الأزهر والإيهام بتجديد الفكر الإسلامي

مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الخطاب الدينى: تعتبر الكاتبة هدى شقراني أن انبثاق هذا المؤتمر في صلب مؤسسة دينية عريقة بوزن مؤسَّسة الأزهر يؤكّد على أن الظُّروف الموضوعيّة بدأت تتهيأ نسبياً لبداية تصويب نظرنا إلى الأمام وليس إلى الخلف، فالماضويَّة المطلقة التي تمتلأ وتزهو بها الأصوليّة الإسلاميّة ستخضع لإملاءات الواقع عاجلا أم آجلاً.

الكاتب، الكاتبة : هدى شقراني

مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، الذي نُظم مؤخّرا في القاهرة، هو مؤتمر فرضه دوران الأزمان. فمقارعة الأصوليّة الإسلاميّة ضرورة مُلحَّة سيفرضها بشدّة واقع متغيّر لم يعد يقوى على شدّه قسرًا إلى الماضي الثقيل بخيوط رفيعة جدا. هو مؤتمر يؤكد لنا أن هذا الشدَّ القويّ إلى الوراء أو الأصول يدلُّ على أنّ هنالك قوّة دفع إلى الأمام قويّة أيضا حتّى وإن كانت لا تضاهي حجم القوّة الأصولية لكنّها تتفوّق عليها فكريّا وعلميّا. هي قوّة لا تقف على الأطلال ولا تبكي على الماضي.

هي قوّة مغامرة لا تهاب الحاضر ويغريها القفز إلى المستقبل دون القطيعة الكاملة مع الماضي. هي قوّة تؤمن أن العقل البشري، الذي أنتج الأصول، قادر على الإبداع.

لن أركّز هنا على علاقة التضاد بين هاتين القوّتين بقدر التّركيز على نوع العلاقة التي تجمعها والتّي قد تبدو ظاهريّا علاقة غير منتجة، لكنّها في حقيقة الأمر علاقة منتجة تخدم عمليّة التّغيير، فتاريخيّاً هذا الصراع بين القوّتين هو الذّي أنتج أهمّ التّغييرات المجتمعيّة.

لكن من هو الأصولي؟

الأصولي هو من يتعلّق بالأصول والأصول هي أول الشيء والأسس الأولى، هي البناء الأوّل. وزمان الأصولي هو زمان مثبّت في الماضي. فنظرة الأصولي هي "نظرة مستديرة دائما إلى الوراء لا إلى الأمام. إنها مثبّتة على لحظة معيّنة من لحظات الماضي، لحظة تتعالى على كل اللحظات". (١)

و"الرؤية الأصولية تعتبر أن لحظة التّمام والكمال حصلت في الماضي وأنّه كلما ابتعدنا عنها فسدنا. لذا فالتقدّم بالنسبة لها يكون في العودة إلى الوراء، إلى لحظة الأصول الأولى، لحظة اللّحظات". (٢)

إنّ الأصولي لم يدخل زماننا بعد. نعم، الأصولي يجد نفسه في الماضي ويتوه في الحاضر. تعلُّقه بالماضي هو تعلقٌّ طفولي مرضي. والقطيعة مع الماضي، حتّى وإن كانت جزئية، ترعبه كما يرتعب الطفل حين يلتفت يمينا ويسارا ولا يجد أمه. إنّه التيه الكامل! للماضي سلطة شبه كاملة على وعي الأصولي، ذلك "أننّا ندخل أو نكاد في أسر الماضي، نجترُّه ويجترُّنا، ونغرق في تفاصيله ونتوقَّف عن السَّير إلى الأمام".(٣)

 

 

هل نحن على أبواب معركة جديدة مع الأصولية الإسلامية؟

اليوم وقد بدأ يُفرض على الأصوليين تصويب نظرتهم إلى التُّراث، لا للاكتفاء والاحتماء به، بل لطرحه للبحث والنَّقد والمراجعة لمحاولة الخروج من هذا النُّكوص والانحدار الرهيبين، يقترح علينا بعض "التقدميين" أن نتخلّف عن هذه المعركة بدعوى أنّها معركة خاسرة سلفًا.

