الرواية التونسيّة بعد الثّورة: قراءة في الفضاء الهامشيّ

الناقدة الأدبية وفيقة المصري تعرض ثلاث روايات تونسيّة، ممّا كتب الجيل التونسي الشابّ بعد الثّورة هي "منزل بورقيبة" و"زَندالي" و"انتصاب أسود".

الكاتبة ، الكاتب: وفيقة المصري

كانت الفترة اللاحقة لثورة 14 يناير في تونس بدايةَ صعود أعمال روائيّة جديدة، أهمّ ما يميّزها تناقضها شكلًا ومضمونًا مع أنماط الكتابة السّلطوية السائدة.[1] إذ لطالما لجأت الأعمال الروائيّة السياسيّة إلى الالتفاف على السّلطة بأساليب فنّية مواربة، أو تجنّبت التطرّق إلى السياسة كليًّا، حتّى تبدو على وفاق مُصطنع مع أنظمة الرّقابة القمعيّة. لكنّ محاولات تحرير الرواية التّونسية من القبضة السياسيّة المستبدّة ظاهرة أدبيّة تسترعي الدّراسة والنّقد، بصرف النظر عن كياسة تلك الأعمال الروائيّة الجديدة أو رداءتها الفنّية، لأنَّ ظهورها بحدّ ذاته مؤشّر جادّ على الاستفادة من حقّ حريّة التعبير، وتنوّع أساليب الاستجابة الفكريّة والفنّية لواقع ما بعد الثّورة التونسيّة.

في دراسة بعنوان «اتّجاهات جديدة في الرواية التونسيّة»، يناقش الكاتب التونسيّ عامر بوعزّة «الطّفرة الكمّية الهائلة» التي شهدها قطاع النشر بعد سقوط نظام بن علي، لاسيّما الكتب التي استجابت إلى أحداث الثورة ونتائجها. أمّا على الصّعيد الروائي، فينتقد عزّة الأعمال الروائيّة التي أنجزها معتقلون سياسيّون سابقون أو نشطاء في أحزاب معارضة، لتتباهى دور النّشر لاحقًا بتسويقها تحت مُسمّى «رواية سياسيّة» أو «أدب السّجون»، رغم افتقارها للعناصر الفنّية، وانخراطها المباشر في الحقل السياسيّ.[2]

تختلف الآراء حول العناصر الأساسيّة التي تشكّل ما يُعرف بـ«الرّواية السياسيّة»، إذ يرى البعض أنّها تتمحور حول قضايا سياسيّة معيّنة، تتحرّك الشخصيّات في حيّزها السردّي تعبيرًا عن الآراء السياسيّة المؤيّدة أو المعارضة، تصريحًا أو تلميحًا، مع الالتزام بالعناصر الأدبية والفنّية، حتى لا تتحوّل الرواية إلى منشور سياسي. من جهة أخرى، يرفض البعض حصر المواضيع التي يمكن أن تتطرّق لها الرواية السياسيّة بالحروب والسّجون وأحزاب المعارضة، ولذا يمكن للرواية أن تناقش قضايا اجتماعية متعدّدة في خلفية الأحداث السياسيّة الراهنة، دون أن يؤثّر ذلك على العناصر الفنّية والتقنيات السّردية.[3] كما أشار بعض النّقاد إلى الفرق بين «الرواية السياسيّة» و«التّخييل السياسيّ»؛ بحيث تكون السابقة معنيّة بالقضايا الراهنة، فيما تستمدّ اللاحقة أفكارها من التاريخ والتراث الشعبيّ، باستخدام أساليب فنّية مبتكرة؛ كالرمز والمحاكاة الساخرة والتّناص والمفارقة وغيرها، بالإضافة إلى التّمتيع والتّشويق كعنصريْن أساسييْن في روايات التخييل السياسيّ.[4]

فيما يظلّ الجدل قائمًا حول أهمية استقلال أدوات الأدب عن أدوات السياسة، وضرورة الامتناع عن تَسْييس الرّاوية بشكل مباشر، تذهب بعض المدارس النّقدية الحداثيّة المُتأثّرة بالماركسيّة والفرويدية والنّسويّة، إلى أنّ الأدب مُسيَّس أصلًا وإن لم يتطرّق بشكل صريح للمواضيع السياسيّة، لأنّ «اللّاوعي السياسيّ»[5] حاضرٌ في مرحلة الكتابة، كما في مرحلتي القراءة والتّأويل.

وهناك من يُجمع -قبل أيّ رأي آخر- على أنّ تحرّر الأدب من قبضة السّلطة السياسيّة ضروريّ حتّى يتسنّى له -كغيره من أشكال حريّة التعبير- أن يبثّ تأثيره في ثقافة المجتمع.[6] حينئذٍ، يضحي الحديث عن خَوض الأدب غمار السياسة من عدمه منوطًا بإرادة الكاتبة أو الكاتب فحسب، لا خوفًا من أجهزة السّلطة القمعيّة، ومنظومة الرّقابة والعقاب.

بالعودة إلى التجربة الروائيّة التونسيّة، لا غرو أنّ بعض الرّوايات المثيرة للجدل لم تستطع شقّ طريقها إلى عالم النّشر في تونس إلّا بعد الثّورة، مثل رواية «حارة السُّفهاء» الصادرة عام 2013، للكاتب والمترجم التونسيّ علي مصباح، والتي بقيت حبيسة الأدراج لعشر سنوات، دون أن يُقدم على نشرها.[7] تقدّم الرواية تأريخًا لنظام الحكم السياسي الحديث في تونس، وتحديدًا فترة انقلاب الرئيس التونسيّ السابق بن علي على رئيس الجمهوريّة التونسيّة الأول الحبيب بورقيبة.

