نبش ذاكرة الجرائم الفرنسية إبان الثورة الجزائرية

تطالب الجزائر منذ الاستقلال باعتراف فرنسي رسمي عن جرائم الاستعمار بين عامَيْ 1830 و1962. لكن باريس تؤكد أن الأبناء «لا يمكن أن يعتذروا عما اقترفه الآباء»، وتدعو إلى طي الملف والتطلع للمستقبل المشترك. أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد عُرِفَ بمواقفه الجريئة، ودعا للاعتذار عن جرائم الماضي. توفيق المديني ينبش لموقع قنطرة ذاكرة جرائم الكولونيالية الفرنسية تجاه الثورة الجزائرية.

الكاتبة ، الكاتب: توفيق المديني

مع احتفال الجزائر بالذكرى الـ 55  لاستقلال البلاد( في الخامس من تموز/يوليو1962)، الذي تزامن مع وصول الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون للحكم، قال الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في رسالة للجزائريين بمناسبة هذه الذكرى، إن «فرنسا التي باشرت معها الجزائر المستقلة بناء شراكة استثنائية، يجب أن تكون نافعة لكلا الطرفين، وهي شراكة لن يزيدها الاعتراف بحقائق التاريخ إلا صفاءً وتَوَثُّباً».

وأوضح الرئيس الجزائري أن هذا «التذكير بالماضي لا يتضمن أي دعوة للبغضاء والكراهية، حتى وإن ظل الشعب الجزائري مصرا على مطالبة مستعمر الأمس بالاعتراف بما اقترفه في حقه». وشدد بوتفليقة على أن استذكار الماضي وما تكبدته الجزائر من خسائر، وما عاشته من مآسٍ تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، هو حفظ للذاكرة ووفاء للأسلاف الذين قاوموا من أجل استقلال دولة المليون شهيد.

جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر

وتطالب الجزائر منذ الاستقلال باعتراف فرنسي رسمي عن جرائم الاستعمار بين 1830 و1962، لكن باريس تؤكد في كل مرة أن الأبناء «لا يمكن أن يعتذروا عما اقترفه الآباء»، وتدعو إلى طي الملف والتطلع للمستقبل المشترك.أما الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون الذي وصل للحكم في شهر أيار/مايو 2017، فقد عُرِفَ بمواقفه الجريئة فيما يتعلق بملف جرائم الاحتلال الفرنسي للجزائر، بل وينتظر بعض المتابعين في الجزائر أن تقوم فرنسا بالاعتذار عن حقبة الاستعمار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عند قصر الإيليزيه في باريس وإلى جانبه جنرالان فرنسيان.
نحو 132 عاما من الاستعمار الفرنسي للجزائر...(الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عند قصر الإليزيه في باريس وإلى جانبه جنرالان فرنسيان): سبق وأثار ماكرون غضب بعض التيارات السياسية الفرنسية عندما صرح في حواره له مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية «إن 132 عاما من الاستعمار الفرنسي للجزائر شهدت جرائم وأفعالا بربرية التي ستصنف اليوم بوصفها جرائم ضد الإنسانية». كما دعا خلال زيارته للجزائر في شباط/فبراير 2017 فرنسا للاعتذار عن جرائم الماضي، لا سيما تلك التي ارتكبت إبان حرب استقلال الجزائر التي انتهت في عام 1962.

وسبق وأثار ماكرون غضب بعض التيارات السياسية الفرنسية عندما صرح في حواره له مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية «إن 132 عاما من الاستعمار الفرنسي للجزائر شهدت جرائم وأفعالا بربرية التي ستصنف اليوم بوصفها جرائم ضد الإنسانية». كما دعا خلال زيارته للجزائر في شباط/فبراير 2017 فرنسا للاعتذار عن جرائم الماضي، لا سيما تلك التي ارتكبت إبان حرب استقلال الجزائر التي انتهت في عام 1962. وقد أثارت تعليقات ماكرون ردود فعل غاضبة في سباق انتخابات الرئاسة آنذاك وخاصة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن، وفيون الذي شجب هذه التصريحات ووصفها بأنها تنم عن «كراهية لتاريخنا»، ولكنها لاقت ترحيبا واسعا في الجزائر.