ألا يعي هؤلاء أن التراثيين من خلال هكذا مؤتمر هم تحت المساءلة حتَّى وإن كانت مساءلة محتشمة؟ ألا يعي هؤلاء أن شيخ الأزهر، أحمد الطيِّب، كان في هذا المؤتمر العالمي في موقع الدِّفاع عن التراث. إنَّنا في مأزق مع تراثنا. ألا يعي هؤلاء أن للحاضر سلطة على الماضي وأن الأصولية تحمل داخلها بذور فنائها؟ ألا يعي هؤلاء أن الاشتباك مع الأصولية الإسلامية ومقارعتها آتية في كل الأحوال؟ ماذا يقترحون علينا؟ هم يقترحون علينا أن ننضم إلى القوة الأصوليّة لنساعدها على تأبيد هذه الحالة الماضويّة "النقيّة" بكليّتها. لو لم يكونوا هم أيضا أصوليين لما اقترحوا علينا ذلك. أو ربّما هم تقدميّون يمارسون على أنفسهم الرّقابة الذّاتية طوعا أو كرها.

ألا يعي هؤلاء "التقدميين" أن هنالك أسئلة تفرض نفسها اليوم بشدّة على الجميع. هي أسئلة من قبيل: هل القول براهنيّة القرآن هو ضرب من ضروب العطالة الفكريّة والوهم بأزليّته؟ إذا ما اعتبرنا أن النص القرآني راهن بكُليَّته، فلماذا نحن اليوم في جدال حول "صلوحيّته لكل زمان ومكان"؟ وإذا ما اعتبرنا أن النصَّ القرآني حامل لصفة الدَّيمومة فكيف نلغي ما يمليه دوران الأزمان من مراجعةٍ للنص لتكييفه مع واقع متغيّر باستمرار؟

ألا يفرض علم أسباب التنزيل أو النزول، الذي ربط أسباب تنزيل آيات القرآن بأزمنة وأمكنة تلك المرحلة التي نزل فيها الوحي على امتداد عشرين سنة، القراءة التاريخيّة للنص؟ ألا تفرض أغوار اللغة العربية للقرآن الفهم المتعدِّد له؟ هي كلَّها أسئلة ستُطِّل علينا مهما تخلّفنا عن معركة التجديد.

 

اقرأ/ي أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة

لماذا تتناقض مشاريع الإصلاح مع واقع المجتمعات المسلمة؟

تطابقات جلية بين الشريعة الإسلامية والقوانين الألمانية

"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جزء أصيل من الإسلام"

 

الأزهر في موقع الدِّفاع عن التراث

إنّ العقل الاسلامي خاض أوَّل معاركه مع الدوغمائيّة الاسلامية في أواخر القرن الثاني هجري من التّاريخ الاسلامي، أي في العصر الأموي. هذه كانت ولازلت المعركة الفكريّة الأشرس على الاطلاق مع الأصوليّة الاسلاميّة. المعتزلة كانوا أول العقلانيين في الاسلام حتّى قبل ابن رشد.

الأصولية الإسلامية حينها وَأَدَت الفلسفة والفكر وغَلَّبت النّقل واللاَّعقل. المعتزلة، رافعي راية المنهج المادي التَّاريخي، في معركتهم مع خصومهم من الأصوليين، رافعي المنهج النصي الغيبي اللاعقلاني، عُزلوا تماما وكُفِّروا وأُبيحت دماؤهم وقَضوا على يد السلفية الاسلامية المتمثّلة في الأشاعرة والحنابلة والقدريين والجبرية وبقيّة الفرق الاسلامية.

