حوار ثقافي مشرقي مغربي
تلاشي عقدة التفوق والدونية بين المشارقة والمغاربة

عقدة تعود جذورها على الأقل إلى العصر الأندلسي لكن لماذا تكاد تتلاشى ويخفت صوت الجدل ليحل محله صوت تناغم وتعدد في إطار وحدة الثقافة العربية؟ تحليل إبراهيم مشارة.

تعود جذور القضية على الأقل إلى العصر الأندلسي حين استقبل المشارقة كتابا أدبيا في شكل موسوعة شعرية ونثرية  في ذلك الوقت وليست هذه الموسوعة سوى كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي (860م/940م) فما كان من الصاحب ابن عباد الوزير والأديب إلا أن قال بعد أن تأمله: (ظننا فيه شيئا من أخبار بلادهم فإذا هي أخبار بلادنا، بضاعتنا ردت إلينا)..وأهمل الكتاب.

كم الثوب وذيل الطائر

إن هذه المقولة من الصاحب ابن عباد تعني أن ابن عبد ربه أهمل أدب وتاريخ الأندلس والمغرب لحساب أدب المشرق وأخباره وهذا يعني ضمنيا أن الكاتب كان قد وقع تحت تأثير عقدة  المشرق أي  التسليم بتفوق المشارقة فهم متن ودونية المغاربة فهم هامش، حساسية تاريخية لها جذور ضاربة في القدم حيث تظل أخبار وأشعار وخطب المشرق في الصدارة.

كما أن الكتاب لا يحتفى به إذا تضمن أشعار وأخبار بلاد المغرب ويرسخ هذا القول أقوال تم تداولها تقلل من شأن المغرب والأندلس ككم الثوب وذيل الطائر وهي تصف هذه البلاد بالهامشية والتبعية.

ومما لاشك فيه أن المشرق في المخيال والضمير المغربيين  يعني أرض النبوة ومهبط الوحي ومهد الشعر ، هكذا إذاً تغدو الأوضاع غير متكافئة بين مشرق صدر اللغة والوحي والشعر ومغرب استقبلها واستهلكها وقلدها وتأتي تلك الأقوال الآنفة الذكر وغيرها كثير مما هو مبثوث في كتب التاريخ لتكرس هذا الرأي.

وفي العصر الحديث تكرس كذلك هذا الاتجاه في شكل صيحات من لدن المغاربة عن إهمال المشارقة لهم ولأدبهم ولبلادهم ففي عام 1937 كتب الكاتب الجزائري فرحات الدراجي مقالا مهما بعنوان "كلمة عتاب إلى إخواننا الشرقيين " ومما جاء فيه: (إن المشارقة لا يعرفون عن المغرب وشؤونه وتاريخه شيئا كثيرا وقلما نجد كتابا للمشارقة عن المغرب سالما من الأخطاء)، وعندما سئل عن علة عزوف المشارقة عن أدب المغاربة أجاب: (إن ذلك يعود إلى مركز العلو لدى المشارقة ومركب النقص لدى المغاربة من حيث يجب أن تزول هذه النظرة).

ثم أدلى الكاتب الجزائري أبو يعلى الزواوي الذي عاش بمصر واشتغل بالصحافة فحمل على المغاربة ودعاهم إلى الاهتمام ببلادهم وشؤونهم وثقافتهم وكان عنوان مقالته "اشتغالنا بالشرق أنسانا أنفسنا"ومما جاء فيها (لقد أسرفنا أخيرا في الإقبال على كل ما يرد علينا من المشرق إسرافا أفقدنا الثقة بأنفسنا فكل ما يلفظه بريد الشرقيات ينال لدينا كل الإعجاب والتقدير وإن كان لا يحمل إلينا بعض الأحيان إلا شرورا ومفاسد وسموما أما ما يظهر لدينا وينبت في حقلنا فلا يستحق شيئا من ذلك وما ذنبه إلا ظهوره في ربوعنا لا في ربوع الشرق).

وقد خاض الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض في الجدل وفصل القول في هذه الجدلية في كتاب شهير وصغير الحجم في آن واحد عنوانه "الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق".

الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة. Brahim Mechara Algerischer Autor Foto Privat (2)
تكاد تتلاشى هذه العقدة ويخفت صوت الجدل: العقدة المشرقية كما اصطلح على تسميتها في النصف الأول من القرن العشرين، أوالجدل الثقافي كما وسمه بعض النقاد في نهاية القرن إشكالية ثقافية ظلت فاعلة ومؤثرة زمنا وقد أدى ذلك إلى إهمال كثير من التراث الثقافي المغاربي في إطار جدلية الصراع بين المركز والأطراف أو المتن والحاشية (عقدة التفوق/ عقدة الدونية)، لكن مع جدارة الثقافة المغاربية وريادة الأدب المغاربي واحتلاله الصدارة قراءة ونقدا وأرقام مبيعات، والتلاقح الثقافي والرحلات والمؤتمرات العلمية والثقافية والأماسي الشعرية ومعارض الكتب وثورة الاتصالات تكاد تتلاشى هذه العقدة ويخفت صوت الجدل ليحل محله صوت التناغم والتعدد في إطار وحدة الثقافة العربية وتغدو الخصوصية المغاربية رافدا هاما للأدب العربي وللثقافة العربية والإنسانية، وفق ما يكتب الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة.