بأسلوب حاذق وساخر، يوثّق مصباحُ مراحلَ ولادة وموت الزّعيم الديكتاتوريّ المتكرّرة، ويفضح من خلالها الشّعب متورّطًا في السّفاهة عينها مرّة تلو الأخرى؛ شاهدًا وداعمًا لانتقال الديكتاتور من هامش الدّولة إلى سدّة الحكم. وسرعان ما يحطّم الديكتاتور آمال الشعب، بعد أن صدّقوا أنّ همومه وهمومهم واحدة؛ أنّه واحد منهم ومثلهم جميعًا: «من التّحت تسلّلت، انسَربت وتَحلّزَنت فطلعت وارتفعت وارتقيت، فوصلت ولم تقدروا! لستُ مثلكم، ولا أنا منكم. غادرتكم. مسحتُ يديّ وعرضي منكم. انتهيت منكم وسأُنهيكم إن شاء الله!».[8]

يحضر الفضاء الهامشيّ بقوّة في المشهد الروائي التونسيّ بعد الثّورة؛ فالهامش الذي ينبثق منه الزعيم الديكتاتوريّ، بل ويصعد على ظهره وصولًا إلى السّلطة، هو الهامش ذاته الذي يُشعل الثورة على الأنظمة الديكتاتوريّة. ومن الهامش ذاته، تخرج أصوات تونسيّة جديدة إلى ساحة الأدب الروائي لتكتب الهامش الذي ظلّ يتّسع حتى طال المركز، وأثِّر في قراراته وتوجّهاته.

تتنوّع القضايا التي ناقشتها الرواية التونسيّة من منظور هامشيّ. مثلًا، كتب البعض عن قضية انجراف الشّباب إلى التنظيمات الإرهابية المتطرّفة، كما في رواية «غِلالات بين أنامل غليظة»، الصادرة عام 2014، حيث عالجت الكاتبة التونسيّة عفيفة سعودي السّميطي قضيّة العنف والإرهاب من موقع النساء الهامشيّ، لا من منظور الرجال باعتبارهم المعنيّين الوحيدين بهذه القضية. وتصدّرت قضايا الأحياء التونسيّة الشعبيّة الفقيرة والمُهمّشة متنَ الأعمال الروائية، كقضايا إدمان المخدِّرات، والحَرقة»،[9] أي الهجرة غير الشرعية «بقوارب الموت»، والبطالة، والانتحار، والاغتصاب، وعوالم الفساد السياسيّ، كما في رواية «المصبّ»، الصادرة عام 2016 للكاتبة التونسية شادية القاسمي، ورواية «كوابيس الجنّة»، الصادرة عام 2020 للكاتب التّونسي فؤاد خليفة شابير.

كتب بعض الروائيّين والروائيّات من الجيل الشابّ عن الثّورة أيضًا، وأخذت قضاياها تتداخل مع همومهم الشخصيّة وعُقدهم النّفسيّة، وتتقاطع مع مشاكلهم العائليّة، وتقتحم أضيق دوائرهم الاجتماعيّة، فشقّت طريقها إلى كتاباتهم بوعي منهم أو دون وعي. لم يكتب هؤلاء «الرواية السياسيّة» مثلما كتبتها النّخبة المُثقّفة من الجيل السياسيّ المُخضرَم، بل كتبوا عن فوضى الثّورة الخلّاقة من موقع الهامش، بأصوات مُغايرة وجريئة ومُتعثِّرة.

أستعرض في هذا المقال ثلاث روايات تونسيّة، ممّا كتب الجيل التونسي الشابّ بعد الثّورة، لأطرح من خلالها الأسئلة التالية: ما هي التوجّهات السّردية والأساليب الفنّية التي وظّفتها الروايات الجديدة؟ وكيف يحتلّ المُهمَّشون والمُهمَّشات فضاء المدينة؟ وكيف يكتب الهامشُ المتنَ الروائي؟ وكيف ينعكس «اللاوعي السياسيّ» في كلام الشخصيات وأفعالها؟ وإلى أيّ حدّ ترتبط الأحداث السياسيّة بالمصائر الشخصيّة؟ واليوم، والأصوات تتعالى في الشّارع التونسيّ خشية العودة إلى خَنق الكلمة الحرّة، كيف تَرجم الجيل الشابّ الحريّةَ في الرواية التونسيّة؟

قبل الثورة

لعلّ ما يميّز رواية «منزل بورقيبة» الصادرة عام 2018، للكاتبة والشّاعرة والمترجمة التونسيّة إيناس العبّاسي، هو قدرتها على احترام التنوّع الذي تتمتّع به الشخصيّات النسائيّة في الرواية، واحتواء تناقضاتها، برؤىً نسويّة ثاقبة، ولغة سرديّة رزينة ومُتقنة، دون أن تبذل الكاتبة جهدًا في إخفاء شاعريّتها.

رواية «منزل بورقيبة»
«منزل بورقيبة» ليست روايةً كاملة الأوصاف، بمعالم وهويّة واضحتين، ولكن يمكن القول إنّ صاحبة أسرار الريح أحسن كتاب شعري في تونس في العام 2004.

بين العمق والسّذاجة، التمرّد والاستكانة، القوّة والهَشاشة، الطّيبة والخبث، الاستسلام للواقع والرغبة في التغيير والاستقلال، وبين التمسّك بالروابط العائليّة والهجرة والتّخلي عن كلّ مَن وما يعيق التقدّم والتحرّر؛ تحيك الكاتبة سرديّة ناضجة ومُلمّة بمراحل ثورة النساء التونسيّات، انطلاقًا من جيل الجدّات في فترة ما بعد الاستقلال، مرورًا بجيل الأمهات في فترة الثمانينيّات والتسعينيّات، ووصولًا إلى جيل النساء الشّابات بالتزامن مع أحداث ثورة 14 يناير. يأتي ذلك مُغلّفًا في حبكة روائية بسيطة تتلخّص في الصّراع القائم بين الشخصيتيْن «جيهان» وزوجة أبيها «صوفيا» على منزل العائلة؛ الإرث الذي خلّفه الأب بعد سنوات طويلة من الهجران والغياب.