الأشاعرة، رغم أنّهم كانوا مسلّحين بأسلوب المنطق الأرسطي ذاته، عادوا المعتزلة منذ نكبتهم على يد الخليفة العباسي المتوكل (٢٣٢ هجري / ٨٤٦ ميلادي). وقد "اضطهدوا كلَّ من يتعلَّم أو يعلِّم منطق أرسطو، وأفتى بعضهم بأنّ الإسلام يُمنع تعليمه وتعلُّمه".(٤)

لقد تمَّ اخراج المعتزليين من أمّة الاسلام حين "غالوا" في استعمال العقل للقول بأن الله قديم في الأزل وأن القرآن مخلوق وليس أزلي. وبذلك فقد "خسر الفكر الإسلامي كثيرا عندما أخرس صوت المعتزلة. نعم، لقد خسر عندما أغلقت بعنف مباغت تلك المناقشة الحاسمة الدائرة حول القرآن". (٥) للأسف، لاهوت المعتزلة الذي اعتزل النقل، التيار المهيمن في الاسلام، أجهز عليه العقل. لكن، ربّما لم تكن حينها الظُّروف الموضوعيّة مهيّأة للطَّرح المعتزلي.

 

 

ولم يُرَد أيضا للفكر التنويري النهضوي، الذي رفعه مفكرو عصر النّهضة في منتصف القرن التاسع عشر حتّى بدايات القرن العشرين التغيير المرجو منه ورُكن قسرًا بتعلّة أولويّة النّضال ضد الاستعمار.

هُزم العقل وانتصر اللاَّعقل مرّة أخرى. وأتت جماعة الإخوان المسلمين ولعبت دورا في افشال ذلك المشروع وفاقمت انحراف العقل المهيمن، الذّي ضُرب في مقتل بفعل كل هذه التراكمات وفاقمت جماعة الإخوان تورُّط الإسلام في المعركة السياسية.

ثم أتى الخميني بثورته الإسلامية. ومرَّت علينا العشريّة الجزائرية السوداء في التسعينيات. وأتت العشريّة الأخيرة بموجتين ثوريتين صعد في موجتها الأولى خاصة الإسلاميون للحكم وبرزت قوى ظلامية مَغوليّة. إنه الانسداد التاريخي في أعمق تجليّاته. هي موجة ثورية تم فيها إحياء السؤال حول كلِّ شيء. كل هذا وأكثر يجعل من ظروف طرح التحديث في يومنا هذا مهيّأة أكثر.

إنَّ انبثاق هذا المؤتمر في صلب مؤسسة دينية عريقة بوزن مؤسَّسة الأزهر يؤكّد على أن الظُّروف الموضوعيّة بدأت تتهيأ، حتّى ولو قليلا، لبداية تصويب نظرنا إلى الأمام وليس إلى الخلف. ربَّما نحن اليوم على أعتاب معركة أخرى مع الأصولية الإسلامية بعد تلك المعارك السابقة التي تم إفشالها بفعل ضخامة القوّة الأصولية.

تريد الأصولية الإسلامية أن تسوِّق مطلب مراجعة التراث على أساس أنه مطلب غربي يُراد به تشتيت الأمّة. وأمام هذه القوّة الغربيّة الفكريّة والفلسفيّة التّي نبشت في التُّراث والإنسان والوجود، وأمام هذه القوّة العلمية والتكنولوجية غير المكتفية بما حصلت، ليس لدينا، حسب الأصولية الإسلامية، إلاَّ القرآن بصفته آخر تجلّ لكلام الله لنرفعه في وجه هذه القوّة. تقترح علينا الأصولية أن نكتفي بالقرآن ونقدّمه ككتاب دين وأخلاق وعلم ويقدمه البعض دستورًا أيضا بعيدا عن كل ما هو وضعي فيه مراعاة لتغيّر الأزمان.

