنوير وليس كحضارة مسيحية.
ومع ذلك يرى العديد من النقاد أنه لا يمكن حصر الأدب ما بعد الحداثي في فترة زمنية بعينها دون غيرها. إذ أننا نجد تلك الملامح الأدبية والاتجاه الفكري أيضا في أعمال أدبية عاش كتابها في فترات زمنية تنتمي بامتياز لعصر الحداثة. فيرى العديد من النقاد أن هناك أعمالا مثل ألف ليلة وليلة ودون كيشوت تعد كأهم مصدر إلهام لأدباء ما بعد الحداثة من حيث أسلوب السرد وبناء العمل الأدبي الذي يتمرد على الهيكل الأدبي الأرسطي التقليدي من جهة ويمحو الحدود الفاصلة بين الأدب والنقد من جهة أخرى. ويتميز أدب ما بعد الحداثة بعدة خصائص أدبية أهمها الوعي بالذات، (reflixivity) أي قدرة الفرد على فحص مشاعره وردود أفعاله، والتناص، تفكيك المركز المتمثل في سلطة مؤسسة وداعمة لمعرفة اجتماعية وتاريخية. الاستمرارية، والتعددية، التشظي والتناقض والكوميديا السوداء [12].
وفي هذا السياق أضع الروايات الثلاث التي ناقشتها هذه الورقة. إذ تطرقت تلك الأعمال الروائية بطريقة فنية وبأسلوب مبدع أيضًا لنقاش محتدم حول روايات التاريخ، وما تم تزييفه من قِبَلِ مَنْ كانت لهم سلطة الكتابة والتي جمعت بين السلطة السياسية والدينية من جهة، واستحضار تواريخ اجتماعية وثقافية ظلت مهمشة من جهة أخرى. فالتّاريخ يلقي بظلاله على أحداث الرّوايات حتى إن لم تتبع الروايات الثلاث سيرة حياة شخصيات تاريخية بعينها.
الرّوايات الثّلاث تغوص في تاريخ اليمن والاستعمار الخارجيّ والمحلّي ويتشابك فيها الدينيّ والسياسيّ والاقتصاديّ
فمن خلال السّرد في هذه الرّوايات الثّلاث يغوص الرّوائيون في تاريخ اليمن والاستعمار الخارجيّ والمحلّي للمعرفة التي تشابك فيها الدينيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وتأثير ذلك على الوضع السياسيّ والاجتماعيّ وجذور العنف والفقر في المجتمع اليمنىّ المعاصر، عبر حبكات روائيّة يتشابك فيها المتخيّل، والأحداث، والشّخصيات التاريخيّة والمعاصرة. فمثلا تعتمد “جوهرة التعْكَر” أحداثًا تاريخيّة لا تسردها بشكل تصاعديّ يجعلها بؤرة العمل، ولكنّها تبثها هنا وهناك، وهذا راجع إلى التخييل الذي يجعل الرّواية كمجاز خطابيٍّ، وإعادة صياغة للتاريخ؛ فهي لا تنقل أحداث التّاريخ كما هي، ولكنّها تسعى إلى نقل وتوظيف رؤية الكاتب لتلك الأحداث التّاريخية التّاريخ بغاية نبش وإعادة موضعة “حقائق” تم تغييبها عادةً في الخطاب الرّسمي.
أمّا في رواية “الحقل المحترق”، التي تُروى بضمير الغائب فتعتبر عملا بحثيٍّا ومعرفيٍّا كبيرا لم يعتمد على حبكة متخيَّلة فقط، بل تشابكت فيها معلومات عن وقائع تاريخيّة عديدة ووصف لثقافات شرقيّة وغربيّة تداخلت مع الحبكة المتخيّلة حول تاريخ “بلدة قدار” المتخيلة كقرية في “السعيدة”. في “الحقل المحترق” تلبّس كذلك المتخيّل بالتّاريخ ليستحضر روايات عامة الشعب وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية التي أغفلتها السجلات الرسمية للتاريخ.
بينما تجسّد رواية “نصف إنسان” تطوّر الواقع اليمنيّ بعد رحيل السّلطة العثمانيّة وما عرفته من عوائق في بناء المجتمع اليمنيّ الجديد، بسبب التّنازع على السلطة السياسيّة وانتشار الفساد والتي صعب تجاوزها وهذا ما صورته قرية “السّاقي” الذي تجرّعت مرارة الخيبة والإخفاق والتّهجير بعدما اصطدم حلم أهلها بالتّطوير في يَمَنٍ يحكمه أحد من أهله. في رواية “نصف إنسان” يعلن نصر عن هدف السّرد بطريقة مباشرة حتّى قبل أن تبدأ كلمات الرّواية نفسها باقتباس للشّاعر الفلسطينيّ محمود درويش يقول “ومصادفة… عاش بعض الرّواة. فقالوا لو انتصر الآخرون على الآخرين لكانت لتاريخنا البشريّ عناوين أخرى”.
