البابا فرنسيس: "سلام سلام سلام" - للعراق الجريح

دعوة للسلام وتأكيد على حوار الأديان. في زيارته لبلاد الرافدين توجه البابا فرنسيس إلى مناطق نكبها الرعب والإرهاب مانحا الناس الأمل والتفاؤل. لقاؤه بالمرجع الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني شكل علامة فارقة في الحوار المسيحي الإسلامي. الصحفية الألمانية بيرغيت سفينسون نقلت أبعاد الزيارة من بغداد لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Birgit Svensson

الشوارعُ المؤدِّية إلى كنيسة السريان الكاثوليك "كاتدرائية سيِّدة النجاة" في حيّ الكرَّادة ببغداد خالية من الناس. يقوم جنودٌ ورجالُ شرطة مدجَّجون بالسلاح بتفتيش أيّ شخص يريد الاقتراب من الكاتدرائية. ولا يُسمح لأي شحص بتجاوز قوَّات الأمن إلَّا بتصريح خاص.

اجتمع أعضاء الرعية في ساحة الكاتدرائية. تقول [الراهبة] منى بفخر واعتزاز: "لم أرَ مثل هذا العدد الكبير منذ فترة طويلة". يجلسون على كراسٍ وجميعهم تقريبًا يرتدون على رؤوسهم قبَّعات بيسبول بيضاء عليها صورة البابا فرنسيس. ويرتدون بالإضافة إلى ذلك قمصانًا كُتِبت عليها رسالة الزائر الذي يعتبرونه الزائر الأكثر أهمِّية في كلِّ العصور: "كلنا إخوة".

لم يقم من قبل أي رئيس من رؤساء الكنيسة الكاثوليكية قَطُّ بزيارة للعراق - لبلاد الرافدين القديمة ما بين نهري دجلة والفرات. وكذلك لم تكن قَطُّ هذه الزيارة مهمة بهذا القدر بالنسبة للناس هنا، الذين يُعَدُّون من أقدم المجتمعات المسيحية. وحول ذلك تقول منى: "صحيح أنَّني رأيته مرة في روما عندما كنت في رحلة الحجّ، غير أنَّ حقيقة قدومه إلينا لها معنًى مختلف". وتضيف أنَّها بالرغم من عدم السماح لها بدخول الكنيسة -إذ بسبب كورونا تم السماح لمائة شخص فقط بالدخول- ولكن تواجدها هناك ومعرفتها أنَّ البابا قريب منها منحاها القوة والثقة.

والعراق ليس فقط مجرَّد دولة من الدول زارها البابا زيارة استغرقت ثلاثة أيَّام. فعلى الأرجح أنَّ هذه الزيارة كانت رحلته الأصعب إلى الخارج خلال ثمانية أعوام في منصبه. فقبل يومين من وصوله إلى مطار بغداد، تم إطلاق عشرة صواريخ على قاعدة عسكرية في محافظة الأنبار المجاورة.

 

لقاء تاريخي جمع بين البابا فرنسيس وآية الله العظمى علي السيستاني في منزل هذا الأخير في العراق. Grand Ayatollah Ali al-Sistani Office
لقاء تاريخي جمع بين البابا فرنسيس وآية الله العظمى علي السيستاني: كان لقاؤهما مهمًا للمسيحيين العراقيين، لأنَّهم يحتاجون حماية الأغلبية الشيعية في البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، توجد بعض القواسم المشتركة بين السيستاني وفرنسيس، مثلما تكتب بيرغيت سفينسون: "فهُما يُدينان الإرهاب، الذي -بحسب تعبيرهما- لا يأتي من الدين ويجب التصدِّي له بقوة. وكلاهما لا يريدان أية علاقة بالسياسة، غير أنَّهما يتدخَّلان من وقت إلى آخر. يقف آية الله العظمى السيستاتي من خلال دعوته إلى الفصل الصارم بين الدين والسياسة على النقيض تمامًا من زملائه في إيران، الذين يشغلون مناصبَ سياسية ويمارسون سلطة مطلقة".