لا تزال صفحة الماضي المتمثلة بالحقبة الكولونيالية، و حرب التحرير الوطني، تلقي بإرثها وحمولتها التاريخية الثقيلة على مستقبل العلاقات الفرنسية- الجزائرية. فالماضي الكولونيالي يسيقظ من سباته،و يطفو على السطح،وتهب رياحه عاتية كلما أرادت فرنسا والجزائر التقدم على طريق إبرام معاهدة صداقة بين البلدين.

في هذا الماضي الكولونيالي تحتل الجزائر مكانة خاصة، بسبب المآسي التاريخية التي حلت بالشعب الجزائري. ويعلمنا التاريخ أيضا، وبالدرجة الأولى، أن النظام الكولونيالي المتناقض جذريا مع المبادىء والقيم التي نادت بها الثورة الديمقراطية الفرنسية، قد أدى إلى ارتكاب مجازر بمئات آلاف الجزائريين، و اقتلعهم من أرضهم، وشردهم ،أو «clochardises » إذ استعدنا التعبير الدقيق الذي استخدمه الباحث  الفرنسي جرمان تيليون، في توصيفه لتلك  المأساة التاريخية.

الحقبة الكولونيالية...حمولة تاريخية ثقيلة

المنظرون لإعادة الاعتبار للكولونيالية تناسوا مئات آلاف القتلى، المدنيين في معظمهم، الذين قتلتهم الأرتال الجهنمية للجنرال بوجود وخلفائه بين عامَيْ 1840و1881، متسببة في عملية ترحيل قسري  ومشهدي للسكان، مات جراءها  ما يقارب 900000 «من البلديين» كما كانوا يسمونهم في ذلك الوقت. لقد تناسوا الغزوات الدموية المنظمة، والسلب الجماعي، الذي كان يستهدف منح الكولونيين القادمين من المتروبول أجود الأراضي الزراعية.

لقد تناسوا أيضا قانون إدارة المستعمرين،هذا الأثر التذكاري التاريخي لعنصرية الدولة الفرنسية ، الذي تم تبنيه في 28 حزيران/يونيو 1881 من قبل الجمهورية الثالثة لمعاقبة «العرب»  على أساس معايير عرقية و ثقافية، الخاضعين لحملة عسكرية وعدالة استثنائية، في تناقض صارخ مع المبادئ كلها المعترف بها من قبل المؤسسات و إعلان حقوق الإنسان والمواطن.

حركيون يمشون في شوارع الجزار عام 1957. و"الحركيون" هم جزائريون مسلمون جندهم الجيش الفرنسي واستعملتهم فرنسا من أجل قمع الثوار الجزائريين والتجسس عليهم.
حركيون يمشون في شوارع الجزار عام 1957. و"الحركيون" هم جزائريون مسلمون جندهم الجيش الفرنسي واستعملتهم فرنسا من أجل قمع الثوار الجزائريين والتجسس عليهم. ,لا تزال صفحة الماضي المتمثلة بالحقبة الكولونيالية، وحرب التحرير الوطني، تلقي بإرثها وحمولتها التاريخية الثقيلة على مستقبل العلاقات الفرنسية- الجزائرية. فالماضي الكولونيالي يسيقظ من سباته،و يطفو على السطح، وتهب رياحه عاتية كلما أرادت فرنسا والجزائر التقدم على طريق إبرام معاهدة صداقة بين البلدين.

لقد تناسى هؤلاء المجازر التي ارتكبت قبل سبعين عاما في الجزائر، والتي تعتبر مروعة، و لم يسبق لها مثيل منذ حرب الإبادة، في مدن سطيف، قالمة، وخراطة، وفي إقليم قسنطينة شرق الجزائر، الزمان: 8 أيار/مايو 1945. ماذا جرى في ذلك اليوم الذي يعتبره المؤرخون بعد مرور أكثر من سبعين سنة عليه، أنه كان «الفعل المؤسس» لثورة التحرير في الجزائر التي اندلعت بعده بنحو عشر سنوات، وقادت البلاد إلى الاستقلال؟

في ربيع تلك السنة انضوى الوطنيون الجزائريون تحت لواء جمعية «أصدقاء البيان والحرية»، أسسها فرحات عباس، وضمت إلى جانب التيار المعتدل الذي كان يمثله، ممثلون عن جمعية العلماء المسلمين التي كان يرأسها في ذلك الوقت الشيخ البشير الإبراهيمي، خليفة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وعن حزب الشعب الجزائري بزعامة مصالي الحاج، أب الوطنية الجزائرية، وأول من رفع راية الاستقلال عن فرنسا.

ونظم هؤلاء جميعاً مظاهرات خاصة بانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية في 8 أيار/مايو 1945. فخرج الجموع في أنحاء البلاد. و في مدينة ستيف حمل المتظاهرون  الأعلام الوطنية. فكان ذلك مثيرا لحفيظة المستوطنين و رجال الشرطة. وانطلقت الشرارة الأولى التي سرعان ما أشعلت معركة حامية تردد صداها في جميع مدن قسنطينة. وطغت على التظاهرات التي عمت مختلف المدن الجزائرية شعارات حزب الشعب الأكثر جرأة، وطالب أنصاره بإطلاق سراحه من المنفى الذي أرسل إليه في مدينة برازافيل الافريقية. وانتهى ذلك اليوم ببضع عشرات من القتلى والجرحى منهم 102 قتيل فرنسيا.

كان رد السلطات الاستعمارية الفرنسية  على السكان الذين نزلوا إلى شوارع مدينة ستيف، في غاية القسوة و العنف الكولونيالي الأعمى، إذ سقط حوالي «45000 شهيدا» بحسب إحصائيات السلطات الجزائرية الرسمية، في حين تتحدث السلطات الفرنسية عن عدد القتلى  يتراوح بين 15000 و 20000 قتيلا.

مسلمون يمشون عن عند الجامع الكبير في باريس.
أسطورة تمدن الكولونيالية الفرنسية : (في الصورة مسلمون يمشون عن عند الجامع الكبير في باريس) رغم كل حقيقة تاريخية، يدافع الممثلون الفرنسيون عن أسطورة الكولونيالية بوصفها رسالة حضارية و تمدينية متطابقة مع المثل والقيم التي اشتهرت فرنسا بالدفاع عنها في هذه الأرض الجزائرية. بينما يحتاج طي صفحة الماضي الكولونيالي، إلى شجاعة سياسية وأدبية وأخلاقية عالية، من الجانبين الفرنسي و الجزائري، فالتاريخ لا يطوي صفحاته من تلقاء نفسه، كما يرى توفيق المديني.

منظمة إرهابية فرنسية تقول إن «الجزائر فرنسية وستبقى فرنسية»

بعد خمس وخمسين سنة من نهاية الحرب الجزائرية، لا يزال القتلة من منظمة OAS -التي كانت تدافع عن بقاء الجزائر فرنسية- الذين قتلوا عدة آلاف من الجزائريين، وقاموا بعدة عمليات إرهابية في ذلك الوقت، في المستعمرة و المتروبول  لعل أشهرها محاولة اغتيال الجنرال ديغول في 8 سبتمبر 1961، قبل ستة أشهر من إبرام إتفاقية إفيان عام 1962، هؤلاء القتلة يتم تكريمهم رسميا في بعض البلديات الفرنسية في ظل الصمت و التواطؤ من قبل أعضاء الحكومة الفرنسية والمسؤولين الرئيسيين للأغلبية الحالية، كلهم يحبون السلطة أكثر مما يحبون الحقيقة التاريخية، خاصة عندما تؤثر مباشرة على مصالحهم الانتخابية وتحالفاتهم السياسية المحلية.

إذا كانت فرنسا فتحت خزائن الذاكرة التاريخية بسبب الجرائم التي ارتكبت في الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وفي الحرب العالمية الثانية 1939-1945، حين تعاون نظام الماريشال بيتان مع النازيين، فإنه آن الأوان لكي تفتح الخزانة الثالثة للذاكرة التي تحتوي على جرائم ارتكبت باسم فرنسا إبان الثورة الجزائرية، فيما كان يعرف فيما مضى بالحقيقة التاريخية أصبح الآن حقيقة سياسية يبين فيها الواجب و الأخلاق.

إن صعوبة المقاوم للنازية فرانسوا ميتران في مواجهة العميل فيشي،هي الصعوبة عينها التي يواجهها اليوم زعماء فرنسا بسبب جرائمها في الجزائر، إذ إن الوقائع التاريخية ماثلة اليوم أمام الجميع. وهي معلنة وصريحة، وتتحمل مسؤوليتها حكومة الجمهورية الفرنسية الرابعة المتمتعة بسلطات استثنائية، والتي خططت وأمرت وغطت على الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في الجزائر في مواجهة المقاومة الوطنية التحررية، بوصفها تتناقض كليا مع كل القوانين الإنسانية، بما فيها قوانين الحرب.