أمام مطلب التحديث، يطلب منّا شيخ الأزهر الالتفاف حول تراثنا وسلفنا. نعم، الأصولي يخاف المسَّ من قداسة الماضي بكل تراثه وأسماءه. الأصولي يراهن على نص غير راهن في مجمله. هو مستقر وغير طيّع فكريا، مكتفٍ بالنص الأول. لا يصيب الأصولي القلق الفكري الذي ينتجه الحاضر. فبالنسبة للأصولي، النص الأول هو حل لمشاكل راهنة، لكنها مشاكل لم تكن قائمة حين كُتب النص الأول. فـ"الأصولي لا يجيد قراءة التّاريخ ولا قراءة النصوص ويقفل باب الإبداع مكتفيا بوهمه النظري".(٦)

 

الحثَّ على التجديد هو تراثي وليس حداثي... التجديد ضرورة معرفية وحياتية

خلال هذا المؤتمر، وفي ردٍّ على رئيس جامعة القاهرة، محمد الخشت، الذي تحدَّث عن ضرورة مراجعة التراث، قال شيخ الأزهر "إن إهمال التراث بأكمله ليس تجديدا وإنّما إهمالا." وطبعا ليس هذا ما يقصده محمد الخشت ولا أغلب المجدِّدين، إذ "لا يمكن تبنّي التراث ككل لأن العناصر المقوّمة للماضي لا توجد في الحاضر". (٧)

يخاف الأصولي من تجديد التراث إذ يرى فيه هدما لا تقوم بعده قائمة ولا يرى فيه هدما بغرض البناء بحسب ما يتطلّبه الحاضر. لكن الهدم لا يمكن أن يكون بالكامل فالتغيير لا يمكن أن يبدأ من الصفر. وهو ما يجعلنا نسأل : "هل الماضي عبء أم حافز؟" (٨) وتجيبنا وقائع تاريخنا على ذلك فنحن لسنا متأكدين "من وجود حالات تاريخية متحققة لعب فيها الماضي حافزا على التقدم إلى الحد المتصوَّر في التخييل النهضوي العربي". (٩) هذه الماضويَّة المطلقة التي تمتلأ وتزهو بها الأصولية الإسلامية سيخترقها الحاضر عاجلا أم آجلا.

ولينأى شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بنفسه وبعموم الأصوليين عن تهمة التكلّس الفكري والتعنّت الصلب عن المضيِّ في التّجديد وليؤكّد على أن الحثَّ على التجديد هو تراثي وليس حداثي، استشهد الشيخ بمقولة لأحمد بن حنبل والتّي يقول فيها: "لا تقلدني ولا تقلِّد مالكًا ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا". المالكي والشّافعي أخذوا من أين ومِن مَن؟ هم أخذوا من النص الأول والتفاسير الأولى ومن السلف الصّالح.

 

 

للأسف تجثم الأسماء فوقنا وتجثم فوق الأسماء عَبدتها. يُؤلَّه الإسم ويحوم في فلكه المؤمنون بقداسته. تحضر الحقائق المطلقة، التّي دافع عنها شيخ الأزهر بكل ما أوتي من قوّة، وتكثر المسلَّمات. احدى هذه المسلَّمات هي مسلّمة علويّة الإسم وتفوُّقه. وأمام هذه المسلّمة يتلاشى العقل والوعي وينتفي الإبداع والتّنوير ويحضر التّخوين والتّكفير والقتل. القالب الأصولي ينتج مخوّنين ومكفّرين وقتلة لمن ضاق بهم هذا القالب.

العداء للغرب وأسبابه

في هذا المؤتمر، يوجد توجُّس كبير من قبل شيخ الأزهر من هذه الحضارة الوافدة، بكل ما يحمله هذا الوفود من اختراق مؤامراتي لثقافتنا. هو توجُّس وخوف معهودين من قبل كل الانعزاليين الماضويين. أي حثّ داخلي على التجديد والتحديث يُصوَّر على أنه فعل وافد مؤامراتي المراد منه ضرب أمّتنا التي تقدُّس الدين والله ولإضعاف نسيجها المجتمعي "المتين"، وكأنّنا لم نكن وافدين على مجتمعات وحضارات أخرى. قال شيخ الأزهر إنّ الصليبين أتوا إلينا بالسيف في يد والإنجيل في يد. وكأنّ بنا حين وضعنا قدمًا في الأندلس وقدما في الصين وما بينهما، الشيء الذّي يفاخر به شيخ الأزهر، حملنا الياسمين في يد والفل في اليد الأخرى.

الاستشراق الأكاديمي منبوذ بشدّة من طرف حُرَّاس تراثنا. فلماذا لا تنبثق دراسة التراث من عندنا؟ فكل ما هو مركون ومستبعد قسرًا عن الدرس النقدي، سيدرس لو ليس من الداخل سيدرس من الخارج. وإذا ما تخطّى باحثونا هذه السلطة الدوغمائية ودرسوا تراثنا يتهَّمون بالتذيُّلِ للغرب. تطبيق النقد التاريخي والفلسفي على التاريخ الإسلامي من قبل الباحث عندنا سيكون مختلفا إذ أن قارئ التراث عندنا على خلاف القارئ الأجنبي، "يمتلك الانفعال الديني الحماسي والتعلُّق العاطفي القداسي الذي يظل أفضل وسيلة لتلقِّي الرسالة وتشربها". (١٠)

وبالعودة لتاريخنا مع الغرب الأوروبي فأوروبا لم تمثّل بالنسبة للأنا العربية المسلمة الثقل الحضاري والسياسي والعسكري إلاّ منذ الحروب الصليبية. منذ تلك الحروب ارتسمت في المخيّلة العربية الاسلامية والمخيّلة الأوروبية صورة بشعة لدى كل من الطّرفين عن الطّرف الآخر. صورة الآخر العربي المسلم صارت أكثر قبحا عند الأوروبي مع احتلال الأندلس وعند سقوطها ساءت صورة الأوروبي عندنا. والاستعمار، الفعل الأوروبي "النبيل" لـ"تحضير" شعوب منطقتنا، صقل أكثر صورة الأوروبي العدو الخطير جدًّا والوحيد حينها. وإلتحقت أمريكا بأوروبا ليصيرا معا الغرب الصليبي الإستعماري الرأسمالي.

الصُّورة التي شكّلها كل منهما عن الآخر هي صورة منقوصة ومشوّهة، لأن الزَّاوية الوحيدة التي أُخذت منها الصُّورة هي زاوية الحروب والصراعات والاحتلالات والتوحّش الرأسمالي. فـ"لم يتسنَّ لأي منهما أن يكوّن صورته عن الآخر في مناخ صحي يؤهله لرؤية إيجابياته كما يرى سلبياته". (١١) ومع الأسف لم يتوفر هذا المناخ لتكتمل الصورة.

فلو أنّها اكتملت لخفَّف علينا الغرب، "المتحضر" والمتفوّق فكريًا وحضاريًا والمنتج فلسفيًا وتكنولوجيا، من استشراقه العنصري. هذا الإستشراق الذي "كان السّند القوّي للنهب الاستعماري الأوروبي لمنطقتنا". (١٢) ولا يزال أداة في يد الإمبريالية الغربية لتثبيت هذه الصورة النمطيّة المقولبة عن شعوبنا "المتوحّشة والمتخلّفة" بغية الاستمرار في خدمة أهدافها السياسية والاقتصادية. لو اكتملت الصُّورة لخفَّف علينا مستغربونا عدائهم للغرب بكليّته، بحضارته وناسه. ولربَّما خفّ هذا النبذ المتبادل العنيف والعبثي والمستنزف.

لو اكتملت الصُّورة لما بلغ الغيظ عند عدد كبير من العرب المسلمين حدَّ الابتهاج لمصائب تحصل في بلدان الغرب الكافر. هي مصائب تفسَّر عادة على أنَّها عقاب إلهي. لكن هذا الابتهاج الذي في ظاهره احتفاء بحزن الغرب المسلَّط من السّماء هو في جوهره عجز ووهن وتعويض نفسي عن تاريخ وحاضر مثقلين بالتعب والخسائر والضمور الحضاري. هو ابتهاج يُحزن من لا يعيش وهم التفوّق الذي منحته السّماء. هو ابتهاج يحزن المهموم بانتكاسة هذه الأمّة وواقعها الآسن.

لكن لماذا هذا الفصل التعسّفي والقسري بين الثّقافة الأوروبية والثقافة العربية الاسلامية. فكلتاهما خدمتا بعضيهما البعض في عدة مراحل من التاريخ. العمل الفكري هنا خدم العمل الفكري هناك. والعقل هنا تفاعل مع العقل هناك فالتبادل الفكري ضرورة للبشريّة جمعاء وللفكر البشري ككل.

الفلسفة العربية الإسلاميّة في العصر الأموي اعتمدت على الإرث الارسطي المترجم والإرث اليوناني بصفة عامة. فكانت هنالك ترجمات وشروح لكتب أرسطو في المنطق حتّى قبل عصر المأمون العباسي، ذلك أنّه "يكاد يكون من المتفق عليه، لدى مؤرخي الفكر العربي الإسلامي، أن المنطق هو أول ما عرفه هذا الفكر من تراث الفلسفة اليونانية وكان ذلك في القرن الأول الهجري خلال العصر الأموي." (١٣) أين كانت المدارس الدينية غير الإسلامية في بلاد الشام وما بين النهرين تدرس المنطق الأرسطي مع سائر تراث الفلسفة اليونانيّة." (١٤)

وما قدّمه لنا الفيلسوف المسلم ابن رشد استفادت منه أوروبا. فجامعة السربون، التي قامت بإعلاء شأن الفلسفة في صراعها مع اللاَّهوت المسيحي، تخصصت في فلسفة ابن رشد لتستعين بها في معركتها تلك. واهتمت جامعة اكسفورد شديد الاهتمام بابن الهيثم، مؤسِّس علم البصريات، بتجاربه في البصريات. فلماذا لا نتفاعل اليوم مع الحداثة الأوروبية؟ هنا لا يمكن التغافل عن مدى تأثير التناقض الفاضح والصارخ بين الحداثة الأوروبية ومبادئها وبين ما أتت به أوروبا إلى منطقتنا بدءاً بالإستعمار ومرورا بإحتلال فلسطين إلى كل ما تفعله اليوم في المنطقة لإعاقة النُّهوض.

 

اقرأ/ي أيضًا: المزيد من المقالات حول معضلة الإصلاح في الإسلام

هل كان المفكر نصر حامد أبو زيد مصلحاً لوثراً إسلامياً؟

الإصلاح الديني في المسيحية والإسلام

معضلة الإصلاح في الإسلام 

الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!

الآيات القطعيّة والظنيّة في القرآن

وعن قطعيّة النصوص وظنيّتها، أكّد شيخ الأزهر أنه لا تجديد في النصوص قطعية الدلالة. وغالبا هو يشير هنا إلى الآيات التي تخصُّ المرأة في علاقتها بالرجل. وكان طبعا للمرأة حضور في هذا المؤتمر بحكم أنّها كانت وستظل دائما مادّة غنيّة للإفتاء داخل المؤسسة الدينية.

أشار شيخ الأزهر في وقت سابق للمؤتمر، "أنّ في التعدد ظلم للمرأة وأنّ من يقولون إن الأصل في الزواج هو التعدد مخطئون." وأكّد على ضرورة قراءة الآية التي وردت فيها مسألة تعدد الزوجات بشكل كامل، فالبعض يقرأ "مثنى وثلاث ورباع"، وهذا جزء من الآية، وليس الآية كاملة، فهناك ما قبلها وما بعدها.

وواصل شيخ الأزهر في ترديد نفس الرّواية التي تقيّد التّعدد بالعدل. لكن هل فعلا قرأ شيخ الأزهر الآية كاملة وهل قرأ ما قبلها وما بعدها؟ بالتأكيد هو حافظ للقرآن كاملاً، لكنه من رعاة النّظام الذكوري وسيستمر في حمايته طبعا. ورغم اعترافه بالظلم المسلّط على المرأة بسبب التعدد اكتفى بالقول الآتي: "لا أدعو إلى تشريعاتٍ تُلغي حقَّ التعدُّدِ بل أرفُضُ أيَّ تشريعٍ يَصدِمُ أو يَهدِمُ تشريعاتِ القرآنِ الكريمِ أو السُّنَّةِ المُطهَّرةِ"... ومضى!