عريضة عتاب للمشارقة

وهو يمضي في عتاب المشارقة وتعداد وجوه تقصيرهم في حق الثقافة المغربية عامة وعلق فهمي هويدي على الكتاب بقوله (ولا نبالغ كثيرا إذا قلنا إن هذا الكتاب الذي لا تزيد صفحاته عن 140 هو بمثابة عريضة اتهام للمشارقة تدعونا بصوت عال لأن نراجع موقفنا ومعلوماتنا عن المغرب والمغاربة).

وكتب المفكر التونسي محمد مزالي في كتابه  "في دروب الفكر" في نفس السياق معددا وجوه النقص في التعاطي مع الأدب والثقافة المغربيين، كما أن لقاءات أصيلة الثقافة المغربية خصصت أحد لقاءاتها لتناول هذه القضية الشائكة.

مما سبق يعني أن المغاربة من تونس والجزائر والمغرب قد أنحوا باللائمة على المشارقة لإهمالهم أدب وفكر وثقافة المغرب العربي وتاريخه، وجمعوا الدلائل والشواهد والقرائن المؤيدة لوجهة نظرهم. فمنها قلة المعرفة بالمغرب العربي واللامبالاة معا فوهران تصبح آوران وقسنطينة تصبح قسنطين مع أن المدينتين ذكرهما باسمهما الصحيح ياقوت الحموي في معجم البلدان، والتاريخ هو تاريخ المشرق يبدأ من العصر الجاهلي فصدر الإسلام فالعصر الأموي والعباسي فعصر الضعف والعصر الحديث دون التطرق إلى دولة الأغالبة والأدارسة والزيانيين والرستميين  والمرابطين والموحدين في المغرب. كما أن لويس معلوف في منجده للغة والأعلام أتى على  ذكر الصحف العربية وأهمل الجزائر تماما مع أنها عرفت 90 دورية. وانخرط أحمد أمين في نفس الطرح النابذ في كتابه زعماء الإصلاح في العصر الحديث فلم يتناول واحدا من زعماء الحركة الإصلاحية في الجزائر كابن باديس مثلا.

ومما آلم فرحات الدراجي أنه أهدي المشارقة سجل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1935 فلم يكتب عنه أحد حتى الزيات صاحب الرسالة الذي انشغل بالحديث عن كلب العقاد وسنور المازني كما كتب.

ويزيد المغاربة في عريضة اتهام المشارقة بالإعراض عن كل ما هو مغربي وأنهم مثلا يسقطون اسم الجزائر حين الحديث عن الدول العربية ومنها أن فريد الأطرش في أغنية على بساط الريح أهمل الجزائر تماما مكتفيا بذكر تونس والمغرب فقط في الشمال الأفريقي.

وزاد الطين بلة زيارة أحمد شوقي للجزائر للاستشفاء عام 1904 فما زاد على أن قال عن البلد معرضا به (لا عيب فيها أي الجزائر سوى أنها قد مسخت مسخا وقد عهدت مساح الأحذية يستنكف النطق بالعربية وإذا خاطبته لا يجيبك إلا بالفرنسية" وقد أغضب هذا القول الشيخ ابن باديس فرد عليه (فاعجبوا للاستدلال على حال أمة بمساح الأحذية إلا أن فقيدنا العزيز لو رأى من عالم الغيب حفلنا هذا لكان له في الجزائر رأي آخر ولعلم أن الأمة التي أنجبتها العرب لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام  ونوائب الأيام) وكان هذا في حفل إحياء ذكرى شوقي.

وزار سلامة موسى الجزائر عام 1930وأفاض في التقليل من شأن البلد وتاريخه حتى إنه قال: (إننا لا نجد في الجزائر حركة وطنية بينما نجد في الهند حركة وطنية هي غاية في القوة وذلك لأن الفرنسيين قتلوا الروح الوطنية في الجزائر بمقاومة اللغة وليس في الجزائر أية نهضة، ليس فيها نهضة للاستقلال أو لإحياء القومية أو أي نهضة أخرى ثقافية، فالشباب المتعلم هناك واحد من اثنين فهو إما فرنسي الثقافة واللغة لا يعرف من العربية غير الألفاظ التي يتكلم بها في البيت وإما عربي اللغة والثقافة قد تعلم في معهد يشبه المعاهد الدينية عندنا يقرأ الكتب القديمة ولا يتصل بالحضارة الحديثة بأي نسب وهو يعيش في انزواء عن العالم الحاضر يؤمن بحجاب المرأة ويقاطع كل شيء أوروبي فيبقى مهزوما طول حياته".