الرواية -كما يمكن أن يُخمّن البعض من عنوانها- ليست عن الزعيم الحبيب بورقيبة؛ إذ تزيل الصفحات الأولى ذلك اللّبس بعد أن تأخذنا مباشرةً إلى مدينة «منزل بورقيبة»، الواقعة في ولاية بنزرت شمال تونس، حيث تعود الشخصية الرئيسة جيهان من العاصمة تونس إليها لحضور جنازة أبيها. لكنّ الإشارات الدالّة إلى الزعيم بورقيبة وغيرها من الأحداث السياسيّة السابقة والرّاهنة لا تغيب عن الرواية تمامًا، بل تنسج الكاتبة خيوطها ببراعة، لتتداخل مع المتن الحكائيّ وهوامشه بأسلوب فنّي مُقتصد، لا حشو فيه ولا إقحام.

نلاحظ من الصفحات الأولى للرواية أنّ الكاتبة لا تُهمّش الجانب السياسيّ على حساب الشخصّي، حتى وإن بدت الشخصيّات منهمكةً في التفكير بشؤونها العائلية، فالأحداث السياسيّة دائمًا ما تجد طريقها إلى السّرد بوعي من الشخصيّات أو دون وعي منها. مثلًا، يمثّل خبر وفاة والد جيهان الحدث الرئيسي الذي ترى الشخصيّة من خلاله ما يحدث من تغييرات في المدينة، إذ تصف انصراف الناس إلى أشغالهم صباحًا دون أن يلتفتوا إلى اختفاء السّاعة من فوق النّصب الإسمنتي التذكاري لتحوّل السابع من نوفمبر: «لا أحد من المُبكّرين صبيحة موت أبي، انتبه لغياب الساعة».[10]

تضيف الكاتبة ملاحظة في هامش الصفحة توضّح من خلالها أنّ النّصب الإسمنتي تابع لحركة انقلاب الرئيس بن علي على الرئيس بورقيبة في السابع من تشرين الثاني عام 1987. ليس انتباه جيهان إلى اختفاء الساعة صباح أحد أيام كانون الأول الباردة الموافق لوفاة والدها محض مصادفة، بل يأتي متزامنًا مع توتّر الأوضاع السياسية وإعلان حالة الطوارىء في تونس عام 2010:

«ما لاح في البداية كردّة فعل غاضبة ورعناء أنتج حركة أكبر خلخلت نظام الأشياء. وإعلان حالة الطوارىء القُصوى في البلاد اعتراف صريح بأنّ الأمور لن تعود كما كانت. استرجعت المشاهد التي نقلتها القناة الوطنية في نشرة استثنائية زار فيها رئيس البلاد الشّاب الذي أحرق نفسه. شاهدت مثل جميع التونسيّين الجسد اليافع ملفوفًا بأكمله مثل مومياء ناصعة البيضاء وبالكاد استطعتُ تمييز ثقبين أسودين احتلّا مكان العينين. تساءلت إن كان الشاب قادرًا على الاستماع إلى وعود الرئيس. كان مشهدًا سرياليًا، الجسد المستسلم على السرير والمكلّل بالبياض قبالة جسد رئيسنا الواقف باعتداد والمتمتّع بصحّة جيّدة والمكلّل ببدلة رسمية داكنة السواد».[11]

احترق الجسد، اختفت السّاعة، توقّف النّظام، ماتَ الأب/ الزّوج، وهرب رئيس البلاد. كل هذه الأحداث تتراكم وتتداخل لتنذر بأنّ الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه. وبعيدًا عن أحداث الثورة في مركز العاصمة تونس، تنقل لنا الرواية أحداث الثورة في مدينة صغيرة شمال تونس، ومشاهد الفوضى وتجمّعات الشباب وإشعال النار في الأحياء القريبة من منزل عمّة جيهان و منزل زوجة أبيها صوفيا.

يتّخذ السرد منحىً ثوريًا داخليًا حينما تأخذ ذكريات الماضي بالتّداعي. تسرد صوفيا حكاية تمرّدها وهجرتها واستقلالها وخيباتها المتكرّرة بسبب إهمال والد جيهان، بينما تشرع جيهان في سرد حكايات نساء العائلة المُهمّشات والمتمرّدات، جدّتها وعمّتها وأمّها، واقتفاء أثر عمّها المهاجر والمفقود في أمريكا، وسبر أغوار علاقتها مع والدها الذي تخلّى عنها في حياته قبل مماته.

بعد رحلة التحرّر من عبء الأب الغائب، تقرّر جيهان التّخلي عن إرثه (المنزل). وعبر الطريق السريع الذي عادت منه إلى مدينتها، تولّي ظهرها للماضي لتعود في النهاية إلى العاصمة تونس. غير أنّها لم تعد كما جاءت هذه المرة؛ كانت رحلة العودة بمثابة ثورة صغيرة على ذاتها وعلى ماضيها وتفكّك عائلتها، بالتّوازي مع أحداث الثورة الكبرى المشتعلة في البلاد:

«كان الطريق السريع نحو العاصمة خاليًا (..) قدت سيّارتي وحدي معزولة عن العالم والبشر. كان الخوف يدفعني للإسراع (..) كنت متلهّفة للعودة إلى الحياة التي أسّستها بعيدًا عن جذوري الأولى (..) أخيرًا تحرّرت وفهمت أنّني بذرة قُذفت في تراب هذا العالم وعليّّ أن أواصل شقّ طريقي وحدي نحو السماء».[12]

تفتح الحريّة ذراعيها لجيهان أخيرًا، أليست هذه نهايةً ورديّة؟ لولا الأخبار التي تستمع إليها عبر الإذاعة في طريق عودتها: خبر إحراق قبر المفكّر التونسي الطاهر الحدّاد،[13] وخبر إحراق أب لابنته بعد أن رآها تمشي مع زميلها في الشارع، وخبر شاب أحرق قدمي أمّه وأبيه لأنه حاول إيقاظهما لصلاة الفجر أكثر من مرّة دون أن يستجيبا له. تأتي قصص الحرق كلّها مجتمعةً في نهاية الرواية تحذيرًا من رَمْسنة الثّورة والحريّة، وتذكيرًا بشرارة النّار الأولى التي أشعلت الثورة في جسد البلاد. إذا كانت نار البوعزيزي التي أحرقته هي نار الفقر والذلّ، فضحايا القصص الأخرى يحترقون بنار التّهميش والتّضليل والتّرهيب.

