سيرة "إمام الجهاد" عبد الله عزام...مدخل لفهم الجهادية العابرة للقوميات

عولمة الجهادية تحت المجهر: قبل عدة أسابيع أصدر الباحث النرويجي توماس هيغهامر كتاباً جديداً يسلط فيه الضوء على رحلة الفكر الجهادي العالمي عبر تتبعه لسيرة وفكر الأب الروحي لـ "العرب الأفغان" عبدالله عزام ودوره في نشأة حركة جهادية عبر وطنية في ثمانينيات القرن الماضي. حاوره محمد تركي الربيعو لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : محمد تركي الربيعو

قبل عدة أسابيع صدر لك كتاب جديد باللغة الانجليزية بعنوان "القافلة...عبد الله عزام ورحلة الفكر الجهادي العالمي". ربما يذكرنا عنوان الكتاب بأحد عناوين كتب عبد الله عزام "الحق بالقافلة" والذي دعا فيه الشباب إلى ضرورة الرحيل إلى أفغانستان للقتال والمشاركة في الجهاد. متى بدأت العمل على هذا الكتاب؟ وما الذي ترغب بقوله من خلال إعادة قراءة سيرة هذا الرجل؟

توماس هيغهامر: بدأت العمل على مشروعي هذا في عام 2007، مباشرة بعد انتهائي من رسالتي للدكتوراه حول الجهادية في المملكة العربية السعودية. كان من المفترض أن يكون مشروعاً عادياً لما بعد الدكتوراه يستمر لـ 3 أو 4 أعوام، لكن انتهى الأمر بأن استغرق أكثر من عشر سنوات. والسبب الرئيسي لذلك أنني اكتشفت وجود العديد من المصادر التي ينبغي البحث فيها أكثر بكثير مما توقعته. وخلال مسيرتي، صرف انتباهي أيضاً تطوّرات سياسية عديدة مثل الربيع العربي، والحرب في سوريا، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية.

في البداية لم يكن لدي شيء محدّد أريد قوله؛ أردت فقط التثبّت من الحقائق. ينبغي أن نضع في اعتبارنا أنّ سيرة عبد الله عزام لم تكن معروفة، وكانت المعلومات المتوفرة عنه متناقضة.

أردت أن اكتشف من أين أتى عزام، ولماذا انتهى به المطاف في أفغانستان، وكيف حشد الأفغان العرب، وما الذي آمن به، ولماذا كان له هذا التأثير الكبير. وبشكل أوسع، أردت أن أفهم لماذا ظهرت حركة جهادية عبر وطنية في هذا الوقت بالذات –في ثمانينيات القرن الماضي- وليس قبل ذلك.

وفي الواقع أثّرت الجهادية العابرة للقوميات في السياسات العالمية إلى حد كبير في السنوات العشرين الأخيرة، بيد أننا لم نفهم حقاً كيف ظهرت هذه الظاهرة لأول مرّة.

تشير في كتابك للحظة حرب حزيران 1967 والتي جعلت من الشيخ عزام رجلاً بدون جنسية بسبب لجوئه من فلسطين إلى الأردن. هل هذا الحدث، برأيك، هو السبب الأساسي في تحوّله لاحقاً إلى "بدوي جهادي" (واستعير هنا التعبير من  الفرنسي أوليفيه روا)؟

توماس هيغهامر:: نعم، أعتقد أنّ حياة عبد الله عزام كانت ستتغير بشكل كبير لو لم يغادر فلسطين في عام 1967. لقد كان مرتبطاً بشكل كبير بقريته وعائلته، ولم يكن لديه الكثير من المال، ولذلك درس عن بعد (بدون حضور) في جامعة دمشق في أوائل الستينيات من القرن الماضي.

ومن دون حرب عام 1967، اعتقد أنّه كان سيبقى في الضفة الغربية، مواصلاً دراسته عن بعد، ويصبح إماماً أو مفتياً في منطقة جنين. كما كان سيستمر مع جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينيين ومن الأرجح أنّه كان سينضمُّ إلى حركة حماس، بيد أنني أشك في أنه كان سيغادر أرضه من أجل نزاع في مكان بعيد كأفغانستان. اعتقد أنّ وضعه كمنفي ومرتحل له دور حاسم في فهم مهنته وتوقعاته العابرة للقومية.

"قطيعة عبد الله عزام مع جماعة الإخوان المسلمين إضافة إلى وجوده في الميدان، يساعدان على تفسير راديكاليته النسبية"

عبد الله عزام رأى أن تحرير القدس يجب أن يتم عن طريق كابل.. «لأن العرب قد يقتلوننا قبل قتل اليهود»
اغتيال "إمام الجهاد" عبدالله عزام: في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 اغتيل عبدالله عزام في مدينة بيشاور الباكستانية، الأب الروحي لما سُمّي "العرب الأفغان"، وهم المقاتلون الأجانب الذين سافروا بالآلاف ليقاتلوا السوفيات في أفغانستان طيلة ثمانينيات القرن الماضي.

كان الباحث البريطاني شيراز ماهر قد استعان بمقولة لتروتسكي مفادها ب"أنّ الحرب قاطرة التاريخ" ليقول بأن قرب بعض القادة من المعارك ساهم في زيادة التنافر بينهم وبين المنظّرين أو العلماء الذين يتابعون عن بعد؟ برأيك إلى أي حدّ عززت يوميات عبدالله عزام في باكستان وأفغانستان من خلافه مع العلماء حول أفكار الجهاد؟ أم أنّ الخلاف يعود لما قبل أفغانستان؟

توماس هيغهامر:: هذا سؤال جيد، واعتقد أنّ الإجابة هي نعم. ففي معظم ثمانينيات القرن الماضي، كان عبد الله عزام العربي الوحيد الحاصل على دكتوراه في الشريعة الإسلامية الذي شارك في الجهاد الأفغاني. وقرب نهاية العقد، انضمّ إليه عدد قليل من الآخرين، مثل عبد المجيد الزنداني، لكن حتى ذلك الحين كان عددهم قليلاً جداً. وهكذا فقد شهد عزام أهوال الحرب عن كثب أكثر من العلماء المقيمين في الشرق الأوسط. ربما هذا جعله أكثر ميلاً إلى التنبيه حول الجهاد الأفغاني والدعوة إلى تعبئة عسكرية على نطاق الأمة.

قبل أفغانستان، كان عزام أكثر امتثالاً وأكثر حرصاً على الالتزام بخط جماعة الإخوان المسلمين. لم يكن أي شيء مما كتبه في أواخر السبعينيات جديداً على نحو خاص أو مثيراً للجدل من وجهة نظر إسلامية. نعم، لقد كان متشدّداً، بيد أنّ آخرين كانوا يقولون أشياء مماثلة. ولكن حين انتقل إلى باكستان، أصبح أكثر استقلالية، إذ قطع مع جماعة الإخوان المسلمين بالأردن من حيث أنه توقّف عن تلقّي الأوامر من قيادتهم. لذلك منذ عام 1981 فصاعداً، كان مفكراً حراً حقيقياً. واستقلاليته هذه، إضافة إلى وجوده في الميدان، يساعدان على تفسير راديكاليته النسبية.

 

 

اقرأ/ي أيضا: مقالات تحليلية من موقع قنطرة

أسلمة الراديكالية...عدمية الجهادية قوة تنسف الفجوة بين الأجيال

كيف يمكن تجفيف منابع الإرهاب؟ التصدي للتطرف - سردية دينية مضادة للجهادية السلفية

في ذكرى اعتداءات 11 سبتمبر: "حان الوقت لتبني مقاربة استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب"

الاستبداد حاضنة الارهاب...العنف وليد بيئة عربية تعاني الاختناق

 

عولمة الجهاد تحت المجهر البحثي

ذكرت في إحدى مقابلاتك بأنّ الشيخ عزام يبقى أحد المسؤولين عن عولمة الجهاد، خاصة وأنّ كثيراً من المقاتلين النرويجيين ممن قاتلوا في سوريا تأثّروا بكتبه. ربما تشابه هذه الفكرةُ فكرةً طرحها الباحث الفرنسي جيل كيبل في السابق حول مسؤولية كتب أبو مصعب السوري عن العمليات الانتحارية في أوروبا، وهو رأي لم يحظ بموافقة عدد من الباحثين. برأيك ألا نعيد من خلال هذا الربط قراءة ذاكرة الجهاد بأثر رجعي؟

توماس هيغهامر:: هناك بالطبع هذا الخطر، ولذلك ينبغي علينا أن نكون عمليين وحذرين حين نتحدّث عن التأثير الآيديولوجي. فالفرق بين فكرتي وفكرة جيل كيبل، أنني استطيع تتبّع التأثير إلى أشخاص محدّدين لديهم بيانات فعلية.

أنا أقول أنّ الجهاديين النرويجيين تأثّروا بعبد الله عزام فقط، لأنني أملك دليلاً أن أشخاصاً محدّدين بالاسم كانوا يقرؤون كتبه. على سبيل المثال، حين غادرت شقيقتان صوماليتان-نرويجيتان إلى سوريا في عام 2013، أرسلتا بريداً إلكترونياً إلى والدهما تقولان فيه: "أبي، نحن ذاهبتان إلى سوريا. ولكي تفهم السبب، أرجو أن تقرأ المرفق". وكان المرفق عبارة عن نسخة من كتاب عبد الله عزام "الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان". لا يكون التأثير أكثر وضوحاً من ذلك.

بالطبع، أنا لا أقول أن كتابات عزام هي السبب الوحيد لذهابهما. كان هناك أسباب إضافية: بروباغاندا الدولة الإسلامية، وضغط الأقران، واحتياجات نفسية، وما إلى ذلك. بيد أنني اعتقد أنّ العقائديين مثل عزام يمارسون تأثيرهم، لأن المحاربين الشباب مثل هاتين الفتاتين الصوماليتين متدينون حقاً. إنهم يقلقون من أن يفعلوا شيئاً خاطئاً من وجهة النظر الإسلامية، لأن ذلك يمكن أن يُدخلهم إلى جهنم. لذلك فإنهم يسعون إلى الحصول على مصادقة خارجية على ما يفعلون، والعقائديون أمثال عزام يقدّمون لهم ذلك.

الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب
"الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب": هذا الكتاب عبارة عن أطروحة دكتوراه مترجمة للباحث النرويجي توماس هيغهامر، الذي قضى أعواماً يطارد تفاصيل الحالة الجهادية بالسعودية، منذ نشأتها، وتكوّنها، وروافدها الفكرية، ثم تصاعد المواجهات، وانتقالها للسعودية.

في كتابك الأول "الجهاد في السعودية"، ظهر عبد الله عزام قليلاً ثم توارى عن الأنظار لصالح الجهاديين السعوديين وفي مقدمتهم أسامة بن لادن. اليوم ومن خلال كتابك الذي يتناول سيرة عبد الله عزام، بأسلوب يذكرنا ربما بأسلوب ستيف كول في كتابه "آل بن لادن". لو حاولنا وضع صورتي كلا الشيخين (بن لادن وعزام) وإجراء مقارنة بينهما. ما الذي يجمعهما على المستوى الشخصي؟ وبماذا تختلف الشخصيتان؟

توماس هيغهامر:: كان الشيء الرئيسي المشترك بين عزام وبن لادن هو المثالية (Idealism). اهتمّ كلاهما بالقيم والأفكار أكثر من اهتمامهما بالراحة المادية أو النجاح المهني. كان بإمكان بن لادن أن يعيش حياة هادئة بترف، بيد أنّه ضحى بكل ذلك في سبيل مشاريعه السياسية-العسكرية. كما كان يمكن لعزام أن يعيش حياة أكاديمية مستقرة في الأردن لو أنه فقط أطاع السلطات، بيد أنّ الأهم بالنسبة له كان أن يتكلم عما يعتبره الحقيقة وأن يفعل ما يعتبره الشي الصحيح. ولهذا السبب تواصلا وبقيا اصدقاء؛ رأى كل منهما هذه السمة في الاخر واحترمها فيه.

بيد أنهما اختلفا أيضاً. إذ كان عزام محباً للكتب ومفكراً في حين كان بن لادن فاعلاً ومقاولاً. لم يتعلق الأمر بفارق العمر فحسب. حين كان عزام في الثلاثين من عمره –في عام 1971- ترك الجهاد ليحصل على دكتوراه في الشريعة الإسلامية. وحين كان بن لادن في الثلاثين من عمره –في عام 1987- بدأ بتأسيس تنظيم القاعدة. كان عزام أيضاً أشبه بمهندس توافق في الآراء؛ لقد حاول توحيد الناس. أما بن لادن، من الناحية الأخرى، كان سعيداً بالقيام بأموره الخاصة بغضّ النظر عما اعتقده الآخرون.

دعنا ننتقل من سيرة عزام، لنتحدث عما نعيشه اليوم. في كتابك "ثقافة الجهادي" عملت على فكرة أن هناك حياة أخرى للجهاديين غير ساحات القتال والتدريب، ولذلك حاولت دراسة علاقتهم بالفن مثلاً أو بالأحلام. الآن ونحن نعيش أمام هجوم كورونا، كيف يعبّر الجهاديون عن هذا الوباء؟ ربما هو أمر لم يعيشوه في تجاربهم السابقة؟

توماس هيغهامر:: نعم، من الصحيح أنّ فيروس كورونا هو تحدٍ من نوع جديد بالنسبة للجهاديين أيضاً. من الصعب جداً التكهن كيف سيؤثر بهم على المدى الطويل. إذ تشير التعليقات والميمز (Memes) التي انتشرت حتى الآن إلى اتجاهات مختلفة. يدعو البعض المقاتلين إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة، بينما يقول آخرون أنه لا داعي للقلق ما دام كل شيء في يد الله، في حين يشمت آخرون ويقولون أن فيروس الكورونا هو طريقة الله لمعاقبة الكفّار.

ينبئني حدسي أنّ أعمالهم ستستمر بشكل واسع كما من قبل، لأن معدّل الوفيات بفيروس كورونا بين الشباب منخفض للغاية فلن يؤثر عليهم حقاً. أتوقّع أن يحاولوا الحفاظ على الروح المعنوية من خلال اللجوء إلى المثال التاريخي (طاعون عِمواس) عام 639 م، الذي لم يوقف جهاد المسلمين الأوائل. كما أنني لن أتفاجأ برؤية الفكر الرؤيوي أو القيامي (Apocalyptic) يظهر مرة أخرى في مكان ما في المشهد الإسلامي.

 

توماس هيغهامر باحث نرويجي مختص بدراسة الإرهاب والجماعات الجهادية وهو كبير الباحثين في المعهد النرويجي  في مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية  لدراسات الدفاع، كما يعمل أستاذاّ مساعداً للعلوم السياسية في جامعة أوسلو.
توماس هيغهامر باحث نرويجي مختص بدراسة الإرهاب والجماعات الجهادية وهو كبير الباحثين في المعهد النرويجي في مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية لدراسات الدفاع، كما يعمل أستاذاّ مساعداً للعلوم السياسية في جامعة أوسلو.

 

بعيد الضربات التي تعرّض لها تنظيم الدولة الإسلامية ونهاية خلافته..هل انتهى زمن الجهاد العالمي؟ أم أنه بصدد ترتيب شبكاته من جديد؟

توماس هيغهامر: إنني متفائل بحذر. من المؤكّد أنّ الحركة الجهادية أضعف مقارنة بما كانت عليه قبل خمس سنوات مضت. ويوجد في العديد من الأماكن أنظمة جديدة وأشد صرامة لمكافحة الإرهاب، تجعل من الصعب على هذه الجماعات العمل. أما على الانترنت، فالبروباغاندا الراديكالية أقل انتشاراً من ذي قبل. وبلا شكٍّ، يعمل الذكاء الاصطناعي، وإن كان ببطء، على تحسين قدرات المراقبة لدى الدول. وفي العديد من أجزاء العالم الإسلامي، يبدو أنّ المواقف الشعبية تجاه الجماعات الإسلامية المتشدّدة قد تغيرت؛ هناك نزعة شكٍّ وعداء تجاه جماعات كهذه أكثر من قبل.

في الوقت ذاته، الصورة الحالية غير متوازنة. فالجهادية تتزايد في غرب افريقيا وطالبان تعود إلى السلطة في أفغانستان. والعديد من الجماعات، بما فيها  تنظيم الدولة الإسلامية، خسرت لكن لم يقض عليها بعد. وسيكون هناك الكثير من المظالم لتستغلها الجماعات الإسلامية في السنوات المقبلة؛ التوقعات الاقتصادية للشرق الأوسط قاتمة للغاية، والاستبداد أسوأ مما كان عليه قبل الربيع العربي. وفي أي لحظة، من الممكن أن يندلع نزاع جديد أو حرب أهلية في المنطقة، مما يعيد تنشيط الحركة الجهادية.

كما ينبغي أن نتذكّر أنّ الحركة الجهادية أثبتت مرونتها بشكل ملحوظ تاريخياً. كانت هناك أوقات –كما في أواخر التسعينيات أو حوالي عامي 2010-2011- حين اعتقد الجميع أنّ الخطر قد انتهى، ومن ثم عاد بدرجة كبيرة.

آعتقد أنّ هناك أسباباً للتفاؤل الآن أكثر مما كان في زمن تلك المنعطفات، بيد أنني أريد رؤية بضع سنوات أخرى من التراجع قبل إعلان نهاية عصر الجهاد.

 

 

 حاوره محمد تركي الربيعو

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ترجمة عن الانجليزية : يسرى مرعي

 

 

المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة

تركيا في شرق الفرات: نبع للسلام أم بؤرة جديدة لصراعات مستقبلية؟

كتاب "راهب في الأسر" للأب جاك مراد...هل يمكن محاورة الجهاديين؟

الحركات الجهادية العنيفة ولدت من العولمة... وليس من الإسلام السياسي

هكذا يلاحق محققون ألمان مجرمي "داعش"