 

وفي إربيل بإقليم كردستان في شمال العراق، حيث أقام البابا قدَّاسًا في ملعب لكرة القدم في اليوم الأخير من زيارته - تم قصف المطار أيضًا بصواريخ الكاتيوشا قبل أسبوعين من هذه الزيارة.

وعلى الرغم من أنَّ هذه الهجمات استهدفت فقط الأمريكيين دون غيرهم، ولكن مع ذلك لا يمكن وصف العراق بأنَّه بلد آمن، خاصةً وأنَّ مليشيات داعش الإرهابية السنِّية عادت تثير الاهتمام بها أكثر في شمال العراق أيضًا. وكذلك أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن الهجوم المزدوج على سوق غير بعيدة عن كنيسة الكرادة في بغداد نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2021.

ثم جاء فيروس كورونا الجديد وطفرته البريطانية، التي زادت أعداد الإصابات زيادة سريعة في العراق أيضًا. ولكن البابا قرَّر القدوم إلى العراق، على الرغم من -وربَّما بالذات بسبب- المشكلات الكثيرة الموجودة في العراق. فهو ليس شخصًا يريد التملُّص.

"بابا فرانتشيسكو" نجم البوب

تم الاحتفال بشجاعته على نحو متوافق مع هذه الشجاعة. فقد تم الترحيب بـ"البابا فرانتشيسكو" مثل نجم من نجوم موسيقى البوب. وتم تأليف أغنية خاصة من أجله. ونقلت جميع المحطات التلفزيونية تقريبًا حجَّه إلى أرض إبراهيم في بثّ حيّ ومباشر. وطبعت الصُحف طبعات خاصة. وتزيَّن العراق كله بملصقات ولافتات تحمل صورة فرنسيس وهو يلوِّح بيده مبتسمًا للناس.

وبينما كان يسود في بغداد والجنوب -في أوَّل محطتين خلال أوَّل يومين من رحلته- حظرُ تجوُّل وكانت الشوارع خالية إلى حدّ بعيد، اصطفّ في اليوم الأخير بشمال العراق آلاف الناس على جانبي طريقه وكانوا يلوحون له بأيديهم. وأخيرًا صار يوجد شيءٌ إيجابيٌ للناس في هذا البلد الذي دمَّرته الحرب والإرهاب، والذي كانت توجد فوق ترابه في الماضي الجنَّة الإنجيليةُ.

 

أطفال يرحُّبون بالبابا فرنسيس أثناء زيارته إلى الموصل – العراق.  Foto: Andrew Medichini/AP/picture-alliance
أطفال يرحُّبون بالبابا فرنسيس أثناء زيارته إلى الموصل: لم يقم من قبل أي رئيس من رؤساء الكنيسة الكاثوليكية قَطُّ بزيارة للعراق - لبلاد الرافدين القديمة ما بين نهري دجلة والفرات. وكذلك لم تكن قَطُّ هذه الزيارة مهمة بهذا القدر بالنسبة للناس هنا، الذين يُعَدُّون من أقدم المجتمعات المسيحية. وأخيرًا صار يوجد شيءٌ إيجابيٌ للناس في هذا البلد الذي دمَّرته الحرب والإرهاب، والذي كانت توجد فوق ترابه في الماضي الجنَّةُ الإنجيلية.

 

وبما أنَّ البابا قد زار أوَّلًا الكنيسة السريانية الكاثوليكية في منطقة الكرادة على الضفة اليسرى لنهر دجلة، فهذا لا يعود إلى كونها تقع بالقرب مباشرة من سفارة الفاتيكان، حيث كان يقيم طوال الوقت، بل يعود إلى سبب خاص جدًا. إذ إنَّ هذه الكنيسة ببرجها المميَّز، الذي يبدو مثل بوابة بصليب، أصبحت مكانًا مرعبًا بالنسبة للمسيحيين العراقيين.