هذه رواية عن ثورة الذّات على ذاتها أيضًا، والوعي بضرورة التحرّر من الداخل، قبل الثّورة على النظام.

ليلة الثّورة

ما الذي حدث ليلة 14 يناير عام 2011؟ يعود الكاتب والشاعر التونسيّ أمين الغزي[14] في رواية «زَندالي» الصّادرة عام 2020، ليسرد ما حدث تلك الليلة عبر أصوات مجموعة من المُهمَّشين، في شوارع أحياء مدينة سوسة الساحليّة شرق تونس.

يحمل عنوان الرواية دلالات ثوريّة ترتبط بثقافة الشّارع والفئات الشعبيّة على وجه الخصوص؛ فالزّندالي هو «أحد فروع موسيقى المزود الشعبية في تونس. الاسم مشتقّ من لفظ «زنداله» وهو سجن في ضاحية «باردو» في تونس العاصمة. جاء الاسم من تبعات التأثير العثماني على البلاد التونسية إثر حكم البايات،[15] فكلمة زندان التركية تعني السِّجن».[16] هذه الموسيقى التي خرجت من ظلام السجون التونسيّة، والتي ظلّت ممنوعة حتى تسعينيات القرن الماضي، تحوّلت كأنواع موسيقى المزود[17] الشعبية الأخرى، إلى رقصة شوارعية تشطحها[18] الفئات الشعبية بأجواء احتفاليّة لا تخلو من السُّكر والعربدة والتّسييب أيضًا.[19] 

رواية "زندالي".. ماذا حدث في ليلة الرابع عشر من جانفي عام 2011 في تونس؟
رواية "زندالي" تتناول ما عرفته تونس من تحول في الرابع عشر من كانون الثاني يناير من عام 2011.

على إيقاع الزّندالي، يكتب الغزّي سرديّة شعبيّة شذريّة لليلة «تاريخيّة»، يراوح فيها بين الفصيحة البسيطة (صوت الّراوي العليم)، والدّارجة التونسية التي يستعملها في الحوار بين الشخصيّات، وكأنّ أصواتها زحفت من الشّارع إلى صفحات الرواية مباشرةً؛ بالتلقائية والبساطة ذاتها دون «فَلترة». وبصرف النظر عن بعض التشبيهات المكرورة، والاستعارت المُقحمة في السّرد على لسان الراوي، يبرع الكاتب في تصوير الشّارع التونسي ليلة الثورة؛ كرنفالًا شعبيًّا يضجّ بالبهجة والهتاف والرقص والغناء والصُّراخ والعنف والفوضى، وعملّيات السّطو على المتاجر والبيوت ومحاولات إيقافها:

«وقفت المجموعات الشعبيّة للرقص على أنقاض نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولحماية أحياء هاجمها الخوف من المجهول بكل الوسائل: بالحجارة، الهراوات، الخناجر، الحناجر، الأغاني، الهواتف، العدد، الوطنيّة (..)».[20]

هذه ثورة الرجال المدفوعين بحمق وحماسة نحو الحريّة المزعومة إذًا؛ الباندي، والبوهالي والزّوالي، والزوفري[21] وغيرهم من الفئات الشعبيّة الفقيرة. جميعها شخصيّات متناسخة في شقائها وبؤسها كأنّها شخصية واحدة، لولا أنّ الكاتب قسّمها وأعطاها ألقابًا ساخرة، مثل شخصيّة البكما وديبلوسكي ومسيا الدوّ وغيرهم.

هذه ثورة الشّباب؛ حقيقة يدركها «نوفل»: «الوضع بائس تمامًا يا بابا، والعمر يمرّ بسرعة ليرفس، دون رحمة، أحلام جيل كامل»،[22] فيما ينكرها الوالد ويلوم تقاعس الشباب وتواكلهم، لأنّ «البلاد لاباس»[23] في رأيه، ويدعو ابنه ألّا يقارن نفسه بأبناء المناطق الدّاخلية،[24] لأنه يعيش في مدينة ساحليّة، سياحيّة، وفرص العمل فيها مُتاحة.

هذه ثورة كل البلاد، لأنّ «كلّ البلاد ملعونة» كما يرى «رحمان»، وخاصة أولئك الفقراء من أبناء الدّواخل.[25] وبحقد طبقيّ واعٍ يسرد أحداث قمع النظام للثوّار في إحدى الليالي، وعبثيّة موت الشباب في الأحياء الفقيرة باسم الثورة؛ الثّورة ذاتها التي يتفاخر الأغنياء والمُثقّفون بنتائجها بعد ذلك:

«تالة[26] التي جئت منها صغيرًا ابنة الملاعين. لما سمعت بأحداث القتل هناك (..) تردّدت داخلي الرصاصات التي أطلقت في أحياء أحفظها كخطوط يدي. كانت ستصيبني لو بقيت هناك. ثم ماذا؟ لا شيء، شارع باسمي، ومفترق تتوسّطه عجلة أو سنبلة من رخام رخيص (..) من أجل ماذا؟ من أجل من؟ من أجل عيون قرطاج،[27] وسكّانها المترفين؟ بصقت عليهم واحدًا واحدًا».[28]

