تضحية بحقوق الإنسان بذريعة مكافحة الإرهاب

في أوقات الأزمات يتعين تقديم كبش فداء لتمهيد الطريق لعودة المجتمع إلى الحياة الطبيعية. هذه التقنية البشعة والمجرَّبة كثيرا على مدى التاريخ، بات يتم استخدامها اليوم من جديد في بريطانيا مع المسلمين من قِبَل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، مثلما يكتب الباحث الألماني ألكسندر غورلاخ في رؤيته التالية لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Alexander Görlach

انخفض مستوى بريطانيا بشكل عميق في عهد رئيسة الوزراء تيريزا ماي. حيث أصبحت أرض الـ"ماغنا كارتا" (أي الميثاق الأعظم وهو أوَّل دستور في التاريخ)، وأرض الاتِّفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، تهبط في ظلِّ قيادة تيريزا ماي إلى دولة عديمة المبادئ ولا تعبأ بسيادة القانون. السيدة تيريزا ماي مُنِيَت بفشل ذريع من خلال إعلانها عن خطتها لتغيير القوانين التي تحمي حقوق الإنسان من أجل محاربة الإرهاب الإسلاموي.

 بذريعة جلب الديمقراطية وسيادة القانون إلى العراق، شاركت بريطانيا قبل خمسة عشر عامًا في الحرب غير الشرعية، التي قادتها الولايات المتَّحدة الأمريكية في العراق. ومع هذه الحرب بدأت زعزعة استقرار هذه المنطقة، التي يُشكِّل فيها اليوم تنظيم "الدولة الإسلامية" أكبر تجمُّع من جهاديين نصَّبوا أنفسهم كمحاربين يعيثون في الأرض فسادًا وخرابًا باسم الله. والآن لم يعد المرء في إنكلترا يريد معرفة أي شيء عن القيم والمعتقدات، التي أراد جلبها إلى العراقيين في تلك الأيًام؟

The Elizabeth Tower, known colloquially as 'Big Ben', in London
يجب عدم وضع المسلمين تحت اشتباه عام: "السياسيون مثل تيريزا ماي يعزِّزون مرارًا وتكرارًا بخطابهم الاشتباه بأنَّ المسلمين أنفسهم مسؤولون عما يقع لهم لأنَّهم لا ينأون بأنفسهم بما فيه الكفاية عن الإرهاب المرتكب باسم دينهم. على الرغم من أنَّ أكثر من مائة وعشرين عالمًا وفقيهًا مسلمًا -من داخل ومن خارج الدول ذات الغالبية المسلمة- قد أدانوا في عام 2014 إرهاب تنظيم داعش جملةً وتفصيلاً ورفضوه باعتباره خارجًا عن الإسلام"، مثلما يكتب ألكسندر غورلاخ.

اختارت السيدة تيريزا ماي قبل أيَّام قليلة من الانتخابات في انكلترا لغة مثيرة للفزع: حقوق الإنسان لا يتم تحديدها بالقانون. بل لقد كانت دائمًا -بحسب فكرة التنوير الغربي- من حقّ الإنسان. وبحسب صيغة القانون الأساسي (الدستور) الألماني فإنَّ سلطة القانون تلتزم في جميع أفعالها بحماية كرامة الإنسان التي تتمخَّض عنها هذه الحقوق. والدولة لا تمنح أو تسلب كرامة الإنسان. وعندما لا تعد الدولة تريد السماح بتطبيق حقوق الإنسان، التي يتم تطبيقها بناءً على كرامة كلِّ إنسان، فإنَّ هذا ليس سوى عودة إلى بربرية ما قبل عصر التنوير. 

إجراءات لصالح الإرهابيين

ألكسندر غورلاخ
ألكسندر غورلاخ باحث أكاديمي زائر في جامعة هارفارد، حيث يبحث لدى مركز الدراسات الأوروبية ومدرسة اللاهوت في مجال السياسة والدين. درس في جامعات من بينها جامعة الأزهر في القاهرة من أجل حصوله على درجة الدكتوراه في مقارنة الأديان.

 وبهذا من المفترض أن تتصدَّى بريطانيا للإرهابيين الإسلامويين. ولكن في الواقع إنَّ مثل هذه المحاولة تصبح وبسرعة كبيرة جدًا غير واضحة المعالم. يثبت ذلك حظرُ السفر الذي أراد فرضه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الأشخاص القادمين من بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة. وهذا الفشل الذريع يمثِّل إدانةً جماعيةً لمجتمع ديني بأكمله أو بالأحرى للأشخاص التابعين له.

