"لقد سِرنا نصف الطريق التونسي ولا بد من بناء الوعي السياسي"

المشكلات السياسية أو الاقتصادية لا تمثِّل على المدى المتوسط أكبر تهديد لعملية التحول الديمقراطي في تونس، بل إن ما يمثل هذا التهديد هي أزمة الدولة. فـ"بسبب عدم قدرة الدولة على العطاء لا يتم احترامها وهذه مفارقة، لأن التونسيين يمارسون الديمقراطية لكنهم لا يقبلون بتبعات الديمقراطية ونتائجها"، كما أنه ما زال ثمة تأخر في الوعي الوطني وتقديس للأفراد وشعور سائد بأن "المواطن ليس هو مَن أسّس الدولة بل الدولة هي التي ابتكرت المواطن"، وفق ما يقول الباحث سليم اللغماني لموقع قنطرة في حواره التالي مع الألمانية سارة ميرش.

الكاتبة ، الكاتب: Sarah Mersch

كيف تتجلى أزمة الدولة، التي تتحدَّث حولها؟

سليم اللغماني: هذه الأزمة تتجلى بشكل أساسي في علاقة المواطن التونسي مع الدولة. فهو لا يفهم الدولة على أنَّها نتيجة لإرادته، بل كشيء يقف خارج المجتمع ويسمو عليه. ولذلك فهو لا ينخرط في الدولة. وهذا الأمر كان مفهومًا تمامًا في عهد الباي (أي عهد الـ "بيه" أو الأسرة الحاكمة في تونس سابقًا)، لأنَّ هذه الأسرة كانت أسرة تركية، فرضت نفسها على المجتمع مثل جسم غريب. وكذلك في عهد الحماية الفرنسية كان هذا أمرًا طبيعيًا، وذلك لأنَّ الدولة الفرنسية كانت بطبيعة الحال أجنبية.

غير أنَّ هذه الظاهرة استمرَّت حتى في تونس المستقلة. فهي لم تكن دولة التونسيين، بل دولة الحبيب بورقيبة، دولة الأب، دولة المؤسِّس والوَصِّي وبالتالي فقد كانت الدولة مرة أخرى جسمًا غريبًا. صحيح أنَّ الحبيب بورقيبة كان يمتلك شرعية تاريخية، ولكنها ليست ديمقراطية. وعندما أمر بتعيين نفسه في عام 1974 رئيسًا للبلاد مدى الحياة، تحوَّل إلى باي جديد. وهكذا فقد انفصلت الدولة مرة أخرى عن المجتمع.

هل استمر ذلك على هذا النحو مع زين العابدين بن علي؟

سليم اللغماني: في عهد بن علي أصبحت هذه الظاهرة أشد من ذي قبل. إذ إنَّ طابع الدولة الخارجي بقي موجودًا، ولكن من دون جاذبية ومن دون شرعية بورقيبة التاريخية. فقد تحوَّلت الدولة إلى جهة مختصة بالعطاء والعقاب. ولكن ابتداءً من منتصف الثمانينيات لم يعد بإمكانها أن تكون دولة رفاه. وقد بلغت الحال ذروتها في أزمة عامَيْ 2007-2008، اللذين انسحبت الدولة خلالهما بشكل تام ولم تعد قادرة على إعطاء أي شيء. وهنا يكمن أصل الثورة.

في عامي 2007-2008 حدثت انتفاضة الرديف في مناطق مناجم الفوسفات في جنوب غرب تونس…

سليم اللغماني: بالضبط. في تلك الأيَّام لم نكن نعرف بعد أنَّ هذه كانت البداية. لقد وقعت الانتفاضة بالتزامن مع أزمة عالمية ولم تعد دولةُ الرفاه قادرة على إعطاء أي شيء. ولهذا السبب لم تعد لدى الدولة أية شرعية، وذلك لأنَّ شرعيتها الوحيدة كانت تكمن بطبيعة الحال في بناء الطرق والمستشفيات والمدارس. وبمجرَّد أنَّها لم تعد قادرة على القيام بذلك، فإنها لم تعد موجودة.

Staatsgründer Habib Bourguiba; Foto: dpa/DW-Fotomontage
"Ihr seid lauter Einzelteilchen, ich mache aus euch eine Nation." Worte aus einer berühmten Rede von Staatsgründer Habib Bourgiba. Laut Slim Laghmani ist es nicht der Bürger, der den Staat etabliert hat, sondern umgekehrt hat der Staat den Bürger geschaffen. Der Staat wird als Fremdkörper wahrgenommen.