إذًا، إذَا ما دققنا أكثر في آية التعدد والتّي تقول: "فانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖفَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا"، الآية ٣ من سورة النساء. هذه هي آية التّعدد التي يردِّدها الشيوخ ونردِّدها نحن، والتّي يؤكد شيخ الأزهر على قراءتها كاملة. في حقيقة الأمر هي مقتطعة. آية التّعدد كاملةً هي: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا"، الآية ٣ من سورة النساء.

لدينا هنا جملة شرطية، الشرط فيها هو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ) وجواب الشرط هو (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ...). السّؤال الأول الذّي يخطر على البال مباشرة هو: ما علاقة عدم القسط في اليتامى بجواب شرطها أي بالنِّكاح المتعدد أو تعدد الزوجات؟

والسؤال الثاني هو لماذا تم تجاوز الجزء الأول من الآية؟ هو تجاوز مقصود طبعا الغرض منه تمتيع الرجل جنسيا بتأمين أربع زوجات له. أمّهات اليتامى هنَّ المعنيات بالأمر، لأن هذه الآية ارتبطت بفترة الحروب التّي ذهبت بحياة عدد كبير من الرجال تاركين أرامل لديهن أطفال. وطبعا القراءة التاريخية للنص غير معترف بها. والآية التّي تسبق آية التعدد مباشرة تقول: "وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا". الحديث إذا إنّما هو عن اليتامى وحفظ أموالهم في الأصل وليس عن الرجل، عن كفالة الأيتام وليس التعدد.

لو فرضنا الآن أن لدينا من يُقرُّ بأنّ تعدد الزوجات مثلا ارتبط بوضع معيّن وبفترة معيّنة كانت تستوجب الزّواج بأكثر من واحدة يعني هو يُقرُّ بالقراءة التاريخية للنص الديني أي أنّه يضع النص المرتبط بالتعدد في سياقه التّاريخي ويتجاوزه. فلماذا حين تُطرح قضية المساواة في الارث مثلا، نفس الشخص يرمي بهذه القراءة التاريخية للنّص عرض الحائط ويلتزم بالنص حرفيا ويقول براهنيّته؟ في حين أن الظُّروف التي كانت "تسمح" في وقت ما للمرأة بعدم التناصف مع الرجل لم تعد قائمة اليوم! ويقول حينها أن أحكام المواريث قطعية الثبوت والدلالة لا تحتمل التأويل والاجتهاد في حين أنّه، كما أشرت سابقا، يُّقر بوضع النَّص ضمن سياقه التاريخي في ما يتعلق بالتعدد.

"آيات الحدود أيضا هي قطعية الثُّبوت، الشّيء الذّي غض عنه شيخ الأزهر النّظر، مثل آيات المواريث ومع ذلك كانت الغلبة للقوانين الوضعية ونفس الشخص بالتأكيد لا يعارض هذه القوانين الوضعية التّي تجاوزت النص. إذًا، لماذا هذه المماطلة في قراءة النّص القرآني؟"

إعادة تأسيس الدين على العقل، أي بجعل العقل حكما ومرجعا في أمور الدّين والعقيدة، بدلا عن قراءة الموروث المتأسسة على سلطة النقل وتوخِّي القراءة التاريخية لهذا الموروث كلُّها صارت ضرورات ملحَّة لنتكيّف مع متطلبات حاضرنا. "فـالنص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على عشرين عامًا، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهيّة ومتفقًا عليها، فإنَّ الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثمَّ إمكانيَّة الفهم العلمي للنص". (١٥)