فقبل عشر سنوات، هاجم إرهابيون إسلامويون من تنظيم القاعدة بيت الله هذا أثناء الاحتفال بالقدَّاس. واحتجز الإرهابيون الخمسة المدجَّجون بالسلاح جميع الموجودين في داخل الكنيسة كرهائن وطالبوا بإطلاق سراح جهاديين معتقلين.

حاولت القوَّات الأمنية العراقية مع جنود أميركيين تحرير الرهائن، غير أنَّ الإرهابيين فجرَّوا عبوات ناسفة بعد إجبارهم الناس على الانبطاح على الأرض. وحدث حمام دم لا يوصف. لقي ثمانية وستون مؤمنًا مصرعهم. وكانت عواقب هذه المجزرة خطيرة. فقد هرب آلاف المسيحيين من العراق إلى الدول المجاورة ليتقدَّموا في آخر المطاف بطلبات هجرة إلى الولايات المتَّحدة الأمريكية وكندا وأوروبا. كانت هذه هجرة جماعية منقطعة النظير.ولكن بعد أربع سنوات فقط، في عام 2014، تم استهداف المسيحيين مرة أخرى من قبل المتطرِّفين الإسلامويين، الذين أطلقوا على أنفسهم هذه المرة اسم "الدولة الإسلامية"، أو باختصارها العربي: "داعش". ومن جديد، أدَّى طردهم من الموصل، ثاني أكبر مدن العراق في ذلك الوقت، ومن مدينة قرقوش [بغديدا] -التي كان يعيش فيها مسيحيون فقط وتقع على بُعد أربعين كيلومترًا عن الموصل- إلى هروب آلاف المسيحيين. ولجأ الكثيرون منهم إلى المناطق الكردية في إربيل والمناطق المجاورة.

هجرة المسيحيين الجماعية

في الواقع غادر الكثيرون من المسيحيين العراق إلى الأبد. فمنذ غزو الأمريكيين والبريطانيين العراق في عام 2003 وإسقاط صدام حسين، غادر ثلاثةُ أرباع المسيحيين البلاد. وبحسب التقديرات لم يعد يوجد حاليًا إلَّا ثلاثمائة ألف شخص من أتباع الديانات المسيحية في بلاد الرافين. لقد زار البابا فرنسيس جميع هذه الأماكن المنكوبة بالرعب والإرهاب وعبَّر عن تعاطفه. ورسالته كانت واضحة: "أنا معكم، ابقوا هنا". ولكن مسألة إنْ كان يستطيع بهذه الرسالة إيقاف هجرتهم الجماعية تبقى مسألةً أخرى.

ولكن البابا كانت لديه رسالةٌ ثانية في رحلة حجِّه: فقد أراد التأكيد على الحوار بين الأديان والمصالحة والاحترام المتبادل. وسافر من أجل ذلك إلى النجف - الواقعة على بعد ساعتين ونصف بالسيارة جنوب بغداد - من أجل لقاء المرجع الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني. يقع منزل السيستاني في زقاق ضيِّق بعيدًا عن الشارع الرئيسي. ومشى البابا فرنسيس الأمتار الأخيرة على قدميه، بالرغم من أنَّ لديه صعوبة في المشي.

واتَّبع أيضًا العادة العامة حيث خلع حذاءه عند دخوله بيت آية الله السيستاني. وجلسا هنا متقابلين في غرفة بسيطة خالية من الزخارف والزينة، محافظين على مسافة متناسبة مع جائحة كورونا: حبرُ الكنيسة الكاثوليكية الأعظم القادم من روما والمرشد الأعلى للشيعة في العراق.

