"مأساة لبنان هي الطائفية السياسية"

 المفكر واللاهوتي اللبناني البارز مارتان عقاد.
المفكر واللاهوتي اللبناني البارز مارتان عقاد.

أزمة الدولة اللبنانية بلا نهاية تلوح في الأفق. المفكر واللاهوتي اللبناني البارز مارتان عقاد يستكشف الصعوبات وجهود الخروج من المأزق. حاوره إريك سيغل لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Erik Siegl

من الأسباب المباشرة للوضع المتردي الذي يعيشه لبنان اليوم الفساد ودولة "تعيش بما يتجاوز إمكانياتها". ومع ذلك فهذان العاملان يمكن العثور عليهما في العديد من البلدان الأخرى. فلماذا إذاً سقط لبنان إلى هذا الحد؟

مارتن عقاد (مرتان عقاد / مارتان عقاد): إنّ الفساد و"العيش بما يتجاوز الإمكانيات" هي جوانب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظامنا السياسي. فمأساة لبنان، ومصدر جميع مشاكله، هي الطائفية السياسية. ومن جهة أخرى، "الطائفية الموضوعية" هي أمر مختلف، إذ يوجد في لبنان 18 جماعة طائفية بالمجمل. وقد تعيقُ هويات كهذه ظهور هوية وطنية مشتركة، بيد أنها ليست السبب في أزمتنا الحالية.

فـ"الطائفية السياسية" هي نتاج النظام السياسي الذي تأسّس بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، مع الفساد والاحتيال والاختلاس المبرّر بالمصلحة الجماعية والمتستر بها. ويستمدُّ هذا الفسادُ وجوده وهياكله من الانقسامات والطوائف الدينية العديدة في لبنان.

ومن الأسباب الأساسية الأخرى للأزمة الراهنة، أننا كأمة فشلنا في معالجة ماضينا. فبعد 15 عاماً من الحرب الأهلية، أصبح زعماء الميليشيات الطائفية، الذين قاتلوا ضد بعضهم، هم القيادة السياسية الجديدة في لبنان. وفي عام 1991، اجتمع أمراء الحرب واتفقوا على قانون عفو عام، مسامحين بعضهم البعض على الجرائم التي ارتكبوها على امتداد الحرب ومعربين عن نيتهم بألا يتعرضوا للمساءلة.

ونتيجة لذلك، انزلقنا إلى 30 عاماً من فقدان الذاكرة الوطني، والذي يتجلّى في ثقافة الإفلات من العقاب السائدة. وقد خلقت البيروقراطية في البلاد حالة شاملة، وهي بيروقراطية يمسك بها بإحكام أعضاء الميليشيات السابقون وكل منهم يخدم غاياته الطائفية.

 

هل من الإنصاف القول إن الطائفية كانت موجودة تاريخياً في السياسة اللبنانية منذ البداية، وأنها متجذّرة في الواقع السياسي اللبناني؟

عقاد: بما أنّ فكرة الأمم في هذا الجزء من العالم لا يتجاوز عمرها المئة عام، وبالتالي فهي جديدة نسبياً، فأنا أتفّقُ مع هذا الكلام. تأسّست دولة لبنان البدائية بعد الحرب العالمية الأولى تحت الحماية الفرنسية. كما يمكننا المجادلة بأنّ السبب الكامن للحرب الأهلية اللبنانية ارتبط بإيجاد صيغة صحيحة لتمكين هذه المجتمعات المتنوعة من العيش معاً وأن تكون ممثّلة بالتساوي. لم يحقّق هذا أي نموذج يعمل بشكل مناسب من قبل. سيطر المسيحيون الموارنة على لبنان منذ عام 1943 وحتى بداية الحرب الأهلية، والتي كانت بمثابة تعبير قوي عن استياء الآخرين من سيطرتهم على لبنان.

 

انتفاضة 17 أكتوبر 2019 كانت علامة فارقة في تاريخ لبنان.  Lebanese protesters demonstrate against corruption and the political status quo in October 2019 (photo: picture-alliance/Zuma Press)
فجر حقبة جديدة: رغم كل ما كان قد حدث في لبنان فإنّ انتفاضة 17 أكتوبر 2019 كانت علامة فارقة في تاريخ لبنان. والمبدأ الأساسي لـ"حركة التغيير" أو "الثورة" هي رغبة مناهضة للطائفية بدولة مدنية تضمن فرصاً متساوية للجميع. فعلى الرغم من الانتخابات الدورية، لبنان ليست دولة ديمقراطية، بل هي عبارة عن دولة كلبتوقراطية، يحكمها حفنة من المحتالين.