يجب البحث والتدقيق في الفترة التّي تمَّ فيها تجميع القرآن ويجب نزع الأسطرة عن تفاسير القرآن ويجب أن ينخرط التراث الإسلامي بكليّته في الحركة العلميّة بتطبيق المنهجية التاريخية عليه. و"لا ينبغي أن نترك هذه المهمة لرجال الدّين ولحُرَّاس الأرثودوكسية العقائدية في كل طائفة ومذهب. هؤلاء لن يجدِّدوا فهم الدين ولا يستطيعون ذلك أصلا إنما سيظلون أصلا مصرِّين على مواقعهم اللاهوتية القديمة التي تبجِّل الذات وتكفِّر الآخرين. هذه المهمّات الفكرية التفكيكية والتحريرية تقع على كاهل النخبة العلمية الحديثة".(١٦) وهو ما برهن عليه شيخ الأزهر في هذا المؤتمر، إذ من خلال مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، وهذا ليس إنتقاصا من أهميته، يسعى القائمون عليه إلى إيهام أنفسهم والنّاس بأنّهم قادرون على المساهمة في تجديد الفكر الإسلامي ضمن الإطار المعرفي للعقلية التراثية السلفية المسيطرة عليهم. وهذا ضرب من الوهم كشفه شيخ الأزهر في كلمته الاختتاميّة للمؤتمر، إذ قال: "ابحثوا عن مشكلة أخرى غير التراث، وقال أيضا: "اتركوا التراث لرجاله"، أي لحُرَّاسِه الأرثودوكسيون.

أما آن السَّماح للعقل أن يتواجد في نفس المكان مع من صادر مكانه بعنف لقرون طويلة؟ أما آن أن نتخلى عن الأحاديّة لصالح التعدديّة؟ أما آن للمراجعات الفكرية العميقة والدّقيقة أن تنبعث وللمصالحات أن تتحقّق؟ أما آن لعمليّة تجديد الفكر الإسلامي أن تبدأ؟ وأيُّ تجديد لن ينمو إلاَّ في إطار تغيير شامل يطال التعليم ومناهجه التّي يجب أن تتصالح مع الفلسفة والعلوم الإنسانية. أيُّ تجديد يتطلّب مساعدة من رجال الدين التقليدين. و"ينبغي على المفكر المسلم المعاصر أن لا يجرح الوعي الإيماني وألاّ يعامله بفجاجة وينبغي على علماء الدين التقليديين أن يؤدوا دورهم كوسطاء ذوي مصداقية بين هذا الوعي الإيماني وبين متطلّبات المعرفة العلميّة الحديثة".(١٧)

ختاما أعتقد أنٌنا مدعوُّون بجدية بالغة إلى عقلنة تعاملنا مع تراثنا فـ"ما لم نمارس العقلانية في تراثنا ومالم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث فإنّنا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصّة بنا. حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة -العالميّة - كفاعلين وليس كمجرد منفعلين".(١٨)

 

هدى شقراني

هدى شقراني كاتبة وباحثة من تونس

حقوق النشر: قنطرة 2020

 



———————-

 

المراجع:

 

(١)، (٢) هاشم صالح، الأصولية الإسلامية، ملخص الكتاب

(٣) كريم مروة، كتاب تحديث المشروع الاشتراكي، ص ١٧

(٤)، (١٣)، (١٤) حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، المجلد الثاني: المعتزلة - الأشعرية - المنطق، ص ٤٨٩، ٤٤٣، ٤٤٤

(٥)، (١٠)، (١٦)، (١٧) محمد أركون، قراءات في القرآن، ص ١٩، ٨٢، ١٠٩ - ١١٠، ٢٣٨

(٦) محمد علي مقلد، الأصوليات - بحوث في معوقات النهوض العربي، ص ١٢

(٧)، (١٨) محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي

(٨)، (٩) فواز الطرابلسي، الديمقراطية ثورة، ص ١٧

(١١) حسين عودات، الآخر في الثقافة العربية الإسلامية، ملخص الكتاب

(١٢) ادوار سعيد، الاستشراق

(١٥) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص - دراسة في علوم القرآن