آن أوان أن تفتح فرنسا ذاكرة جرائمها تجاه الجزائر

إن الواجب الذي فرض نفسه على فيشي يفرض نفسه اليوم على الجزائر، إذ إن الجانب الاستعراضي العام و التفاخري الذي قام به الجنرال أوساريس عبر كتابه الذي دوّن فيه جرائم الحرب، يفرض على الدولة الفرنسية واجب القيام بالاعتذار التاريخي.أما صمت السلطات العليا في الدولة و عدم القيام بهذا الاعتذار، فإنهما يعنيان القبول بالديالكتيك الإجرامي الذي يضطلع بمسؤوليته المنظم السابق لحملة الإرهاب و القتل في الجزائر الجنرال أوساريس و سواه من العسكريين .

شعار منظمة الجيش السري OAS الفرنسية. commons.wikimedia
منظمة إرهابية فرنسية تقول إن «الجزائر فرنسية وستبقى فرنسية»: تُعتَبَر منظمة الجيش السري OAS منظمة إرهابية فرنسية. تأسست عام 1961. وهي تضم المناصرين للأطروحة القائلة إن الجزائر فرنسية. وترى المنظمة أن الإرهاب وسيلة مشروعة لتحقيق ذلك. أول ظهور للاختصار OAS كان على جدران عاصمة الجزائر مصحوباً بشعار: "الجزائر فرنسية وستبقى فرنسية".

إن المسألة لم تعد قضية المؤرخين، كما زعم في السابق رئيس الحكومة السابق ليونيل جوسبان ، فقد قام هؤلاء المؤرخون أمثال: "بيير فيدال ناكيت" و "بنجامين ستورا" ، بأعمالهم منذ وقت طويل، حين فضحوا ممارسات الجيش الفرنسي أثناء حرب الجزائر. المسألة هي سياسية بامتياز. وهي من دون شك قضائية أيضاً.

لقد كانت السلطات الفرنسية باسم الصراع ضد الحصانة من العقاب، تطالب لندن بتسليم الجنرال الراحل أوغيستو بينوشيه لمحاكمته في فرنسا في بداية الألفية، وأيضاً بالنسبة لقيادات الخمير الحمر التي ارتكبت جرائم إبادة ضد شعبها في كمبوديا، وكذلك بالنسبة لمجرمي الحرب في يوغوسلافيا، تطالب بتقديمهم إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، في حين أنها ترفض تقديم مجرمي الحرب في الجزائر إلى المحاكمة، لا سيما تقديم الجنرالين ماسو وَ أوساريس، اللذين اعترفا بارتكاب جرائم التعذيب.

وكان أوساريس أعلن أنه ليس "نادما أو آسفا"، قائلا إنه تم إقرار التعذيب على أعلى المستويات بالحكومة الفرنسية وكان ذلك ضروريا للحصول على معلومات استخبارية. وبموجب شروط العفو ما بعد الحرب لم يكن بالمستطاع محاكمته بارتكاب جرائم حرب. وبدلا من ذلك، حوكم و أدين لكونه اعتذر عن جرائم الحرب – وهي جريمة يعاقب عليها بالغرامة. كما جرى تجريده من رتبته العسكرية ووسام جوقة الشرف وهو أعلى الأوسمة في فرنسا.

رغم كل حقيقة تاريخية، يدافع الممثلون الفرنسيون عن أسطورة الكولونيالية بوصفها رسالة حضارية و تمدينية متطابقة مع المثل والقيم التي اشتهرت فرنسا بالدفاع عنها في هذه الأرض الجزائرية. بينما يحتاج طي صفحة الماضي الكولونيالي، إلى شجاعة سياسية وأدبية  وأخلاقية عالية، من الجانبين الفرنسي و الجزائري، فالتاريخ لا يطوي صفحاته من تلقاء نفسه.

كما أنه من الصعب جدا تجاوز تاريخ الذاكرة لشعب بأكمله، حتى وإن أسهم المؤرخون في ردم الهوة المحفورة بين فرنسا و الجزائر. ثم إن مواقف  الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون  بشأن نقده للماضي الكولونيالي  والتي لاقت ترحيبا واسعا في الجزائر، تقتضي أن تقدم فرنسا اعتذاراً واضحا للشعب الجزائري، حتى يستطيع تجاوز تاريخ الألم.

 

 

توفيق المديني

حقوق النشر: توفيق المديني  2017

ar.Qantara.de