لماذا لم تتغير مع الثورة علاقة التونسيين هذه بالدولة؟ ولماذا لم ينخرط الناس في الدولة التي كانت دائمًا غريبة عنهم؟

سليم اللغماني: الدولة لا تزال غريبة بالرغم من الثورة. أمَّا فكرة أن الدولة لا تمتلك الشرعية إلاَّ حينما تكون قادرة على فرض إرادتها، فقد أصبحت هذه الفكرة من الماضي. ومع ذلك لم يستوعب التونسيون أنَّ هذه الدولة لم تعد الآن جهة خارجية تفرض إرادتها على المواطنين.

وعلى الرغم من الانتخابات الحرة فإنَّ الدولة لا تزال جسمًا غريبًا. ففي عام 2011 تولت السلطة وحدةٌ جديدةٌ، وثقافةٌ جديدةٌ وخطابٌ جديدٌ. فحزب النهضة ظهر بلغة لم يفهمها الناس جيدًا في البداية، بلغة عربية فصحى متأثرة كثيرًا بلغة القرآن. وبالتالي فقد بات يتم فهم الدولة مرة أخرى من قبل الطبقة التونسية المتوسطة، من قبل البرجوازيين، على أنَّها جسم غريب. ولكن الدولة كانت لا تزال غير قادرة على إعطاء أي شيء: ففي عام 2011 تم تفريغ الخزائن، وفي عام 2012 لم يعد هناك أي شيء يمكن إنفاقه. وهكذا فَقَدَتْ الدولة شرعيتها من جديد.

ومع انتخابات عام 2014 جاءت المحاولة لخلق التوازن في المشهد السياسي، الأمر الذي نجح أيضًا في البداية مع حزب نداء تونس، الذي أصبح الآن حزبًا ميتًا. ولكن الدولة تبقى جهة خارجية، وذلك لأنَّها ما تزال غير قادرة على الإعطاء، ولهذا السبب لا يتم احترامها. وهذا أمر متناقض لأنَّ التونسيين يمارسون الديمقراطية، بيد أنَّهم لا يقبلون بتبعات الديمقراطية ونتائجها.

وما هي النتائج العملية المترتبة على ذلك؟

سليم اللغماني: النتيجة الأكثر أهمية هي عجز الدولة، التي لم يعد لديها تقريبًا أي مجال عمل، سوى التفاوض. والمراهنة على التفاوض تعتبر بحدِّ ذاتها مفهومًا إيجابيًا. لكن عندما يتعيَّن على المرء أن يتفاوض في كلِّ مرة مع المحامين والقضاة أو مناجم الفوسفات -ويعلم الله مع أية قبيلة في الجنوب أو مع الناس المقيمين عند الحدود مع ليبيا- فعندئذ يصبح هذا وضعًا دائمًا، يضيع فيه أي معنى للمصلحة العامة.

وعلى هذا النحو تبقى هذه العلاقة المَرَضِيَّة مع الدولة موجودة. وهنا تُعَدُّ الثقافة عاملاً مهيمنًا في العلاقة بين المواطن والدولة. إذ إنَّ المواطن التونسي لا يزال يُعرِّف نفسه من خلال خصوصيَّته الخاصة به: "أنا من الجنوب"، و"أنا نقابي"، و"أنا من حزب النهضة"، ولكن ليس من خلال الهوية التونسية.

لقد كان الحبيب بورقيبة يريد مع الاستقلال فرض هوية تونسية على الناس…

سليم اللغماني: لا بل أكثر من ذلك، فقد كان يفعل وكأنما كان هو قد اخترعها بنفسه. فقد قال في خطاب مشهور: "أنتم لستم سوى أجزاء صغيرة منفردة، وأنا سأجعل منكم أُمَّة". وهكذا لا يمكن تقريبًا فهم الدولة في الحقيقة إلاَّ كشيء مُتَعالٍ. وبما أنَّ الدولة ضعيفة اليوم، فيجب عليها تحديدًا أن تتفاوض على كلِّ شيء تقريبًا ومع كلِّ طرف تقريبًا. وهكذا لن تنجح في أن تكون مصدر هوية. وسبب هذه المشكلة بسيط للغاية: فالمواطن ليس هو مَنْ أسَّس الدولة، بل على العكس من ذلك فالدولة هي التي ابتكرت المواطن.

ولهذا السبب إذًا لا يتحمَّل المواطن أية مسؤولية؟

Ex-Diktator Ben Ali; Foto: picture-alliance/dpa
Davongejagt: Ex-Diktator Ben Ali. Unter seiner Herrschaft blieb der externe Charakter des Staates bestehen und wurde zu einer Instanz des Gebens und Bestrafens. Mit Verlust der Möglichkeit zum Bau von Schulen und Krankenhäusern verlor er seine Legitimität.