 

أما اتفاق الطائف في عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية، فقد أعاد توزيع السلطة، مع تصدّر التمثيل السني متمثّلاً بشخص رئيس الوزراء رفيق الحريري. الذي كان عصره مرادفاً لإعادة إعمار وسط بيروت المثيرة للجدل بعد الحرب وللثقافة الشعبية المتمثلة في الترفيه والبحبوحة. وهذا ما بقي نقيضاً لـ "ثقافة المقاومة" التي رعاها حزب الله، أي محاربة الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية والغربية. واستمرت هاتان الثقافتان بالتعايش في حالة توتر دائم فيما بينهما. ويمكن القول إنّ اغتيال رئيس الوزراء الحريري في عام 2005 رجّح كفة الميزان لصالح حزب الله.

 

ماذا عن الاحتجاجات الحاشدة ضدّ الطبقات الحاكمة والتي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2019: هل كانت علامة فارقة أخرى؟

عقاد: كانت انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر بمثابة فجر عصر جديد. تسمي نفسها "ثورة" و"حركة تغيير". ويتمثّل مبدؤها الأساسي في الرغبة، المضادة للطائفية، في إقامة دولة مدنية تضمن فرصاً متساويةً للجميع. ومن المؤسف أنّ الأزمة الحالية تجعل من الصعب على المحتجين التعبير عن أنفسهم بشكل قوي وفعال. ومن ناحية أخرى، تخشى النخبة الكلبتوقراطية في لبنان من دخول عنصر جديد لا يمكن التنبؤ به إلى الساحة السياسية فيعطّلَ ألاعيبها.

 

عملت فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وبالتالي صندوق النقد الدولي بنشاط مع لبنان في محاولة لإيجاد مخرج من الأزمة. لماذا برأيك فشلت هذه المبادرات حتى الآن؟

عقاد: فلنفترض أنّ الولايات المتحدة وفرنسا تحاولان حقاً إيجاد حلٍّ للأزمة اللبنانية. فإن كان الأمر كذلك، من المحتمل أنّ الرئيس الفرنسي ماكرون وغيره من أصحاب المصلحة قد استنتجوا ببساطة أنّ "حركة التغيير" ليست شريكاً مناسباً. قد يعتبرونها شديدة الانقسام أو غير مركزية إلى حدٍّ كبير، وبالتالي غير قادرة على قيادة البلد بوصفها بديلاً حقيقياً للأحزاب السياسية الموجودة أو "القديمة". ونتيجة لهذا، يواصل الغرب عقد صفقات بروح من البراغماتية مع النخب الموجودة، على الرغم من رأيه السلبي فيها.

ومن المرجح أن يزعم بعض المراقبون أنّ إنقاذ لبنان من الأزمة الحالية أو أنّ مصالحه على المدى الطويل ليست أولوية قصوى بالنسبة لفرنسا أو للولايات المتحدة الأميركية. إذ يفضّلُ الغربُ أهدافاً جيوسياسية أخرى، مثل تأمين امتيازات التنقيب البحري للنفط والغاز. فهي، في نهاية المطاف، لم تفعل شيئاً ملموساً للمساعدة في مكافحة الفساد السياسي في لبنان الذي أصبح متفشّياً للغاية في العقودِ الأخيرةِ. فكيف حصلت الدولة على هذا العدد الكبير من القروض والمنح من الشركاء الدوليين بأدنى حد من الرقابة والمساءلة؟ وكيف تُنفقُ الأموالُ بشكل غير فعال أو بطريقة غير قابلة للتعقب؟ أليس الغرب متواطئاً؟

 

هل يمكن أن تشكّل الانتخابات التالية فرصة للتغيير؟ وإن لم تفعل ذلك، فلماذا؟

عقاد: على الرغم من الانتخابات التي تنظّمُ بشكل دوري، إلا أنّ لبنان ليس دولة ديمقراطية. فالدولة عبارة عن حكم كلبتوقراطي، ويحكمها حفنة من المحتالين، وهذا امتداد لعصر الحرب الأهلية. فقد أنبثق عن الحرب الأهلية اللبنانية ستة أو سبعة من الزعماء السياسيين الرئيسيين وأحزابهم بوصفهم سماسرة سلطة. أما بالنسبة لنا كمجتمع، فقد تجاهلنا الوضع الراهن وقبلنا بقانون العفو العام عن الجرائم التي ارتُكِبت في الماضي، من دون أن نتعلم أي دروس منها. كما شكّل الاحتلال السوري خلال تلك الفترة عبئاً إضافياً ما زال مستمراً إلى اليوم.