كان لقاء هذين الرجلين المسنين (فرنسيس 84 عامًا والسيستاني 90 عامًا) مهمًا بالنسبة للمسيحيين في العراق، لأنَّهم يحتاجون حماية الأغلبية الشيعية في البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، توجد بعض القواسم المشتركة بين السيستاني وفرنسيس. فهُما يُدينان الإرهاب، الذي -بحسب تعبيرهما- "لا يأتي من الدين" ويجب التصدِّي له بقوة. وكلاهما لا يريدان أية علاقة بالسياسة، غير أنَّهما يتدخَّلان من وقت إلى آخر.

بيت النبي إبراهيم - المكان الذي عاش فيه إبراهيم [أبراهام] بحسب التقاليد التوراتية - مدينة أور التاريخية – العراق.  Foto: Birgit Svensson
قال البابا فرنسيس في مستهل زيارته لمدينة أور التاريخية، المكان الذي عاش فيه إبراهيم [أبراهام] بحسب التقاليد التوراتية: "الإيمان هو الذي يُوَحِّدنا". يعتبر إبراهيم الأب المؤسِّس لجميع الديانات التوحيدية العالمية الثلاثة، ويلعب دورًا مهمًا في حوار الأديان بين المسيحيين واليهود والمسلمين.

 

يقف آية الله العظمى السيستاتي من خلال دعوته إلى الفصل الصارم بين الدين والسياسة على النقيض تمامًا من زملائه في إيران، الذين يشغلون مناصبَ سياسية ويمارسون سلطة مطلقة. ولكنه يرسل في بعض الأحيان أيضًا رسائل مرعدة من النجف إلى بغداد، عندما يطالب السياسيين العراقيين بأخذ مطالب الناس على محمل الجدّ وبمحاربة الفساد.

وهذا يجعله منسجمًا تمامًا مع توجُّه البابا فرنسيس، الذي دعا الحكومة العراقية أثناء استقباله من قِبَل الرئيس العراقي مباشرة بعد وصوله بغداد إلى المضي قدمًا في طريق الديمقراطية والتصدِّي لِـ [آفة] الفساد والمحسوبية [وسوء استغلال السلطة].

وعلى الأرجح أنَّ آيات الله الحاكمين في إيران لم تعجبهم كثيرًا هذه الزيارة البابوية لخصمهم السيستاني، وذلك لأنَّ التوتُّرات في العراق بين الشيعة الذين يميلون إلى إيران وبين الذين يسعون إلى عراق مستقل عن إيران تتزايد في هذا الوقت زيادة كبيرة.

لم يعد منذ فترة طويلة سيناريو المستقبل في بلاد الرافدين "شيعة ضدَّ سُنة" بل "الشيعة الإيرانيين" ضدَّ "الشيعة العراقيين". وهكذا فقد كان لزيارة البابا فرنسيس إلى بيت السيستاني بُعْدٌ سياسي أيضًا.

ولكن هدف البابا فرنسيس لم يكن في المقام الأوَّل لقاءه مع الزعيم الشيعي، الذي استمر نحو ساعة تقريبًا، بل الحوار بين الأديان في الموقع الذي من المفترض أنَّ إبراهيم [أبراهام]، الأب المؤسِّس للديانات السماوية الثلاثة، قد عاش فيه.

قال البابا فرنسيس في مستهل زيارته لمدينة أور التاريخية بعد قراءة من سفر التكوين حول بداية الحياة كلها وبحضور ممثلين عن جميع الأديان في العراق: "الإيمان هو الذي يُوَحِّدنا". وأضاف: "السلام سيجمعنا معًا ويُجنِّبنا الصراعات".

وبعد ذلك قال رئيس أساقفة البصرة والجنوب، المطران حبيب هرمز النوفلي، الذي حضر اللقاء، إنَّ تبادل الآراء كان مكثفًا جدًا. وكانت النتيجة هي: "سلام، سلام، سلام". السلام لبلد كان عليه أن يتحمَّل هذا القدر الكبير من الحروب والإرهاب والمعاناة.

 

بيرغيت سفينسون

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 

 

[embed:render:embedded:node:38254]