سليم اللغماني: بالضبط، لأنَّ الدولة تبقى دولة الآخرين، وليست دولتي أنا. وعلى سبيل المثال لقد تم بداية التسعينيات وضع أوَّل هواتف عمومية هنا في الشوارع، مثلما هي الحال في جميع أنحاء العالم. غير أنَّ الناس فكُّوها من مكانها أو أنَّهم أخذوا سمَّاعات الهاتف إلى بيوتهم. ويا ترى كيف كان رد الدولة؟ بدلاً من إبقاء الهواتف في الشوارع، أنشأت الدولة محلات للهواتف خاصة بها. وبذلك توقَّف بطبيعة الحال هذا السلوك، ولكن لماذا؟ لأنَّ الأمر لم يعد يتعلق بأملاك عامة، بل بأملاك خاصة. وهنا يجب الانتباه وتوخي الحذر، فهذا الهاتف مُلْكٌ لأحد ما. وهذه الظاهرة نفسها لا تزال موجودة في شكل آخر حتى اليوم. وهي تشير إلى التأخير في تشكيل الوعي الوطني. آمل أن يكون هذا مجرَّد تأخير.

كيف يمكن استدراك هذا التأخير؟

سليم اللغماني: يجب في البدء بناء ديمقراطية محلية. ويجب أن يرى المواطن أنَّ الشخص الذي يملك السلطة، يُمَثِّله أيضًا. ومع الانتخابات البلدية (من المحتمل إجراؤها نهاية عام 2016) من الممكن أن يتغيَّر الأمر ببطء. فالوعي الوطني يتكوَّن من أسفل إلى أعلى. وبعكس ذلك يكون تكوينه مستحيلًا، وقد ظهر هذا بوضوح.

إذا راقبنا التطوُّرات في الأعوام الأخيرة بإمكاننا أن نحصل على انطباع بأنَّ السكَّان لا يزالون يبحثون عن رجل قوي على رأس الدولة، عن شكل من أشكال شخصية الأب. فمن أين يأتي ذلك؟

سليم اللغماني: هذه مسألة تتعلق بالثقافة السياسية. إنَّ فكرة عدم اعتبار السياسة آلية تتكوَّن من قواعد وقوانين -بل هي صفة الحاكم- هي فكرة راسخة جدًا في تونس. وهذا يعني أيضًا أنَّ المرء لا ينتظر العدالة من القوانين، بل من قبل شخص ما. كما أنَّ فهم العدالة على أنَّها صفة خاصة بشخص ما، فهذا بحدِّ ذاته إنكار للقضاء. وفي عام 2011 انتخب كثير من التونسيين حزب النهضة، لأنَّهم كانوا يعتبرون ممثِّلي هذا الحزب أتقياءَ يخشون الله. وبالتالي فإنَّ السياسة يتم اختزالها في صفات الأفراد الأخلاقية. ولذلك يجب علينا أن نقاطع هذا المنطق.

تونس تعيش اليوم نوعًا من العملية الديمقراطية: حيث يتم إجراء الانتخابات وإصدار القوانين، غير أنَّ منطق المواطنين لا يزال مختلفًا. فكيف يمكن تغيير ذلك؟

سليم اللغماني: هذة مسألة تتعلق بالخبرة، أي بخلق الوعي بالفرق بين صفات الأفراد الأخلاقية والسياسة، الفرق بين المصلحة العامة وتقديس الأفراد. والطبقة السياسية -من اليمينيين وحتى اليساريين- يجب أن تعي ذلك تمامًا مثل المواطنيين.

إذًا هل يعني هذا أنَّ سياسة المنطق القديم تبقى راسخة؟

سليم اللغماني: أَجَلْ، وحتى أنَّها هي المسؤول الرئيسي عن ذلك. نحن نتحدَّث حول وعي سياسي يجب في الواقع أن يكون موجودًا قبل كلِّ شيء في السياسة. غير أنَّ وجوده هناك هو الأقل. وهذا سبب لجزء كبير من تشاؤمي: فغالبية الطبقة السياسية لم تتجدَّد، على الرغم من حدوث ثورة.

التونسيون لن يقبلوا بعد بأية سلطة قمعية، ولكن هنا تنتهي القواسم المشتركة. فما هي السلطة التي يريدونها؟ سنحصل على إجابات كثيرة، غير أنَّها تتعلق دائمًا بمصالح فردية، ولكن ليس بالمصالح الوطنية. إنَّ غياب الوعي الوطني في تونس ملفت للنظر. لقد سرنا نصف الطريق، ولكن يبقى أمامنا النصف الآخر. لذلك لا بد من بناء الوعي السياسي.

 

حاورته: سارة ميرش

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة ar.qantara.de 2016