اللاجئون يرفضون الإرهاب واتهامهم به خبط عشواء

بعد سلسلة اعتداءات جُرمية أو عنصرية أو إرهابية حدثت في ألمانيا أصبح اللاجئ لا يكاد يضع رأسه على فراشه إلا ويضع يده على قلبه خوفاً من تبعات أي عمل عنيف مضى أو يمكن أن يسمعه صبيحة اليوم التالي. منصور حسنو يسلط الضوء من ألمانيا لموقع قنطرة على مرض نفسي جديد قد يضاف إلى قاموس الأمراض النفسية، يُسمى (قلق الإرهاب).

الكاتبة ، الكاتب: منصور حسنو

لا يضع اللاجئ رأسه على فراشه إلا ويضع يده على قلبه خوفا من تبعات أي عمل إرهابي مضى أو عمل آخر يمكن أن يسمعه صبيحة الغد. بهذه الكلمات لخصَّ لي ضياء حياته اليومية في ألمانيا بعد سلسلة الاعتداءات الجرمية أو الإرهابية التي حدثت في ألمانيا مؤخرا ، وهي الحالة العامة شبه اليومية التي يعيشها السوريون وغيرهم من الوافدين الجدد إلى دول الاتحاد الأوروبي، ومن الوارد جداً أن يتشكل لدى اللاجئين مرض جديد يضاف إلى قاموس الأمراض النفسية يسمى (قلق الإرهاب).

وقلق الإرهاب هذا يشكّل أكبر صورة من صور الرفض للإرهاب من جهة ورفض اتهام البشر به خبط عشواء من جهة ثانية.

يجب أن نضع في الحسبان أن جيلاً تكوَّن تحت حكم الاستبداد الشرقي أعواما طوالا لا يمكن أن يكون جيلا سليما نفسيا بمقاييس الصحة النفسية، وعليه فإنَّ اللاجئ أو الهارب من ويلات الحروب والحرمان -أو الذي أراد أن يقاوم الموت وفق التعبير الفرويدي هروباً إلى الحياة في مجتمع جديد تختلف ثقافته وشروطه- لا بدّ أن يصاب بمزيد من النكسات النفسية، فالحياة الحديثة معقدة ولم يسلم من تعقيداتها أبناء الوطن الأم فكيف بالقادمين من مجتمعات تختلف كليا عما هو عليه الواقع الجديد.

عندما طرح فرويد وخلفه فروم ويونغ أمراض النفس البشرية لم يكن ثمة عرب ولا مسلمون في بلدانهم وهم يدرسون النفس الإنسانية عموما، وقد تنبؤوا بما يمكنه مساعدتنا في فهم الواقع الجديد.

فالوعي بمخرجات الشعور بالإخفاق والإحباط وعدم الاتحاد مع الآخر وعدم التقبل وفقدان الأمل هو بداية لفهم النفس البشرية بغية علاجها والارتقاء بها، ولهذا لم تكن مقولة : ليس بالخبز وحده يحيا الانسان إلا تعبيرا عن حاجات أكثر أهمية للإنسان في أي مجتمع كان.

شاب يعمل في إحدى الوُرَش في ألمانيا.
تعزيز مناهج اندماج اللاجئين في ألمانيا يجب ألا يقتصر على اللغة فحسب بل أن يتعداها إلى تأمين أعمال تشغل الناس واللاجئين، فالعمل يضيف للحياة معنى، والإنتاج يشعر الإنسان بفاعليته في هذه الحياة، كما يرى منصور حسنو.

اغتراب وإرهاب!

كثيرون من أبناء المجتمع الألماني يعرفون معنى أن تكون لاجئاً وقادماً من بلدان تسودها الحروب والصراعات والقتل، وقد أنشأوا قنوات تواصل مع اللاجئين لتخفيف الضغوط النفسية عليهم وتأتي منظمة الكاريتاس ودياكوني في قائمة المنظمات التي تساهم وتعين اللاجئين ماديا ومعنويا وروحيا وكما يقول ماركس: العاطفة الوحيدة التي تشبع حاجة الإنسان إلى أن يوحد نفسه مع العالم هي الحب، إنّ الحبّ هو اتحاد المرء مع شخص أو شيء خارجه على شرط إبقائه على انفصال ذاته وسلامتها.

إنَّ إخفاق المرء التام في وصل نفسه بالعالم هو الجنون، وإن أي شكل من أشكال التواصل هو الشرط لأي نوع من العيش السوي، فالتواصل مع الآخر هو الحياة الخلاقة المبدعة وإنَّ أي جدار يبنى ويحول دون هذا التواصل يتحول إلى طاقة تدميرية وفق ما يرى إريك فروم عندما يقول : التدميرية هي نتيجة الحياة غير المعيشة.

كثيرون من طالبي اللجوء مكثوا في هذه البلاد شهورا عدة ولم يبت في مصيرهم ومنهم من وضع في منازل في قرى بعيدة عن أي تجمع بشري وهم ينتظرون وينتظرون، وهذا ما أسهم في تشكيل عقدة نفسية لديهم وقد التقيت ببعضهم، ولا يمكن إلا وصفهم بالمتأزمين نفسيا والقلق والترقب والاكتئاب حالتهم اليومية.

ويجب الاعتراف بأنَّ الإنسان غير السوي نفسيا يلجأ إلى العنف، ولو كان هذا العنف داخلياً ذاتياً قهرياً من الداخل أو خارجياً ولو لفظيا على أدنى تقدير.

والرغبة في التدمير ليست الحالة الطبيعية للإنسان ولكنها نتيجة ظروف اجتماعية سيئة وكما نعرف دقة العبارة التي تقول: إن وجودنا الاجتماعي هو الذي يحدد وعينا وليس الوعي هو الذي يحدد وجودنا.

امرأة لاجئة تسجل نفسها عند الشرطة
كثيرون من طالبي اللجوء مكثوا في هذه البلاد شهورا عدة ولم يبت في مصيرهم ومنهم من وضع في منازل في قرى بعيدة عن أي تجمع بشري وهم ينتظرون وينتظرون، وهذا ما أسهم في تشكيل عقدة نفسية لديهم وقد التقيت ببعضهم، ولا يمكن إلا وصفهم بالمتأزمين نفسيا والقلق والترقب والاكتئاب حالتهم اليومية، كما يقول منصور حسنو كشاهد عيان على حالة اللاجئين في ألمانيا.

هذه الحال النفسية المتدهورة عند بعض اللاجئين لا شك ستكون مدخلا واسعا لبعض الإيديولوجيات المدمرة كـ "داعش" وأخواتها التي يراقب عملها كثير من الدارسين، وهم لا شك يتابعون مواقع التواصل الاجتماعي وقد انتبهوا إلى هذه الثغرة في نفوس بعض اللاجئين، فالذي وصل إلى حالة عنيفة من الاكتئاب والاغتراب والرهاب لا شك سيكون فريسة قرار جهنمي قد يتخذه بينه وبين نفسه، وكما نعلم فإن الانتحار لا يرتبط إطلاقا بضيق الحالة المعيشية، بل إن فروم قدم دراسة عن الانتحار في الدول الأوروبية فكان السبب الرئيس الافتقار إلى الاستقرار الذهني والصحة النفسية.

ولما كان أغلب طالبي اللجوء ينتمون إلى ثقافة تحرِّم الانتحار قد يختار بعضهم ممن شوهت نفوسهم وفقدوا معنى الحياة أن يتخذ الخيار الخادع المخادع وهو الانتحار انتقاما من هذا المجتمع بعد أن يكون قد أخضع لعمليات غسيل دماغ عن طريق الإيديولوجيات المتطرفة التي تسوغ له مثل هذا الفعل، وقد لفت الدكتور علي وطفة الى هذا المعنى عندما قال : ممارسة القمع والإرهاب ظاهرة اغترابية بحد ذاتها ولذلك يكمن الاغتراب في أصل العنف ويكمن العنف في أصل الاغتراب وتتداخل الظاهرتان في كينونة واحدة.

ما الحل ؟

  لمّا كانت التدميرية هي الخيار البديل للأمل كان لا بدّ من زرع الأمل في صفوف اللاجئين بل في صفوف البشرية كلها، فالهامشية والإحباط وعدم الاتحاد وفقدان المعنى وغياب الأمل كل ذلك يجب التخلص منه عبر تعزيز مناهج الاندماج والذي يجب ألا يقتصر على اللغة فحسب بل في تأمين أعمال تشغل الناس واللاجئين، فالعمل يضيف للحياة معنى والإنتاج يشعر الإنسان بفاعليته في هذه الحياة، وكما وصف فروم: العمل هو محرر الإنسان من الطبيعة وخالقه بوصفه كائنا اجتماعيا مستقلا أي سَبْك الطبيعة التي هي خارج نفسه وتحويلها بأن يسبك نفسه ويحولها.

ويذكرنا الشاعر العربي بهذا المعنى :

إنّ الشبابَ والفراغ والجِدَة .... مفسدة للمرء أي مفسدة

لاجئون شباب قاصرون في ألمانيا.
الذي وصل إلى حالة عنيفة من الاكتئاب والاغتراب والرهاب لا شك أنه سيكون فريسة قرار جهنمي قد يتخذه بينه وبين نفسه، وكما نعلم فإن الانتحار لا يرتبط إطلاقا بضيق الحالة المعيشية بل إن فروم قدم دراسة عن الانتحار في الدول الأوروبية فكان السبب الرئيس الافتقار إلى الاستقرار الذهني والصحة النفسية، بحسب ما يعتقد منصور حسنو.

وكما لا ينبغي أن تبعدنا المثالية التي خرجت من هذه الأرض عن الواقعية والقول إنًّ ثمة أفكارا سابقة ما يزال يحملها بعض اللاجئين كامتلاكه الحق المطلق والحقيقة الخالدة، وعوض أن يسعى لتطوير نفسه وقدراته في المجتمع الجديد يريد من المجتمع الجديد والثقافة الأخرى أن تطاوعه وتخضع لمقولاته في الدين وتفسير الحياة، وهذا ما يجب العمل على التخلص منه عبر تعزيز الثقافة الإنسانية وتجفيف منابع الكراهية وتأويل النصوص بغاياتها في خدمة الحب والتسامح،  فالإنسان الذي لم يتحرر من روابط الدم والأرض ليس مولودا تاما بوصفه إنسانا وقدرته على الحب معطلة.

والشعور بالانتماء إلى المجتمع الجديد يتطلب منا أن ندين بصوت عالٍ كل عمل إرهابي وعدم السماح بلصقه بأي قومية أو ديانة، كما يتطلب التعاون مع السلطات في كل ما يعزز أمن هذه البلاد ويحفظ نفوس البشر وكما يقول الله: (فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

   من هذه الأرض الجرمانية خرج التنوير المنصف للشرق المسلم، ومن هذه الأرض خرجت النزعة الإنسانية، ومنها خرجت العقلية الكونية التي لا تعرف الحدود، وإن أرضا أخرجت كانط وهيغل وليسنغ وماركوز وفرويد وفروم وغوته والعشرات من صانعي أفكار العالم لجديرة بأن نعطيها كما تعطينا وأن نكون عونا في معالجة نفوسنا وعونا في معالجة الإرهاب، وألاّ نسمح له بتهديد مصيرنا ومصير السلام العالمي المنشود.

 

منصور حسنو

حقوق النشر: موقع قنطرة 2016

ar.Qantara.de