 

يجمع مشروعكم "قادة التغيير " Leaders of Change بين الشخصيات القيادية للحركة الاحتجاجية والأطراف المعنية في المجتمع المدني. ما الذي تسعى إلى تحقيقه؟

عقاد: أنشِئت شركتنا البحثية "الشركاء في الأبحاث الإجرائية" Action Research Associates بهدفين رئيسيين. أولاً، من أجل فهم طبيعة حركة 17 تشرين الأول/أكتوبر وتحديد دوافعها وأهدافها وحلولها. وهذا أمر أساسي، نظراً لوجود الكثير من التشتّت في صفوفها، لا سيما مع رفض بعض الأعضاء موضوع التمثيل والحاجة إلى الهيكلة.

وفي أعقاب المقابلات التي أجريت مع ناشطي حركة 17 تشرين الأول/أكتوبر ومع فاعلين سياسيين مستقلين لا يرتبطون بشكل مباشر بالنظام الحالي، شكّلنا مجموعات تركيز مع من جرت مقابلتهم، وفقاً للموضوعات التي تناسب اهتماماتهم وخبراتهم، لنقوم معاً بتقييم البيانات التي جُمِعت. وقد نتج عن ذلك خمس توصيات أجمع عليها المشاركون والتي من المرجحِ أن تلعب دوراً أساسياً في صياغة الأفكار وتوجيهها عند التخطيط لكيفية إحداث التغيير السياسي المطلوب. والتوصيات مبينة في تقرير أولي، والذي يمكن الحصول عليه باللغة الإنكليزية والعربية.

مبادرة: شركاء في الأبحاث الإجرائية Action Research Associates. "Leaders of change" report produced by Martin Accad's Action Research Associates (source: Action Research Associates)
لا يوجد حل سحري لمشاكل لبنان: يقول مؤسس "شركاء في الأبحاث الإجرائية Action Research Associates مارتان عقاد، ويضيف: "ترفض "حركة التغيير" استخدام العنف لتحقيق أجندتها. نأمل بتسرّب تدريجي لـ"نظام الكارتل". نحن بحاجة إلى المزيد من الشفافية والمساءلة وإلى نظام قضائي مستقل. وهذا ما ينبغي أن يدفع باتجاهه أصدقاؤنا في أوروبا وفي أنحاء العالم".

وواصلت المجموعات، المكونة من النشطاء والفاعلين السياسيين المستقلين، مناقشة كل توصية من التوصيات الخمس هذه، وتوضيحها بشكل عملي. وأسفر ذلك عن مجموعة من نقاط الحوار والعديد من المبادرات العملية التي هدفت إلى تحفيز الخطاب العام ونشر رسالة "حركة التغيير".

وكمنظمين، لا نملك أي طموحات سياسية. وجزء من نجاحنا هو قدرتنا على كسب ثقة المشاركين، تحديداً لأننا محايدون ولا نملك أجندة خفية. فنحن نسعى إلى أن نكون الصلة التي تربط هذه الحركة المتعددة الأوجه معاً.

بما أنّ العديد من مشاكل لبنان الحالية، كما ذكرت، تنتج من عدم الرغبة في معالجة الماضي، فإنّ الهدف الثاني المعلن لمبادرتك هو مساعدة الشعب اللبناني على معالجة تاريخه. كيف يمكن تحقيق ذلك؟

عقاد: هدفنا على المدى البعيد مقاربة التاريخ اللبناني من منظور متعدد السرديات. وما نصّ عليه اتفاق الطائف لعام 1989 أننا كمجتمع بحاجة إلى الاتفاق على كتاب تاريخ مدرسي موحّد. ومنذ ذلك الحين، شهدنا العديد من المحاولات الفاشلة: لا يزال أطفالنا يدرسون التاريخ اللبناني وصولاً إلى العام 1943 فحسب، لأنه ببساطة لا يمكننا الاتفاق على تفسير واحد مشترك للأحداث الماضية. ونحن نعتقد أنّ نهج التاريخ الموحّد خاطئ. ينبغي أن يُدرسَ التاريخ من أجل تطوير القيم المدنية مثل التعاطف والاستماع الفعّال والقدرة على تقبّل وجهات النظر والحقائق المختلفة. أودّ أن أرى الأطفال اللبنانيين يدرسون التاريخَ بوصفه غاية في حدٍّ ذاته، أي كوسيلة لتنمية هذه المهارات. سنكون حينها قادرين على قبول أنّ تاريخنا هو سردية من بين عدة سرديات. كما سيساعدنا ذلك على معالجةِ جذور مشاكل لبنان الحالية.

على الرغم من أنها لم تعد تحتلّ عناوين الأخبار بشكل مستمر، فلا تزال الحرب في سوريا بدون حل. وعودة اللاجئين قليلة جداً على الرغم من الأزمة في لبنان. ما سبب ذلك؟

عقاد: منذ سنوات، كانت سوريا ملعباً لعداوات القوى الإقليمية وسياساتها. ولبنان محصور بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية وسوريا وقد تورّط بعمق في الحرب، ولا سيما عبر حزب الله. إذ أنّ هذه الميليشيا الشيعية المتحالفة بشكل وثيق مع إيران ومع النظام السوري، وسّعت وحتى غيّرت من مسار النزاع. وعلى الرغم من الوضع الحالي في لبنان، يشعر اللاجئون السوريون بأنهم أكثر أماناً بالبقاء في لبنان بدل العودة إلى موطنهم.

كما أنّ اقتصادَيْ الدولتين متشابكان بشكل وثيق. فطالما كان سعر الوقود مدعوماً في لبنان، فإن التهريب إلى سوريا كان مشجَّعاً، على الرغم من الضرر الذي ألحقه ذلك بالاقتصاد اللبناني. كما جمّدت الأزمة المصرفية في لبنان حسابات العديد من السوريين.

يمكننا بالطبع العودة إلى التاريخ مرة أخرى: لم تعترف سوريا قط بشرعية لبنان المستقل أو بحدوده. أثناء الحرب الأهلية (1975-1990)، دعمت سوريا بشكل فعّال مختلف الأطراف المتحاربة تحت وصايتها. وقد أُنشِئ نظام الفساد الحالي وجرى توجيهه خلال فترة الهيمنة السورية والاحتلال الجزئي. ومن المؤسف أنّ لبنان فشل في تحرير نفسه بشكل فعّال بعد الانسحاب السوري منه في عام 2005، حتى أنّ الأمور زادت سوءاً.

وفي الوقت ذاته، فإنني ضدّ وجهة النظر التي تعزو بالكثير من المسؤولية عن أمراض لبنان الحالية إلى الحرب السورية أو حتى تنسب الذنب إلى اللاجئين السوريين. حتى قبل عام 2011، لم يكن لدينا كهرباء على مدار الساعة والأسبوع، ولم يكن لدينا بنية تحتية صلبة، أو اقتصاد قابل للاستمرار، أو ديمقراطية حقيقية. قد يكون للحرب السورية دور ضئيل في تفاقم أزمتنا، ولكن الأزمة كانت بمثابة حادث ينتظر أن يحدث قبل فترة طويلة من اندلاع الاضطرابات في سوريا.

هل هناك ما تود إضافته ليتمكن القراء حول العالم من فهم الأزمة الحالية بشكل أفضل؟

عقاد: من الخطأ الاعتقاد أنّ انتخاباتنا القادمة هي الحل السحري. وترفض "حركة التغيير" استخدام العنف لتحقيق أجندتها. ما نأمل به هو التسرّب التدريجي لـ"نظام الكارتل". نحتاج إلى المزيد من الشفافية والمساءلة وإلى نظام قضائي مستقل. هذا ما ينبغي أن يطالب به أصدقاؤنا في أوروبا وبقية أنحاء العالم.

 

 

حاوره: إريك سيغل

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de

 

مارتن عقاد (مارتان عقاد / مرتان عقاد) حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد البريطانية. وهو مدير الشؤون الأكاديمية في كلية اللاهوت المعمدانية العربية في المنصورية في لبنان، والمدير المؤسس لمعهد دراسات الشرق الأوسط في الكلية ذاتها. كما أنه أستاذ مشارك في الدراسات الإسلامية في كلية اللاهوت المعمدانية العربية وأستاذ مشارك في كلية فولر للدراسات اللاهوتية، في باسادينا، كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية.