
خشية أمريكا وأوروبا ارتماء تركيا بأحضان روسيا والصين؟تقارب غربي مع إردوغان رغم نهجه السياسي
عاد البرد إلى أنقرة بشكل مناسب لانعقاد مؤتمر حزب العدالة والتنمية. كان الثلج يتساقط من دون توقُّف أثناء تجمُّع مئات الأشخاص القادمين من جميع أنحاء تركيا أمام قاعة المؤتمرات في الليلة السابقة من أجل الحصول على مقعد في الصف الأمامي صباح اليوم التالي. إذ إنَّ التواجد ليومين في مؤتمر الحزب بأنقرة يعني بالنسبة لهم يومين من الاحتفالات ووجبات الطعام المجانية. وهذا أمر يستحق العناء والانتظار في زمن الجائحة والأزمة الاقتصادية الضخمة.
بحسب إردوغان فإنَّ عدد أعضاء حزبه، حزب العدالة والتنمية، يبلغ ثلاثة عشر مليونًا وخمسمائة ألف شخص. وحول ذلك قال بغرور في مؤتمر حزبه: "لم يشهد العالم حزبًا بهذا الحجم الكبير". ولكن نُشِرَ في شبكات التواصل الاجتماعي على الفور تصنيفٌ لهذا العدد يَعتبِر أنَّ حزب العدالة والتنمية هو حزب انتهازيين، وأنَّ نحو تسعة وتسعين في المائة من أعضائه قد انضموا إليه فقط من أجل الاستفادة من المحسوبية التقليدية في حزب العدالة والتنمية ومن أجل الحصول على وظيفة أو شيء يأكلونه.
غير أنَّ صور الحشود المبتهجة خارج وداخل قاعة مؤتمرات حزب العدالة والتنمية لم تعد تُخفي -بخلاف ما كانت تفعل في السابق- إحباطَ الناس في تركيا من رئيسهم. وحتى الأشخاص الذين صوَّتوا لصالح إردوغان قبل أعوام -ومن بينهم مثلًا كتَّابٌ معروفون عالميًا باتوا مسجونين حاليًا وناشطون في منظمات حقوق المرأة- صاروا يحتجُّون في هذه الأثناء ضدَّ إردوغان.
لقد أعطى إردوغان في الفترة الأخيرة أسبابًا كثيرة لانتقاده. فقبل أيَّام قليلة من انعقاد مؤتمر الحزب، تتالت الأحداث في تركيا: تم أوَّلًا البدء بإجراءات حظر ثاني أكبر حزب معارض، حزب الشعوب الديمقراطي ذي الطابع الكردي. ثم قرَّر إردوغان في مرسوم مشكوك في أساسه القانوني انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول، وهي اتفاقية المجلس الأوروبي لحماية النساء بشكل خاص من العنف. وفي الوقت نفسه تقريبًا، أقال إردوغان محافظَ البنك المركزي التركي ناجي أغبال وتسبَّب في انهيار قيمة الليرة التركية من جديد.

ثم انتزع إردوغان من بلدية مدينة إسطنبول ملكية حديقة غيزي بارك ونقلها إلى مؤسَّسة مقرَّبة من حكومته. علمًا بأنَّ ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم خرجوا إلى الشوارع قبل ثمانية أعوام للاحتجاج على خطة وضعتها الحكومة التركية لتدمير هذه الحديقة. وعلاوة على ذلك فقد أكَّد على تقديم ضمانات حكومية من أجل تنفيذ خطة مشروع قناة إسطنبول المُكلِفة للغاية، وهي ممر مائي اصطناعي من المفترض أن يربط بحر مرمرة بالبحر الأسود.
"نحن نُوَقِّع ما نريد ونترك ما نريد"
وقبل ذلك بأيَّام قليلة، كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد نصح الاتحاد الأوروبي بالعدول عن فرض عقوبات على تركيا. وفي طاعتها التقليدية لواشنطن، اتبعت بروكسل هذه النصيحة وتجاوزت مؤخَّرًا التوقُّعات في محادثات الاتحاد الأوروبي وتركيا.
فقد كتبت رئيسةُ المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في تغريدة على موقع تويتر بعد اللقاء: "بالنظر إلى موقف تركيا، الذي بات بنَّاءً أكثر في الفترة الأخيرة، فنحن مستعدُّون للبدء في المجالات المشتركة مثل الهجرة والجمارك". ولأوَّل مرة، لم يعد يدور الحديث حول شرط تغيير تركيا قوانين مكافحة الإرهاب المثيرة للجدل، بعد أن كان الاتحاد الأوروبي يطالبها بذلك في السابق.
وكذلك إجراءات حظر حزب الشعوب الديمقراطي لم تُدِنْها -على الأكثر- سوى بعض الأصوات المنفردة في الاتحاد الأوروبي، وهو الحزب الذي يتعرَّض أنصاره لاعتقالات جماعية بسبب دعمهم المزعوم لحزب العمال الكردستاني المُصنَّف كتنظيم إرهابي، وهو ما يتعين فهمه حرفيًا نظرًا إلى موجات الاعتقالات الأخيرة. وفي هذا الصدد ورد من ألمانيا مثلًا: "يجب على حزب الشعوب الديمقراطي أن ينأى بنفسه عن حزب العمال الكردستاني".
ومن جانبه لخَّص مؤخرًا وزير الداخلية التركي سليمان صويلو -وهو من أقوى الرجال في الحكومة التركية- علاقة بلاده مع الغرب بقوله: "نحن دولة ذات سيادة، نُوَقِّع ما نريد ونترك ما نريد".
الكثير من المناصب والقليل من صُنَّاع القرار
ولكن الولايات المتَّحدة الأمريكية بالذات لا تُعتبر صديقة للحكومة التركية. إذْ لم يتَّصل جو بايدن بإردوغان حتى ولو مرة واحدة منذ توليه منصب الرئيس الأمريكي. وعلاوة على ذلك، يتمركز حاليًا عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين والطائرات المروحية والطائرات المسيَّرة بدون طيَّار الأمريكية في اليونان بالقرب من الحدود التركية.
وفي هذا الصدد يقول نائب وزير الخارجية التركي فاروق قايمقجي: "من الطبيعي أنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية لم تبلغنا بذلك". يبدو أنَّ سياسي الشؤون الخارجية في حزب العدالة والتنمية لا يفهم سبب الوجود الأمريكي الضخم. ثم يضيف ضاحكًا: "بصراحة، هذا ليس اختصاصي".
وتصريحه هذا مثال نموذجي لظاهرة حكومة إردوغان: توجد مناصب سياسية كثيرة -فقد تم رفع عدد أعضاء اللجنة التنفيذية في حزب العدالة والتنمية مؤخَّرًا من خمسين عضوًا إلى خمسة وسبعين- ولكن يكاد لا يوجد سياسيون قادرون على صنع القرارات، لأنَّ إردوغان في آخر المطاف مثل عنق الزجاجة، التي يجب أن يمر من خلالها كلُّ قرار في السياسة الواقعية التركية.
نتائج استطلاعات سيِّئة تاريخيًا
يقول مؤلف كتاب "إمبراطورية إردوغان"، الكاتب سونِر تشاغابتاي [كاجابتاي]، إنَّ ما يبدو مثل سلطة شاملة يمثِّل في الوقت نفسه أكبر نذير شؤم بالنسبة له: "صحيح أنَّ إردوغان بات في قمة سلطته السياسية كرئيس للحزب والدولة والجيش منذ إدخال النظام الرئاسي، ولكنه أصبح من خلال هذه المناصب العديدة ضعيفًا جدًا". كانت توجد قبل ذلك معارضة متنوِّعة، مثلما يقول، ولكن الآن لم يعد يوجد سوى قرار واحد إمَّا مع أو ضدَّ إردوغان.