الحواضر الثقافية الكبرى كالقاهرة وبيروت وبغداد والشام

وفي نفس السياق وبدرجة أقل حدة ناقش المكفر البحريني محمد جابر الأنصاري القضية لكنه نظر إليها من زاوية أخرى فهو لا ينكر وجودها لكنه ربما التمس لها العذر ورأى فيها شيئا من الغلو والافتعال الزائد فقد كتب في "من أجل تفاعل بلا عقد  بين المغرب والمشرق"(عانت الجزيرة واليمن والخليج من الإهمال أكثر من المغرب وهي مشرق المشرق، عقدة تفوق مشرقية تجاه الثقافة المغربية؟).  وهو يرى أن الجزيرة العربية نفسها عانت من التهميش من قبل المشارقة ولم يرفع عنها الغبن إلا الطفرة النفطية التي جعلت المشارقة يقبلون على الخليج حبا في دولاراته قبل كلماته  ولنلاحظ هنا أن المشرق الذي هو مصر والشام والعراق يغدو مغربا بالنسبة للجزيرة العربية.

ويرى الأنصاري وله كثير من الصواب أن العالم العربي قبل الخمسينيات كان كله أشبه بريف ثقافي قياسا إلى الحواضر الثقافية الكبرى كالقاهرة وبيروت وبغداد والشام وبالطبع فالأنظار تتوجه إليها كونها مهد الصحافة والإعلام والسينما والاحتكاك بالغرب ودور النشر وبها كبار الكتاب والنقاد ومن أراد شيئا من الشهرة فعليه بهذه الحواضر.

هكذا فعل علي أحمد باكثير ومالك بن نبي ونزار قباني والنجفي بينما لم يسعف الحظ الزهاوي والرصافي  والعريض كثيرا لأنهم بقوا في بغداد والمنامة مع أنهم يستحقون كثيرا من الاحتفاء وذيوع أعمالهم.

ولقد أفاض مرتاض في الحديث عن عزلة الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي والستار الحديدي الذي ضربه عليها فقد عزلها عن محيطها العربي والإسلامي وفرض عليها لغته وثقافته ومنع تواصلها مع جيرانها المغاربة ومع المشرق وفرض رقابة كبيرة على ذلك واحتاجت الجزائر إلى وقت طويل  لتجمع شملها وتصفي الاستعمار بالثورة الشاملة.

بل إن الحصار والتمزيق فرضه الاستعمار الأوروبي على العالم العربي برمته وهكذا كانت جريدة العروة الوثقى تسافر بحرا من فرنسا إلى الهند لتنال موافقة المفوض البريطاني قبل أن تصل إلى ميناء الإسكندرية واحتاج الريحاني إلى الحيلة وإلى جواز سفر أمريكي ليسافر إلى ربوع الجزيرة العربية وليكتب كتبه الكبيرة "ملوك العرب" و "قلب العراق" مثلا في حين يسافر الرحالة الأوروبيون والأمريكيون بكل سهولة في ربوع العالم العربي مشرقه ومغربه.

مغاربة وجدوا الاحتفاء لدى المشارقة

ومن زاوية أخرى بيدو أن هناك شيئا من الغلو والافتعال الزائد في الحديث عن هذه العقدة المشرقية والاستعلاء المشرقي فعلى الرغم من الاستعمار والعزلة التي فرضها الاستعمار إلا أن بعض الأعلام من المشارقة زاروا الجزائر ونشطوا بها فرحل إليها محمد عبده عام 1903وذكر البشير الإبراهيمي أن تلك الرحلة مهدت لظهور الحركة الإصلاحية كما زارت فرقة جورج أبيض الجزائر ومثلت بها ثلاث مسرحيات "صلاح الدين الأيوبي" و"شهامة العرب" وتولى الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الدعاية للثالثة بنفسه "مجنون ليلى"، وأفضت تلك الزيارة  إلى تكوين جمعية الآداب والتمثيل الفني في الجزائر المستعمرة كما زارها الموسيقار سامي الشوا وكتب الأمين العمودي أن تكريم الفن هو إسهام في إحياء الأمة العربية، ثم هناك زيارة يوسف وهبي عام 1950حيث استقبل وفرقته بحرارة، كما زارها فريد الأطرش وكل هذا حدث والجزائر مستعمرة.

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة