أصوات يهودية ضد الاحتلال غير مسموعة في الغرب

مظاهرة ضد معاداة السامية في برلين - في سبتمبر / أيلول 2014.
مظاهرة ضد معاداة السامية في برلين - في سبتمبر / أيلول 2014.

الأصوات اليهودية أكثر تنوعا واختلافا عما يراه الرأي العام الغربي في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. يهوديات ويهود معارضون لإجحاف الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية يستحقون الاحترام والحماية من حملات الشيطنة. رؤية الصحفية والخبيرة الألمانية بشؤون العالم الإسلامي شارلوته فيديمان لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : Charlotte Wiedemann

يعرض موقع "أصوات يهودية راديكالية" في موقعه الالكتروني في بريطانيا ملصقاً يحمل مسمى " لنعمل على إحياء اللاسلطوية اليهودية مجددًا"، وذلك تذكيرًا بأول حراك قوي شهدته مدينة نيويورك قبل ما يقارب مائة عام وصدور جريدة "فرايه أربياتَر شتيمه" والتي تعني "صوت العمال الأحرار" باللغة اليديشية [ لغة يهود أوروبا].

وذاكرتنا الثقافية لا تعرف إلا القليل عن حياة أولئك اليهود ممن كان لهم رأي مختلف عما كان سائدًا لدى الطبقة الوسطى ممن يؤمنون بالدولة وبالرأسمالية؛ فالشائع عن اليهود أنهم ليسوا إلا مجرد ضحايا، كما لو أنهم لم يكافحوا قط، وكما لو أنهم لم يكونوا يومًا جزءًا من حراك يطالب بعالم أكثر عدلًا. وقد احتلت الحركة الصهيونية وحدها مكانًا منفردًا ضمن هذه التراتبية التاريخية، كما لو لم يكن هناك حركة يهودية معارضة لها على الإطلاق.

كما أن للانطباعات التاريخية السياسية دور في تكوين هذه الصورة عن اليهود، فيُقابل أي تيار يساري يهودي معارض بكثير من الارتياب من قبل الرأي العام المحلي، سيّان إن كان ألماني المنشأ أم إسرائيلي المنشأ. فالكل جاهز لإبداء عدم الثقة ولاتخاذ وضعية الدفاع مباشرة حتى قبل أن يلفظ اللسان مصطلحات من قبيل "نظام الفصل العنصري" [في سياق السياسة التي يطبقها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية]. ذلك أن عقيدة يهودية خارجة عن المألوف هي مسألة تقض المضاجع وتبعث على إعادة التمعّن.

وحقيقةُ أني أُطلق تسمية "المنشقين" -على نساء اليهود ورجالهم ممن يعارضون الاحتلال الإسرائيلي الظالم للأراضي الفلسطينية- لها علاقة مباشرة بمعرفتي بموازين القوى الألمانية؛ ولو كنت أميركية لما تسنّى لي ذلك ربما من الأساس.

يستحقون الاحترام بدلًا من الشيطنة

وقد أتاحت الأسابيع المنصرمة [مايو/أيار 2021] فرصة للتعرف على سلسلة من الأصوات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، ممن وحّدهم شعار " ليس باسمي"، وذلك في ضوء سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يسمح أيضًا بتكوين فكرة عما يمكن أن تعنيه اليهودية دينًا وثقافةً في مجتمعات الشتات.

ومن هذه الأصوات على سبيل المثال التجمع اليهودي البلشفي في فيينا في النمسا، الذي يستند في توجهاته على مبدأ الدويكيت، وهو مصطلح يعني في اللغة اليديشية التحرر الاجتماعي ليهود الشتات ومعارضة كل أشكال الهوية القومية.

ففي معرض الرد على معاداة السامية، يعتمد التجمع اليهودي البلشفي في فيينا على مبدأ التقاطعية [لإيجاد التشابهات بين أشكال التمييز العنصري]، وعليه، تُكافَح كراهية اليهود -شأنها شأن العنصرية- على أنها أحد أنواع التمييز، ولا يتم التعامل معها على أنها شيء منفصل ومختلف، ولا ينظر إليها على أنها شر يتقدم الشرور الأخرى.

ومثل هذا النهج يجب أن يثير الجدل، لا سيما في النمسا أو ألمانيا. ويستحق اليهود -المستعدون في سياق التضامن مع فلسطين لتحمُّل كل أنواع كراهية اليهود التي تتغذى على اليأس من ظلمٍ طالما جرى انتقاده- في رأيي، الاحترام وليس الشيطنة.

 

 

وذلك لا يُلزمنا بأي حال من الأحوال بأن نعجب بأي لهجة معارضة يهودية. وأذكر في هذا السياق مشهدًا عاصرته في مدينة الخليل، عندما كان ممثل منظمة "كسر الصمت" يشرح الاستخدام الأحادي للطرقات (عزل الفلسطينيين عن المستوطنين اليهود خلال استخدام الطرقات) قائلًا: "أنتم أيها الألمان! بماذا يمكن أن يذكركم هذا؟".

وكان الجواب الصحيح لسؤاله: الـ "غيتو" [عزل اليهود في أحياء خاصة - يقترن ذكر الكلمة بالمآسي التي لقيها يهود أوروبا]، ولكن لم يستطع أحد منا نطق هذه الكلمة. وحتى بالنسبة للإسرائيليين المعارضين في ألمانيا قد تصبح الأمور صارخة، ويبدو المَشهد كما لو أن أحد أفراد العائلة ينهض منفعلًا ليدخن أمام باب المنزل ويرمي بعقب السيجارة في الحديقة الأمامية.

هنا الأطهار وهناك أولاد الشوارع المُنْحَطُّون

وقد تطلَّب الأمر مني مدة من الوقت لكي أتمكن من فهم ظاهرة الحراك اليهودي اليساري عن قرب. فقبل عامين اتخذت مترددةً موقفًا صحفيًا حيال الخلاف الدائر حول منح جائزة غوتينغِن للسلام، حين دافعت عن جمعية "الصوت اليهودي من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط" ضد الاتهامات الموجهّة لها بمعاداة السامية، وهي التهمة التي ما لبثت أن تم توجيهها لي لاحقًا.

فالأمر لا يتطلب سوى القليل ليتم اتهامك بأسوأ ما يمكن أن تتخيله. وسرعان ما ظهر اسمي في عمود إحدى الصحف شبَّه أقوالي بأقوال زعيم النازية هتلر. كما شبّهني بعضهم الآخر بمارتن فالزر. وفي حين لا يجب أن تؤخذ مثل هذه المقارنات على محمل الجد، بكل تأكيد، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من أين يبدأ التعامل بجدية مع مثل هذه المسائل؟ (فإذا استغرقت أنا نفسي وقتًا طويلاً لأجد إجابة على ذلك، فكيف لامرأة فلسطينية أن تجد الجواب على ذلك؟)

إن اندفاعي للدفاع عن نفسي من خلال تقديم الدلائل على مدى تأثير الهولوكوست على حياتي لهو أمر مثير للسخرية. وإنه لعمري لمن الهراء أن يقوم بعضهم بإلصاق تهمة مدمرة على أشخاص آخرين، هكذا وبمنتهى السهولة، بدون بذل جهد لإلقاء ولو نظرة خاطفة على السِّيَر الذاتية والهوية والتكوين الفردي؛ وهم في ذلك لا يكلِّفون أنفسهم سوى جهد ضئيل، كمن يرسم خط على الرمال ليشرح من خلاله أن العالم مكون من قسمين، قسم أول يضم الأطهار، والقسم الآخر يحتوي أبناء شوارع مُنحَطين.

والأمر أصعب على اليهوديات واليهود، ممن يسبحون عكس التيار، حيث يتم النظر إلى التكوين الذي جعلهم على الحال التي هم فيها على أنه شيء بلا أي قيمة. وقد كتب الأخصائي التربوي مايكل سبير مؤخرًا أن كثيرًا من الناس لا يفهمون مقدار "الجهد، والنقد الذاتي، والتكوين الذاتي" الذي استغرقه الإسرائيليون أمثاله ليصبحوا معارضين راديكاليين لسياسة الاحتلال. كما يظن بعض أحفاد المسؤولين عن الهولوكوست ببساطة أن هؤلاء اليهود لا يولون للهولوكوست أهمية لكونهم معارضين.

 

 

الانشقاق اليهودي يشكّل تحديًا

ومن الصعب أن يتم التقليل من حجم ما يشكِّل بالأساس أقلية صغيرة، ومن ثم أن تنهض هذه الأقلية للوقوف في وجه الصورة الرائجة لإسرائيل، والتي تخفف العبء عن كاهل الألمان كثيرًا. وأنا نفسي لم أرغب سابقًا في الانخراط فكريًا في التعقيد الخاص بالانشقاق اليهودي، وكنت لا أجد ما يمكن الاستناد عليه للخوض في ذلك. أما اليوم، فأنا أعتقد بحتمية مواجهة اليسار لهذا التحدي.

وأود اليوم، بصفتي مواطنة ألمانية خبرت الحياة، القول، إن تحمُّل ألمانيا المسؤولية عن المحرقة بعد مدة طويلة من الممانعة قد أتاح لقسم كبير من أبناء جيلي أن يفرض نفسه في الاتجاه الفكري السائد الذي نعتقد اليوم أننا ظفرنا به، أو شاركنا مع غيرنا في تحقيقه. ومن ثم أضفنا هالة من القداسة على ما حققناه، وارتأينا أن خير الأمور هو البقاء في الوسط.

لكن نظرة إلى نتائج الاستطلاعات تؤكد بأن شيئًا لم يتحقق على المدى الطويل. فحين تثبت تقارير المعلمين إلى أي حد يقف الجيل اليهودي اليافع (ليس فقط في المهجر) بعيدًا عن الهولوكوست، تتضح ضرورة تطبيق نهج جديد لمقاربة المسألة.

واليوم يمكن لهذه الأقليات بالفعل أن تُظهر لنا الكيفية التي تربط بين المتضامنين الراديكاليين ومناهضي النزعة الفاشية للتغلب على الطريقة الألمانية البحتة في التعرف على نفسية الآخرين وفهمها. صحيح أن هذا التيار اليهودي المنشق صغير جدًا، إلا أنه تيار مهم ضمن سياق التغييرات الأخيرة.

 

 

شارلوته فيديمان

ترجمة: حسام الحسون

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:44254]