 وبهذا يتم من ناحية تقويض ثقة المواطنين في النظام الليبرالي، ومن ناحية أخرى دعم الإرهابيين الذين أصبح بإمكانهم الآن أن يستخدموا تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية كأساس يقوم عليه الادِّعاء بأنَّ الغرب يكره الإسلام والمسلمين كافة. إنَّ العقاب الجماعي يمثِّل شكلاً قديمًا وفظيعًا من أشكال الانتقام، رفضه بالفعل الكتاب المقدَّس (العهد القديم) في القول المأثور "العين بالعين والسن بالسن".

 وضمن سياق الهجمات الإرهابية الإسلاموية في أوروبا يضاف إلى ذلك أنَّ العقاب الجماعي لشعوب بأكملها والتجسُّس عليها بتدابير رقابة يتم دائمًا تجديدها وتطويرها لم يكن قطّ عملاً ضروريًا ويؤدِّي إلى هدفه المقصود: فمعظم الإرهابيين الذين قاموا بهجمات في أوروبا كانوا معروفين لدى السلطات الأمنية كأشخاص خطيرين. ومع ذلك فقد تمكَّنوا من تنفيذ هجماتهم بسبب العديد من الإخفاقات مثل التحرِّيات المليئة بالأخطاء والعيوب وعدم استخدام الوسائل القانونية الموجودة بالفعل.

 يصف هذه الآلية الفيلسوفُ الديني الفرنسي رينيه جيرار في نظريته "كبش الفداء" بقوله: من أجل صرف الانتباه عن الإخفاقات الخاصة يتم انتقاء الأقليات لتحميلها المسؤولية عن المشكلات الراهنة. وعلى هذا النحو يتم تحويل اليهود والمثليين جنسيًا والمسلمين في عصرنا الحاضر إلى أكباش فداء.

مصداقية القيم الغربية عرضة للانهيار

 وبطبيعة الحال لا تتم هكذا معالجة المشكلات الحقيقية، بل على العكس تمامًا من ذلك. إذ لا يمكن تحديدًا التنويه بما فيه الكفاية إلى أنَّ المسلمين أنفسهم يشكِّلون من حيث العدد أكبر مجموعة من ضحايا الهجمات الإرهابية الإسلاموية.

 ولذلك يتعيَّن ويجب على دولة القانون أن تحميهم تمامًا مثل أي مواطن آخر أيضًا. وإذا لم تبذل الدولة أي جهد للتمييز بين الإرهابيين والمواطنين، فعندئذ تصبح بنفسها متواطئة مع متديِّني العصر الحجري، الذين يرهقون العالم من جانبهم بعبارة "إمَّا معنا أو ضدَّنا" التبسيطية. السياسيون مثل تيريزا ماي يعزِّزون مرارًا وتكرارًا بخطابهم الاشتباه بأنَّ المسلمين أنفسهم مسؤولون عن ما يقع لهم لأنَّهم لا ينأون بأنفسهم بما فيه الكفاية عن الإرهاب المرتكب باسم دينهم.

 على الرغم من أنَّ أكثر من مائة وعشرين عالمًا وفقيهًا مسلمًا -من داخل ومن خارج الدول ذات الغالبية المسلمة- قد أدانوا في عام 2014 إرهاب تنظيم "داعش" جملةً وتفصيلاً ورفضوه باعتباره خارجًا عن الإسلام. ومثلما يمكن ويجوز أن يُطالب المسلمون بأن ينأوا بأنفسهم عن الإرهاب المرتكب باسم الإسلام، فإنَّ المسلمين في المقابل لديهم حقّ المطالبة باستبعادهم من هذه التصريحات التي أدلت بها تيريزا ماي، عندما ينشأ الانطباع بأنَّ مجتمعات الأكثرية الليبرالية في الغرب تعارض عن قصد معتقداتها المُعلنة.

 والآن أصبحت في الواقع مصداقية قيمنا الغربية عرضة للانهيار. لقد قام الناخبون والناخبات في بريطانيا بكبح جماح رئيسة الوزراء تيريزا ماي في الثامن من حزيران/يونيو 2017. غير أنَّ مثل تلك المطالب التي تطالب بها السيدة تيريزا ماي سوف تجد مرة أخرى لدى الجمهور آذانًا صاغية.

 

 

 

ألكسندر غورلاخ

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

ar.Qantara.de