في العموم؛ يمكن القول إن الرّوايات الثّلاث تُقدِّم تصويرًا لواقع المجتمع اليمنيّ ونفسية المواطن اليمنيّ المعاصر. وكذلك تُقَدِّم مراجعات ورؤًى نقدية لأحداث الماضي، وتسليط الضّوء على أحداث وشخصيات تاريخيّة يمنيّة وغير يمنيّة لم تلقَ الاهتمام المناسب في الرّواية والخطاب الرّسمي. ولهذا أرى أن هذه الأعمال الروائية يمكن تصنيفها تحت مصطلح أدب ما بعد الحداثة الذي يتحدى روايات سائدة للسلطة السياسية أو الدينية ويسعى لتقدم روايات وتأريخ صغير ظل مهمشًا أو مقموعًا، سواء كان ذلك على يد محتل أجنبي أو سلطة سياسية/دينية قمعية. يسعى هؤلاء الكتاب من خلال أعمالهم ما بعد الحداثية إلى دعم التحرر من الاستبداد بكل أشكاله والمرتكزة عمومًا على احتكار المعرفة وسلطة الخطاب. هدفهم الأساسي هو تحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز التعددية الثقافية لنشر الاستقرار والأمن والسلم المجتمعي الذي يعتبر أشد ما يحتاجه المجتمع اليمنى اليوم. ومع ذلك، واتفاقًا مع أدب ما بعد الحداثة الذي يتسم بالغموض والإرهاق والنهايات المفتوحة، ولا تُقدِّم هذه الأعمال بالضّرورة حلولًا أو فلسفات جديدة واضحة للخروج من الوضع الملتبس في اليمن اليوم.
حقوق النشر: أماني الصيفي
مراجع
• أبوطَالِب، ابراهيم. (أبريل 2013). الرّوَايَة اليَمَنِيَة وإشكَالِياتِهَا”. عمان: مجلة نزوى.
يونيو 2022: “اليمن عرض عام. البنك الدولي في اليمن. https://www.albankaldawli.org/ar/country/yemen/overview
• الحوثي، محمد (أبريل 2013). “مسار الرواية اليمنية الحديثة. عمان: مجلة نزوى.
• العبداللي، هاني. “مواقف الوالي محمود بك نديم السياسية باليمن خلال الفترة 1329-1349 /1911-1930”.2010. مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الآداب والعلوم الإنسانية. ص 3-50.
• باقيس، عبد الحكيم محمد صالح. “ثمانون عاماً من الرواية في اليمن: قراءة في تأريخ تشكل الخطاب الروائي اليمنى وتحولاته”. عدن: دار جامعة عدن للطباعة والنشر.2014.
• الشيباني، ريان. الحقل المحترق عمان: دار خطوط وظلال للنّشر والتّوزيع 2021.
• دماج وليد: جوهرة التعكر. القاهرة: مؤسسة أروقة للترجمة والنشر 2017.
• حسن، إيهاب: “تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي”. ترجمة السيد إمام. البصرة: دار شهريار للنشر والتوزيع. 2020.
• جيرمي هوثرون. مدخل لدراسة الرواية. ترجمه غازي درويش عطية. بغداد: دار الشروق الثقافية 1996.
• زين الدين، ثائر “قارب الأغنيات والمياه المخاتلة: توظيف الأغنية في نماذج من القصة القصيرة والرواية”. دار المحرر الأدبي 2014.
• نصر، نجيب: نصف إنسان. الدوحة: كتارا 2021.
مراجع أجنبية:
• Heywod,Andrew. (2000).Key Concepts In Politics.Basingstoke,England:Palgrave.
• Linda Hutcheon (2002). The Politics of Postmodernism. London: Routlege.
• Watt, I. (1957). The Rise of the Novel: Studies in Defoe, Richardson and Fielding. Berkeley: University of California Press.
الهوامش:
[1] “يونيو. 2022 “اليمن عرض عام البنك الدولي في اليمن.
https://www.albankaldawli.org/ar/country/yemen/overview [2] جيرمي هوثرون. مدخل لدراية الرواية. ترجمه غازي درويش عطية. دار الشروق الثقافية. بغداد. ص.30
[3] Watt, I. (1957). The Rise of the Novel: Studies in Defoe, Richardson and Fielding. Berkeley: University of California Press. P. 21. [4] باقيس، عبد الحكيم محمد صالح. “ثمانون عاماً من الرواية في اليمن: قراءة في تأريخ تشكل الخطاب الروائي اليمنى وتحولاته” دار جامعة عدن للطباعة والنشر.2014.
[5] نفس المصدر.
[6] نفس المصدر ص 10.
[7] أبو طَالِب، ابراهيم. أبريل (ابريل 2013). الرّوَايَة اليَمَنِيَة وإشكَالِياتِهَا”. عمان: مجلة نزوى.
[8] الحوثي، محمد (إبريل 2013). “مسارالرواية اليمنية الحديثة. عمان: مجلة نزوى.
[9] العبداللي، هاني. “مواقف الوالي محمود بك نديم السياسية باليمن خلال الفترة 1911-1930”. 2010. مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الأداب والعلوم الانسانية. ص.27.
[10] Heywod,Andrew. (2000). Key Concepts In Politics.Basingstoke,England:Palgrave. Pp 39-42. [11] زين الدين، ثائر. “قارب الأغنيات والمياه المخاتلة: توظبف الأغنية في نماذج من القصة القصيرة والرواية”. القاهرة: دار المحرر الأدبي. 2014.
[12] حسن، إيهاب.”تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي”. البصرة: دار شهريار للنشر والتوزيع.2020 انظر أيضا: Linda Hutcheon (2002). The Politics of Postmodernism. London: Routlege.