هذه ثورة المُهمّشين إذًا، باستثناء صوت هامشيّ واحد ضيّعه الغزّي بين أصوات الرّجال الهادرة وفي أجواء الرقص الشوارعيّ الصّاخب، ثمّ عاد فأقحمه كيفما اتّفق: صوت «لبنى» الشابّة القوية التي تشتم رجال الأمن، و«حياة» زوجة الشرطيّ السّاذجة التي تحاول انقاذ زوجها من الثوّار بمسدّس لا تعرف استعماله، والعروس المتطلّبة «زوجة الباندي» الذي يهرب من الدّار بسببها، مُسقطًا همومه الشخصيّة على الواقع السياسي للبلاد: «أكيد بن علي ذاته كان تحت ضغط زوجته وأصهاره (..) الثورة، ألم تتسبّب فيها امرأة لمّا صفعت محمد بوعزيزي؟».[29]

عبر فضاء زاخر بأصوات رجوليّة، تتحرّك في اتّجاهات مضادّة، تتصادم وتتداخل، بلا قيم أخلاقية محدّدة ودون إطار مرجعيّ واضح سوى الهامش الذي انبثقت منه، يُنشىء الكاتب سرديّة شذريّة لأحداث ليلة 14 يناير، تقودها مجموعة ذات قيم وطنيّة، تؤمن بالعدالة والحريّة بشيء من الحمق والسّذاجة، ومجموعة هائمة على وجهها، مشتّتة بلا هدف واضح، وأخرى تتحرّك تبعًا للمصالح الشخصيّة، مأخوذةً بالفوضى وشرّ القطيع.

هكذا يحتفي الغزّي بازدواجية قيم الثورة، وتناقض توجّهاتها، بشخصيّات كاريكاتوريّة هزليّة، يصير الضحك والسخرية فيها قناعًا كرنفاليًا من أقنعة باختين، يُخفي وراءه خوف الشّعب المسكين من غموض المصير.

بعد مرور عقد على الثورة، يعود الغزّي إلى تلك الليلة ليكتب الثورة التونسيّة تمامًا كما قيل عنها؛ بلا رأس واحد و بلا زعيم محدّد، ثورة الديمقراطيّة «الديغاجيّة»[30] كما يحلو لمسيّا الدو، شخصية أستاذ التاريخ والجغرافيا في الرواية، أن يُسمّيها.

بعد الثّورة

ماذا بعد انطفاء الثّورة في جسد الشّعب، وتلاشي بريق الحريّة من العينين؟ يختار الكاتب والأخصّائي النفسيّ التونسيّ أيمن الدبوسي في روايته الأولى «انتصاب أسود»، الصادرة عام 2016، طريقة أخرى للإجابة على ذلك السؤال، تتلخّص بالعبارة التي يفتتح بها الرواية :«ما من انتصابٍ إلّا ويعقبه ارتخاء».

تُمهّد عتبات النص للخطاب الإباحي الذي يبني الكاتب الرواية على أساسه؛ فالرواية لا تتعاطى مع الجنس باعتباره تابوهًا مجتمعيًا على الإطلاق، ولا يوظّفه الكاتب كمشاهد واقعيّة أو إيروسيّة تستدعيها الحبكة الروائية فحسب، وإنّما يحوّلها إلى بؤرة سرديّة، يُبيح عبرها للشخصيّات أن تندفع بقوّة الشهوة الجنسيّة وتهمد في غيابها.

 ”إنتصاب أسود“ أو عندما تتحوّل الرّواية البورنوغرافيّة في تونس إلى سلاح ضدّ الرّجعية
“ما من إنتصاب إلاّ و يعقُبه إرتخاء’، يمتدّ النّفسُ من هناك طويلا بدون أيّ إنقطاع، في شهقةٍ واحدة، حتّى ‘ تشرق الشّمس من القيْئ’ فينصهر زمن القراءة لذّة لا حدود لها. هذا النّص المُهيب من ضمن أكثر النّصوص يمكن أن تصادف أي قارئ لتفاجئه بفحشها و إسرافها، و يمكن أن يُعتًبر نقطة إنطلاق جديدة للأدب الأيروسيّ العربي خاصّة و العالمي عموما.

تتألف الرواية من عدّة قصص قائمة بحدّ ذاتها لولا الصوت السردّي الذي يجمع بينها؛ وهو صوت شاب تونسيّ يحمل اسم الكاتب نفسه: أيمن الدبوسي، «النّفساني» الذي يعمل في مستشفى الرّازي، ممّا يدخلها في حيّز السيرة الروائيّة كذلك. وعلى ما يبدو أنَّ الكاتب مصمّم منذ البداية على كشف المخبوء، وفضح المستور؛ فهو لا يرضى أن يكون كاتبًا مختبئًا وراء شخصية تحمل اسمًا مُزيّفًا، كما لا يتوانى عن اقتحام الفضاءات الهامشيّة التي تعبّر عن كل ما هو مرضي، مُعيب، ومخُجل في نظر المجتمع

ينخرط «أيمن» في الأشهر الأولى بعد الثورة مع شخصياته في أجواء احتفالية بوهيمية صاخبة، ولا يغفل عن المباهاة حدّ النرجسية بالشباب الذين أسقطوا الديكتاتور، ونالوا حريّتهم بأيديهم، فاستحقّوا أيّما استحقاق أن يقولوا ما يحلو لهم، ويفعلوا ما تمليه عليه رغباتهم، مُتحرّرين من السّلطة السياسية والمجتمعية والأخلاقيّة على حدّ سواء:

«أثرنا صخبًا كبيرًا برقصنا وغنائنا. كنا قرابة الستة عشر شابًا بين فتى وفتاة، إضافة إلى أربعة طلبة أجانب، جاؤوا ليعيشوا «أجواء الثورة». بيتنا تحوّل إلى محطة للكثير من الطلبة والناشطين اليساريين الأجانب الذين تدفّقوا على بلدنا في الأشهر الأولى التي تلت ثورة 14 جانفي. كان الأمر وكأن البلد يحتضن ألعابًا أولمبية، أو شيئًا أعظم: إنها ثورة، ثورة. لاحظت أننا صرنا نسكر كل يوم تقريبًا، وكنت أتساءل عن مدى قدرتنا على المحافظة على هذا الإيقاع الفَرِح. الناس في الشارع كانوا كذلك سعداء وفخورين. كنت تميّز ذلك على الوجوه بيسر، خاصةً في الفترة الأولى التي تلت هروب الديكتاتور. السياسة كانت معطّلة؛ لم تكن هناك شرعيّة لأحد. لم تعد هناك شرطة. المظاهرات والاعتصامات في كل مكان. بعض الطرقات كانت مقطوعة. أكوام الزبالة في الشارع بلغت أحجامًا لا يمكن تخيّلها. ورغم أنّ البلد كان في حالة من الفوضى العارمة، فإنه لم يكن أروع من تلك الأيام».[31]

