تونس: شعبٌ شبح وشعْبوية من القمة - حالة قيس سعيد

منذ أن أقال قيس سعيد حكومة هشام المشيشي في يوليو 2021، ظهرت العديد من المفاهيم السياسية لتفسير ما حدث في تونس، إما لإضفاء الشرعية على إجراءات سعيد أو إدانتها. يتناول هذا المقال نوع سعيد من الشعبوية وينظر في كيف أن فشله في تعبئة الأشخاص الذين يدعي تمثيلهم يغرق تونس ببطء في الاستبداد.

في الأشهر الأخيرة، شهدت العديد من المفاهيم السياسية في تونس، نوعاً من التطويع وإعادة التشكيل، وتم استخدامها من قبل طرف بغية إضفاء الشرعية على قيس سعيد أو توظيفها من قبل طرف آخر لرفض الإجراءات التي اتخذها الرئيس، ومن جملة هذه المفاهيم، نجد مفهوم "الديمقراطية" و"السيادة الشعبية" والانقلاب" و"الشعْبوية" بطبيعة الحال. هذه المقالة تُرَكز اهتمامها على وجه التحديد على هذا المفهوم الأخير. وباعتباره مصطلحاً فضفاضاً، قابل لاحتواء أي تفسير، واستخدامه أساساً لإدانة الخصوم السياسيين الذين يغامرون بأنفسهم في مخاطبة الجماهير مباشرة بدلاً من محاورة نظرائهم السياسيين، فإن مصطلح الشعبوية، رغم كونه مفهوم معروف تاريخيًا بطواعيته الكبيرة، يتميز مع ذلك ببعض الخصائص المحددة بعناية: 1 ​​كلُ حركة شعبوية، تنشأ في العادة في اللحظة الحاسمة التي تتعرض فيه الديمقراطية التمثيلية لأزمة حادة، وتقترح حلولًا لها، من خلال إعادة اختراع الشكل الديمقراطي، لتجعله أكثر شمولية وإدماجًا. من هذا المنظور، يمكن اعتبار المشروع الذي تبناه قيس سعيد خلال انتخابات 2019 منتميًا لهذا التوّجه السياسي. سوف ينصب اهتمامنا هنا في تحديد طبيعة الشعبوية التي ينتهجها قيس سعيد، انطلاقًا من ملاحظتين اثنتين: من جهة، تندرج هذه الشعبوية ضمن ديناميكية تونسية للنضال من أجل المساواة، التي بدأت مع الثورة وظلت موضع صراع منذ ذلك الحين؛ ومن ناحية أخرى، تعتبر هذه الشعبوية استمرارًا وجزء لا يتجزأ من الموجات الشعبوية التي تشهدها مختلف الأنظمة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.

منذ ثورة 2011، تعددت الحركات النضالية التي يقوم بها المواطنون في تونس، رجالًا ونساءً، للمطالبة بالمساواة. سواء أكان ذلك على المستوى الإقليمي، في المطالبة بالمساواة بين المناطق في سياق الفوارق الصارخة بين السواحل والمناطق الداخلية النائية، وإلى غاية العلاقات مع الدولة (المحاباة، والمحسوبية، والعنف المؤسسي، وما إلى ذلك) أم بين المواطنين والمواطنات (إلغاء جميع أشكال التمييز، ولا سيما القائم على أساس الجنس أو لون البشرة أو الأصل الجغرافي، والحق في الكرامة باسم الانتماء للأمة بالتساوي)، في كل هذه الحالات، ظل مطلب المساواة في قلب الحركات الاجتماعية في السنوات العشر الماضية. وعلى مستوى أكثر رمزية، تجسد هذا المطلب الخاص بالمساواة أيضًا في شكل صراع من أجل الاعتراف، في المجال الذي تم فيه تصنيف السكان تاريخيًا، وبشكل منهجي، وتقسيمهم عن طريق ثنائية غير قابل للانفكاك، إلى فئتين متنافرتين، بين "متقدم" و"متخلف"؛ "متعلم و"جاهل"؛ "عصري" و"تقليدي". لقد كانت الثورة بمثابة بوابة الدخول الصاخب إلى ساحة المشاركة، لكافة التونسيين والتونسيات، الذين دفعتهم الدولة طيلة عقود من الزمن إلى هامش المجتمع وأسقطتهم من اهتماماتها. من ناحية أخرى، تُعَدُ الشعبوية في تونس، نوعًا من ردة الفعل على الحركة العالمية القائمة على "نزع الديمقراطية" 2 عن الديمقراطية التمثيلية، التي أُفرِغت من جوهرها من خلال اختزال المجال السياسي في قضايا معدودة تُختَصر في مشاركة أصحاب المصلحة ومسائل الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد. وبمراهنتها كليًا على "التكنوقراط" من القطاع الخاص والخبراء، فقد همشت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 المسائل السياسية والاقتصادية التي طرحتها الثورة، المتمثلة في نموذج التنمية الاقتصادية، والمساواة بين المناطق، والعلاقة بقوى حفظ الأمن والنظام، والتوظيف، إلخ.

إذا كان مشروع قيس سعيد يبدو للوهلة الأولى أنه وضع مسائل المساواة وسيادة الشعب في صميم أجندته السياسية، فسرعان ما تبينت محدودية ذلك: بدءًا من "الحملة التفسيرية" لعام 2019 إلى غاية تهميش الشعب وإرادته منذ مظاهرات 25 تموز/يوليو 2021، اتضح أن شعبوية الرئيس هي شعبوية من القمة، واليوم، بعد أن عجز عن تعبئة السكان سياسياً، عاد إلى ممارسات القادة المستبدين الذين حكموا البلاد من 1956 إلى 2011.

 

تابعوا قراءة مقال الباحثة ملاك الأكحل كاملا من موقع مبادرة الإصلاح العربي

شعبٌ شبح وشعْبوية من القمة: حالة قيس سعيد

 

 

 

هنا تجدون عرضا للمقالات التحليلية من تونس

مسار الانقلاب على الثورة لم يبدأ اليوم، و«الرئيس المنقذ» لن يعكسه

الحركات الاجتماعية ومسارات التحول الممكن في تونس

تونس منذ 25 تموز: تصحيح للمسار أم انقلاب عليه؟

الأزمة في تونس: صراع على السلطة بين الديمقراطية والاستبداد

تبعات الهيمنة الجذور الاقتصادية والصحية للدعم الشعبي لقرارات سعيد