
"دعونا ندير حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط"بذور العلمانية في الفكر العربي الحديث
يزعم كثيرون من خصوم العلمانية في البلاد العربية، أنها فكرة طارئة على العرب بالمطلق، وأنّ هذا اللفظ لم يدخل العربية إلا بفعل التأثيرات الغربية الكولونيالية. قد يكون لهذا الرأي نصيب من الدقة في ما يخصّ المعنى الحديث للعلمانية، باعتبارها تطوّرت في الغرب بدايةً، ولأن المدلولات الفكرية والسياسية للمصطلح، تبلورت عبر التاريخ الغربي وفي كنف التجربة الأوروبية. غير أنّ دراسات عديدة، يضيق المجال عنها، أثبتت أنّ لفظ "العلمانية" ليس مجرّد ترجمة لمصطلح غربي، وإنما وُجد في اللغة العربية بالفعل، واستُعمل في كتابات كنسية باكرة، بغرض التمييز بين عامة الناس وبين رجال الاكليروس، كما بين الشؤون الدينية والدنيوية[1].
على أنّ المصطلح لم يبق حبيس التداول الكنسي للتمييز بين ما هو ديني وغير ديني لأغراض كنسية بحتة، وإنما راح يندرج شيئا فشيئاً في الحقل السياسي والاجتماعي العربي، متخذاً مدلولات إصلاحية ودستورية فرضتها الظروف التي مرّت بها السلطنة العثمانية، لا سيما في القرن التاسع عشر.
والأهمّ من ذلك كلّه، أنّ نهضويين كباراً من المفكرين العرب، مسيحيين ومسلمين، دعوا إلى العلمانية منذ ذلك الحين، وقبل أن تشتدّ رياح التأثيرات الغربية أو السيطرة الاستعمارية الأوروبية على المنطقة العربية. وهذا ما تحاول السطور التالية الإضاءة على بعض جوانبه.
الظروف العامة الممهدة لظهور الأفكار العلمانية في ظل الدولة العثمانية
في إطار محاولاتها الرامية إلى وضع حدّ لحالة التدهور والانحدار التي أصابتها، شرعت الدولة العثمانية في إجراء بعض الإصلاحات الإدارية والقانونية، اصطلح على تسميتها "التنظيمات"، بدأت رسميا مع إعلان "خط الكلخانة الشريف" الذي أصدره السلطان عبد المجيد الأول في عام 1839. لم يكن ذلك الإعلان دستوراً بقدر ما هو نوع من التعهّد بإدخال إصلاحات معيّنة كانت تنطوي على توجّه علمانيّ، إذ تشمل احترام الحريات العامة والممتلكات والأشخاص، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية أو أصولهم القومية. كما نص "خط الكلخانة" على المساواة التامة بين المواطنين أمام القانون بدون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو الجنس، مع منح الجميع حرّية العبادة.

تزامنت هذه التطورات مع نشوء علاقات بورجوازية كومبرادورية في أوساط المسيحيين المحليين، قادتهم إلى وعي أهمية العلاقات المدنية في تطوّر ونمو هذه العلاقات. فبدأت البورجوازية المسيحية تربط ما بين تطورها وشيوع مبادئ المجتمع المدني في العلاقات الاجتماعية على أساس المساواة المدنية وليس "المللية".
هكذا، فسّرت البورجوازية المسيحية، في مدينة حلب مثلاً، مبادئ "خط الكلخانة الشريف" بوصفها مبادئ المجتمع المدني الذي لا "ذمة" فيه [أي لا يكون فيه غير المسلمين "أهل ذمة" [وفق "نظام الملل" الذي كان سارياً]، وأخذ وعيها الاجتماعي الجديد يتحرر من الوعي الطائفي ويتجه لبلورة ملامح وعي وطني علماني.
وكان فرنسيس مرّاش (1836 - 1873) أحد المثقّفين الحلبيين المتنوّرين الذين عبّروا عن هذا التوجّه باكراً، حيث شخّص المشكلة بأنّ مسألة انتشار "التمدن" في "مملكة التوحّش والعبودية" هي مسألة تحوّله من "مجتمع فسيفسائي" إلى "مجتمع مدني"، ورأى أن حلّ هذه المسألة ممكن بواسطة تطبيق "شرائع التمدن وقوانينه". فدعا مرّاش أبناء بلاده، وخصوصاً العرب، إلى "محبة وطنية منزهة عن أغراض الدين" وهو ما يعني إحلال "حب الوطن" أو "الرابطة الوطنية" محلّ "حب الملة" أو الرابطة المللية[2].
إلى جانب ذلك، دفعت عوامل أخرى باتّجاه انتشار الأفكار العلمانية أكثر فأكثر. فالحوادث الطائفية التي وقعت في سوريا ولبنان سنة 1860، سلّطت الضوء على ضرورة العلمنة، والفصل ما بين مجالي السياسة والدين.
وقد كتب بطرس البستاني (1819 - 1883) في صحيفته "نفير سورية"، تعليقاً على تلك الحوادث: "وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حدّاً فاصلاً بين هذين المبدأين الممتازين طبعاً وديانة، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعا كما لا يخفى. ومن هنا وجوب وضع حاجز بين الرياسة، أي السلطة الروحية، والسياسة، أي السلطة المدنية. وذلك لأن الرئاسة تتعلق ذاتاً وطبعاً بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال، بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغير والإصلاح بحسب المكان والزمان والأحوال. ولذلك كان المزج بين هاتين السلطتين الممتازتين طبعاً، والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما، من شأنه أن يوقع خلافاً بيننا وضرراً واضحاً في الأحكام والأديان حتى لا نبالغ إذا قلنا إنه يستحيل معه وجود التمدن وحياته ونموه".[3]