أضحى هامش المدينة متنًا، فكل ما كان مزويًا متواريًا خرج إلى السطح، وأمست اللاشرعيّة والفوضى مركزًا ونظامًا بديلًا للبلاد. يمجّد الدبوسي هنا كل ما هو مخبوء؛ المزابل والقيء والجنس، ويترك الشخصيّات على سجيّتها، تتلذّذ بشهواتها في جو من الحرية المزعومة، بلا أي شعور بالمسؤولية، ودون أن تفقد إحساسها بالعظمة والفخر في الوقت ذاته، فالثورة فرصة منقطعة النظير لإعلاء القيم الوطنيّة وحتى القوميّة العربية، لاسيّما أمام النشطاء الأوروبيين الذين لا يترك أيمن فرصة للسخرية منهم كلّما أقحموا أنفسهم في مشهد الثورة.

لكن، سرعان ما يقوّض الكاتب سردية الفرح تلك في النصف الآخر من الرواية، لينهار الوحش الجنسيّ الهائج داخل شخصية أيمن، ويتركه غارقًا في إحباطه وعجزه. يأتي ذلك كلّه بالتزامن مع الأزمة السياسية التي دخلت فيها تونس بعد الثورة عام 2013، واغتيال عدد من السياسيين مثل شكري بلعيد:[32] 

«كنّا دائمًا متخلفين بخطوة عمّا يجب أن ندرك ونفعل. ها إن الثورة التي لطالما قالوا عنها إنها «بلا رأس» تكتشف أن «بلعيد» كان رأسها وروحها الجسور، وقد خرج يشيّعه إلى مرقده مليون شخص أو يزيد، لم يكونوا يعرفون بأنهم فقدوا ذلك اليوم رأس ثورتهم».[33]

في غياب المثل الأعلى، والشّعور بالعجز عن إنقاذ الثورة، لا ينفكّ «أيمن» يغذّي حلمه الأمريكي بالحرية، حيث تحتلّ أمريكا الجزء الأكبر من الرواية، ولا يبدو عازمًا على الهجرة إليها بقدر ما تستولي عليه فكرة العثور على أمريكا؛ التصوّر الأقرب لديه عن العظمة والحريّة. وعليه، يخصّص الكاتب النصف الآخر من الرواية للرسائل التي يتبادلها أيمن مع حبيبته «علياء» المهاجرة إلى أمريكا. تكشف هذه الرسائل عن مواضع الضعف والهشاشة عنده، بحيث لا يعود مستأثرًا بالصوت السرديّ وحده، بل يفسح المجال أمام صوت علياء القويّة، الواثقة التي تعرف طريقها جيدًا، فتقنعه بضرورة الهجرة إنقاذًا لثورة الشباب:

«لقد قالت لي تلك الليلة كلامًا عظيمًا هزّني. قالت لي إنّ أعظم ما قدّمته الثورة للتونسيين، هي أنّها أتاحت الفرصة أمام ثلاثين ألف مُهمّش لاجتياز الحدود خلسةً، والعبور نحو أوروبا في الأسابيع الأولى التي تلت سقوط النظام. قالت لي إن هؤلاء المُفلتين -على من مات منهم قبل بلوغ الضفة الأخرى من المتوسّط- هم من فهموا الثورة الفهم الحقيقي (..) تعلّموا أن يفرّوا ولا ينتظروا شيئًا من أحد. إنهم يفرّون من الفقر، يفرّون من سوء الرعاية الصحيّة، يفرّون من الاحتقار، يفرّون من القمع والشرطة، يفرّون من أنفسهم (..) وها هم اليوم يفرّون من الثورة، قبل أن تكشّر عن أنيابها وتحاصرهم وتفترسهم».[34]

يكثّف الدبوسي ببراعة هنا ثنائيّةَ الثورة التونسيّة والهجرة، فبدل أن تكون الثورة أملًا للمُهمّشين، صارت بابًا لرحيلهم. كلّ ذلك يتناقض تمامًا مع رَمْسنة صورة الثورة كما رسمها الإعلام في العالم العربي والغربي عن تونس، إذ إنّ كثيرًا من الشباب لم يؤمنوا بقدرة الثّورة على تحقيق أحلامهم إبان حدوثها، وقبل أن يتبيّن لهم خيرها من شرّها.

وفيما يُغيّب الكاتب الشخصيات النسائيّة القوية والمؤثّرة عن حياة أيمن في الرواية، ويلوم ذلك على سوء حظّه، فإنه ينبىء كذلك عن قصور حقيقي في إدراكه لمفهوم الثورة وأبعاد الحرية. إمّا تشييء النساء وحصرهنّ في النفعيّة وإشباع اللذّات، أو تجسيدهنّ في أفكار مثاليّة بعيدة المنال، تمامًا مثل شخصيّة علياء التي يقدّسها أيمن مثل الحرية، عاجزًا عن إبقائها أو حتى اللحاق بها، لا تصله إلا عبر رسائل إمبريالية حول ما يمكن أن تكون الحريّة عليه في أمريكا.

