إنتاج "الحقيقة البديلة": عن تعدد الوقائع... والعبث الدامي بالحقيقة

الكاتب السوري علي بهلول: في عصر صناعة الحقائق البديلة ينسى الجمهور حقيقة توحش السلطة، وينشغل بمهمة مناورة وترويض الحقائق البديلة على اختلاف تجلياتها، حفاظاً على مساحة الحياة التي تضيق تحت قدميه كلما توسعت آفاق الواقع.

الكاتبة ، الكاتب: علي بهلول

يأخذ مفهوم الحقيقة قبل الثورة التكنولوجية شكلاً مطابقاً للواقع، وتتبناه وسائل الإعلام وجمهورها، التي تريد تقديم ومعرفة ما رآه الشاهد وسمعه، بعيداً عن التفسيرات التأويلية.

ومع تحول العالم إلى "قرية صغيرة" بفضل الانترنت، حدث انفجار عكسي توسعيّ في حدود الواقع، أدى إلى نشوء مصطلح هجين من النقائض بين "الواقع" و"الفرض".

وحدثت هذه الهجرة الضخمة من قبائل البشر الإلكترونية إلى أراضي "الواقع الافتراضي"، حيث صدمتهم ميزات الأرشفة المقاومة لعث النسيان في عصر السرعة، بقدرتها على حفظ الحقائق المتناقضة والمتعددة بتعدد الوقائع (واقع/واقعي – واقع/افتراضي)، الذي بات بدوره حقيقة لا يمكن نكرانها.

وبعبور الإنسان من الستار الرقمي ومواجهته لتعددية الحقائق خلال الزمن، بما فيها الحقائق التي يتبناها هو نفسه، اكتشف أن ديكتاتورية الواقع التي قبل بها طوعاً لما تمتلكه من سلطة الحقيقة، لم تكن سوى انعكاساً لديكتاتورية متأصلة بالبشر، رفضوا هذه التعددية.

السعي المحموم إذن لم يكن بهدف الوصول إلى الحقيقة أو كشفها، إنما بهدف صناعتها وترويجها، والمضاربة لرفع قيمة أسهمها وتداولها في بورصة وسائل الإعلام.

أخذت هذه المضاربة بعداً احترافياً بعد قيام خبير القياس النفسي، ميشيل كوزينسكي، بابتكار استمارة اعتماداً على البيانات الكبيرة "big data"، لأهداف علمية بغية تحليل سلوكيات الإنسان عبر نشاطه على الإنترنت، هذا قبل أن تستولي عليها السلطات بطريقة أو بأخرى، وفق بحث عن الإعلام الرقمي ودوره في التحكم بالرأي العام.

الحقيقة "حقيقية" لأنها متماهية مع رغبة السلطة، سيؤدي إلى تعميم لـ"حقيقة السلطة"، بوصفها تسلط وتحكم

استخدمت شركات خاصة هذه البيانات بالتعاون مع رجال متنفذين في السلطة للكشف عن مخاوف الناس في الولايات المتحدة الأمريكية، وتفصيل حقائق على مقاس تخوفاتهم، وتوجيهها عبر وسائل الإعلام بدقة لاستهداف كل شريحة وحي ومنزل على حدة. أدت بالنهاية إلى فوز دونالد ترامب بالانتخابات، بناءً على "أخبار كاذبة".

تفاعُلْ الناس مع أخبار كاذبة، ينبغي أن تكون ركيكة كونها مناقضة لـ"بداهة" الحقيقة و"واقعيتها"، فقط لكونها خاطبت هواجسهم، تعطي مؤشرات أكثر قوة بأن الحقائق على تعددها لم تكن موجودة في العالم الخارجي بشكل مستقل عن الذات، بل هي نتاج عقلي بحت، قَلِقْ، ووهمي.

وفي عالم "الحقائق البديلة" الذي أدخلتنا إليه مستشارة ترامب، "كيليان كونواي" دون فيزا، رداً على كذب صريح يتعلق بأعداد الحاضرين لحفل تنصيب الرئيس الجديد، يبدو أننا نتجه نحو حقبة "صيد جائر" للحقائق، التي ستكون بمثابة ظل للسلطة.

عكس العلاقة "الأخلاقية" بين السلطة والحقيقة بحيث تستمد الأخيرة شرعيتها من الأولى؛ بمعنى أن هذه الحقيقة "حقيقية" لأنها متماهية مع رغبة السلطة، سيؤدي إلى حالة تعميم لـ"حقيقة السلطة"، بوصفها تسلط وتحكم.

هذا التماهي الذي تجسد في دول العالم الأول على هيئة "أخبار كاذبة" أو "حقائق بديلة"، سيكون له مرادف أكثر واقعية في الدول ذات الوصول المحدود إلى شبكة الانترنت.

آلية إنتاج "الحقيقة البديلة" التي اعتمدت على صناعة خطر، أو تكريس خطر موجود مسبقاً، كشفت حقيقة السلطة "المتوحشة"، وكشفت من جهة أخرى أثر الخوف في تشكيل حقائق فعالة لدى الجمهور المتلقي.

في دول مثل سوريا وليبيا واليمن وغيرها، حيث الوصول للإنترنت محدود أو مقيد، ستكون الحقائق البديلة أكثر دموية بالمعنى الحرفي، إذ لن تتورع الأنظمة عن الضلوع في مهمة علنية لتشكيل الخطر على الجمهور، الذي سيقبل بها بالرغم من منافاتها لمبادئ العقل الأولى.

ستعتمد الحقيقة التي تروجها أنظمة هذه البلدان على مبدأ مختصر ومكثف، "يتوجب عليّ البقاء في السلطة، لحمايتكم من الخطر الذي قد أشكله عليكم في حال خروجي منها".

"الحقيقة قاتلة" هذا ما يقوله نيتشه، "لذلك يلجأ العقل لإنتاج أوهام تحميه منها، وما يعتبره الناس حقائق ليس إلا أوهام تم نسيانها".

سينسى الجمهور حقيقة توحش السلطة، وسينشغل بمهمة مناورة وترويض الحقائق البديلة على اختلاف تجلياتها، حفاظاً على مساحة الحياة التي تضيق تحت قدميه كلما توسعت آفاق الواقع.

 

علي بهلول

حقوق النشر: openDemocracy 2018