بأسلوب حاذق لا يخلو من الحِيل والألاعيب النفسيّة، يكتب الدبوسي الرواية وكأنّها جلسة اعتراف مُطوّلة أمام مُعالج نفسيّ، يفضح عبر خطابها الإباحي الكثير مما يقصيه المجتمع ويحشره في الفضاء الهامشيّ، ليتحوّل بذلك إلى أفكار مكبوتة في اللاوعي، لا تختلف كثيرًا عن حالة الكبت السياسيّ. إذ يُرجع فوكو الرغبة العارمة في الاعتراف إلى علاقة الفرد بالسّلطة في الدرجة الأولى، فالسّلطة تستخدم الاعتراف أداة لمعرفة «الحقيقة»، وبالتالي إدانة المُتّهم أو المتّهمة، خاصّة أنّ السّلطة الديكتاتوريّة لا تتوانى عن استعمال العنف عند سحبها هذه الاعترافات. من هنا، تضحي الرّغبة العارمة في اعتراف الأفراد وكشفهم للمكبوت من تلقاء أنفسهم ردّة فعل أوليّة إزاء السّلطة القمعيّة، ثمّ يصير الاعتراف بما لا تودّ السلطة أو المجتمع معرفته استفزازًا لمنظومة الرّقابة.

هكذا يوظّف الفرد الاعتراف -وهو أداة السّلطة- ضدّها، ويكشف كلّ ما في جعبته من أسرار مُحرجة أو أفكار مرضيّة مُعيبة، ليتحرّر منها ويدرك «حقيقة» ذاته. ومن الطبيعي أن يحتلّ الجنس الجزء الأكبر من هذه الاعترافات، لأنه يشغل حيّزًا لا بأس به من الفضاء الهامشيّ، باعتباره أكثر الرغبات كبتًا وإقصاءً، سواء بفعل رقابة الفرد على ذاته، أو خوفًا من أحكام المُجتمع، وعقاب السلطة.

هذه رواية عن سّأم الشّباب من تمجيد الثّورة التونسيّة، والعجز عن إدراك الحريّة المزعومة. هذه رواية فضح لمواضع العفن المجتمعيّ والسياسيّ، وإظهار الأشياء على حقيقتها بعد كشط طبقاتها الخارجيّة الزائفة.

خاتمة

يمثّل الفضاء الهامشي في الروايات الثلاثة قوّة دافعة تتحرّك الشخصيّات على إثرها في اتّجاهات متعدّدة ضّد السّلطة المركزية. ولأنّ الثورة فعل ظاهريّ، علنيّ، فرديّ وجمعيّ في آن، تركّز الروايات على تعدّدية الأصوات الهامشيّة، دون إقصاء الصوت الفرديّ. فيما تظلّ الحرية مفهومًا إشكاليًا واضحًا عند الجيل الشابّ في روايات ما بعد الثورة التونسيّة، الإشكال ذاته الذي يخلق سجالًا مجتمعيًّا حول مفهموم الحرية.

حريّة التعبير التي يرى المعظم أنّها الإنجاز الوحيد الذي حقّقته الثورة التونسية، ليست إلا جزءًا يسيرًا من مفهوم الحرية الجدليّ الذي لا يمكن حصره في شكل أو اتّجاه واحد. في ضوء ذلك، تأتي روايات ما بعد الثورة التونسيّة باتّجاهاتها الجديدة، لتثبت أنّ الكتابة، كما الثّورة، ليست فعلًا موازيًا للمجتمع، بل وليدة تحوّلاته،[35] وحريّة التعبير لا تتجزّأ في النهاية عن حريّة التفكير.

 

 

وفيقة المصري

حقوق النشر: موقع حبر 2021

وفيقة المصري حصلت على بكالوريوس في الأدب والدراسات الثقافية من الجامعة الهاشمية عام 2012 وعلى ماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة ليفربول هوب في بريطانيا عام 2019. مهتمة بأدب ما بعد الحداثة والدراسات النسوية والجندرية. عملت كمعلمة للغة العربية للناطقين بغيرها في معهد سجال للغة والثقافة العربية.

المدونة الشخصية: https://literatureblogorg.wordpress.com/

 

الهوامش

 

  • [1] للمزيد حول أشكال الكتابة السلطويّة انظر/ي فصل «في علاقات الكتابة والسياسة: سياسية الكتابة وكتابة السياسة»، من كتاب«الواقع والمثال: مساهمة في علاقات الأدب والسياسة»، فيصل درّاج.

    [2] نُشرت الدراسة عام 2016 في «مجلّة الاستهلال» المحكّمة الصّادرة في المغرب، في عدد خاصّ بالسّرد التونسي. للاطّلاع على الدراسة، انظر/ي اتجاهات جديدة في الرواية التونسية – آراء حرة

    [5] يعتقد الفيلسوف والناقد الماركسيّ الأمريكي فريدريك جيمسون في كتابه «اللاوعي السياسي»، عام 1981 أنّ الأدب لا ينفصل عن السياق السياسي، وإن تبدّى ذلك، فهو دائمًا ما يجد طريقه إلى اللاوعي. وعليه، يستخدم جيمسون السياسة كقاعدة تأويلية أساسية في قراءة الأعمال الأدبية ونقدها.

    [6] انظر/ي فصل «في علاقات الكتابة والسياسة: سياسية الكتابة وكتابة السياسة»، في كتاب «الواقع والمثال: مساهمة في علاقات الأدب والسياسة»، فيصل درّاج.

    [8] حارة السّفهاء، علي مصباح، ص 40.

    [9] تعتبر الحرقة جزءًا من الثقافة الشعبيّة التونسيّة، لا سيّما الفئات المُهمّشة منها. الحرقة؛ أي الهجرة غير الشرعية، وتعني حرق جواز السفر وبالتالي حرق جسر الرجوع إلى البلد بواسطته. وهناك عدّة أطراف متورّطة في هذه العملية، تبدأ بما يُعرف بخيط الحرقة» وهو الشخص الذي يرشد الحرّاقة ويصلهم بأطراف أخرى تدير عملية الهجرة إلى أوروبا، وغالبًا إلى إيطاليا، عبر البحر المتوسّط. (الكاتبة).

    [10] منزل بورقيبة، إيناس العبّاسي، ص 11.

    [11] المصدر السابق، ص15.

    [12] المصدر السابق، ص190.

    [13] سياسي ومفكّر تونسي، كفّره علماء الزيتونة، وتُنسب إليه دعوات تحرير النساء التونسيّات، وإعطائهنّ حقوقهنّ الدستوريّة.

    [14] كتب أمين الغزي أيضًا كلمات أغنية«كلمتي حُرّة» التي صارت نشيدًا للثورة التونسية بعد أنّ غنّتها آمال المثلوثي أول مرة أثناء المظاهرات في شارع «الحبيب بورقيبة» في العاصمة تونس. انظر/ي أمل مثلوثي كلمتي حرة (Amel Mathlouthi – Kelmti Horra)

    [15] جمع باي، وهي كلمة تركية تعني السيّد أو الأمير، والباي هو والي تونس في عهد الدولة العثمانيّة.

    [17] «موسيقى شعبية تونسية، سميت كذلك نسبة إلى آلة نفخية مستعملة كثيرًا، مصنوعة من جلد الماعز. هذه الآلة اسمها الشكوة ويُثبت في أطرافها مزمارين من القصب. تعود جذور المزود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت حاضنته التاريخية النوبة الشعبية، فقد نشأ في المقامات التي يتم فيها التبرك بالعلامات الصوفية في تونس كالأولياء الصالحين. تخلص المزود من جذوره الصوفية فتناول مواضيعًا دنيوية، وأخذ شكلًا إيقاعيًا راقصًا، وتغنى بالسجن والخمرة والجنس. ظلت موسيقى المزود ممنوعة حتى أوائل التسعينيات». انظر/ي المرجع السابق.

    [18] يشطح الفعل، والمصدر الشّطيح؛ بالدارجة التونسية وتعني يرقص. والحقيقة أنّ العلاقة بين الشّطح والرقص تعكس جمالية تراكيب الدراجة التونسيّة هنا؛ فالشّطح بمعنى السير والاسترسال وإطلاق العنان للخيال مرتبط نوعًا ما بحركة الجسد بحريّة أثناء الرقص. (الكاتبة).

    [19] الفعل: سيّب، المصدر: تسييب؛ بالدارجة التونسية وتعني الشّتم. يسيّب بالكلام: يعني يترك الكلام السيء يخرج تباعًا دون أن يضبطه (الكاتبة).

    [20] زندالي، أمين الغزّي، ص19.

    [21] باندي، مفرد بانديّة: تعني الزُّعران بالدّارجة التونسية، من الكلمة الفرنسية les bandits. بوهالي، مفرد بوهاليّة: أي البهيم أو العشوائي الذي يعيش بلا هدف، من الكلمة الأمازيغية abhelul وتعني أبله كذلك. زوّالي، مفرد زواوْلة، من الكلمة التركيّة zvali: أي الفقير من الطبقة الكادحة. زوفري، مفرد زوفرة: تعني العامل، وهي تغيير للكلمة الفرنسية les ouvriers، وفيها شيء من التحقير والدّونية. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الدّارجة التونسية خليط زاخر من الكلمات العربية، التركية، الأمازيغية، الفرنسيّة، وحتى الإيطالية، واللافت أنّ ثمّة العديد من الكلمات في قاموس الدارجة التونسية تُستخدم لوصف الأشخاص من الطبقات الفقيرة والمُهمّشة. (الكاتبة).

    [22] زندالي، أمين الغزّي، ص75.

    [23] لا بأس بها.

    [24] تُقسم تونس إلى ثلاث مناطق كُبرى: الشمال، والوسط التونسي الذي يحدّه الساحل التونسي شرقًا، والمناطق الداخلية وتشمل جزء من الوسط الغربي والجنوب الذي تغطّيه مساحات من الصحراء الشاسعة والواحات. ونظرًا للتفاوت في المستوى الاجتماعي والخدماتي بين هذه المناطق، يهاجر أبناء وبنات المناطق الداخليّة إلى المناطق الأخرى، لا سيّما الساحليّة منها بحثًا عن فرص العمل.

    [25] أي من المناطق الداخلية.

    [26] مدينة في الوسط الغربي تابعة لولاية القصرين.

    [27] إحدى الأحياء الراقية في المناطق الشماليّة من العاصمة تونس، ويقع فيها القصر الرئاسي .

    [28] زندالي، أمين الغزّي، ص83.

    [29] المصدر السابق، ص 65.

    [30]«نسبة إلى كلمة ديغاج الفرنسية، تلك الكلمة التي انتقلت إلى اللسان التونسيّ من ميادين كرة القدم، حيث كانت توجّه إلى المدافعين أو حارس المرمى وتدعوهم إلى إلقاء الكرة بعيدًا. لتصبح بعد ذلك مطلبًا وحركة شعبيّة تطالب بإلقاء السياسيّين في المزبلة، وبضروة تغييرهم العاجل. الحركة المرجعيّة لذلك هي ما قام به متظاهرو شارع الحبيب بورقيبة ظهر يوم 14 جانفي، وقد ارتفعت أيديهم في الهواء كمكانس يدويّة، رافعةً شعار ديغاج»، انظري المصدر السابق، ص135.

    [31] انتصاب أسود، أيمن الدبوسي، ص 45.

    [32] شكري بلعيد سياسيّ تونسيّ وأحد مؤسسي تيار الجبهة الشعبية، وعضو سابق في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسيّ والانتقال الديمقراطيّ، عُرف بانتقاداته للحكومة الائتلافية في تونس (الترويكا)، واُغتيل أمام منزله في فبراير عام 2013.

    [33] انتصاب أسود، أيمن الدبوسي، ص 124.

    [34] انتصاب أسود، أيمن الدبوسي، ص 100.

    [35] انظر/ي فصل «في علاقات الكتابة والسياسة: سياسية الكتابة وكتابة السياسة»، كتاب «الواقع والمثال: مساهمة في علاقات الأدب والسياسة»، فيصل درّاج.