بيوت الخفاء في حلب الشهباء خلال القرن العشرين

رصد ظاهرة البغاء في سوريا تاريخياً
بيوت الخفاء في حلب الشهباء خلال القرن العشرين

كان أهالي حلب يطلقون على بيوت الدعارة أسماء منها: دار البغاء، بيوت الدعارة، المنزول، الكرخانة. هذا الكتاب يُعدّ الأول من نوعه على صعيد الاهتمام بتاريخ الجنسانية داخل إحدى المدن السورية، إذ لم يسبق لأحد أن امتلك جرأة فتح خزائن مدينة حلب، ليسد في التراث الشعبي الثلمة المتعلقة ببيوت الخفاء.

لم أصب، منذ فترة طويلة، بحيرة أثناء قراءتي لكتاب كما هو الحال مع كتاب "بيوت الخفاء في حلب الشهباء"، وفي الحقيقة لا يأتي مصدر الحيرة هنا من طبيعة الموضوع، أو الحرج في التعامل معه، فهو ينتمي كما هو واضح من العنوان إلى الأبحاث التي تحفر في الحياة اليومية للأيروتيكا والجنس في مدننا العربية.

لكن هذا الكتاب يُعدّ الأول من نوعه على صعيد الاهتمام بتاريخ الجنسانية داخل إحدى المدن السورية، على الرغم من أن هناك من سبقه في عالم الرواية أو المذكرات كما في "فصول من سيرة مدينة القامشلي" للباحث السوري إبراهيم محمود، الذي لم يكن كتاباً عن تاريخ المدينة الاجتماعي أو السياسي، وإنما عن ذاكرة الجنسانية في المدينة، من خلال ما سجّلته ذاكرة المؤلف من حكايات عن المواخير وبطلتها "مريمكي".

بيد أن ما يميّز كتاب «بيوت الخفاء» قدرةُ الكاتب على جمع مادة شفوية ومكتوبة جيدة عن هذا الموضوع. (وربما نتج جزء منها عن ملامسة مباشرة لهذه العوالم أيضاً) وهو احتكاك لا مفرّ منه في أي عمل إثنوغرافي من هذا القبيل.

يؤكّد محفوظ في مقدمته أن الكتاب ليس مجرد مشاهد بورنوغرافية، وإنما يراه جزءاً من موروث مدينة حلب، الأهم من ذلك إدراكه أن بيوت الدعارة، أو المنزول، كما يلفظ في العامية، هو عبارة عن بناء اجتماعي خضع وما زال يخضع لشروط الاقتصاد والسلطة، وربما تذكّرنا هذه الإشارة ربما بالتعريف الذي قدّمه السوسيولوجي التونسي عبد الصمد الديالمي، فهو يرى أن تاريخ الجنسانية قبل كل شيء ظاهرة اجتماعية تتضمن تفاوضاً مستمراً بين الأفراد ومحيطهم الاجتماعي والسياسات الصحية الحديثة والتاريخ القومي.

سوالف شفوية وسرديات مهيمنة

يلمّح وائل حلاق في كتابه الأخير "قصور الاستشراق"، في سياق قراءته لكتابة التاريخ، إلى فكرة أظن أنها وجيهة وتتعلق بشكل أو بآخر بهذا الكتاب وطريقة قراءته. يرى حلاق أن التطور الذي حدث على مستوى الكتابة التاريخية، هو أن التاريخ في السابق كان مصدراً للعظة والعبر والتوجه الأخلاقي، بيد أنه مع قدوم الحداثة حدثت قطيعة أدت إلى أن يطوف الخيال والتاريخ في زوايا القومية وسيطرة الدولة الحديثة.

وبالعودة إلى كتاب إياد محفوظ، يمكن القول إن الأخير بقي في كتابه أكثر وفاءً للمنهج الأول، قد يعود ذلك لتأثره بكتابات ورؤية جيل سبقه من المؤرخين الحلبيين الذين كتبوا في التاريخ الاجتماعي والشفوي لمدينة حلب مثل محمد راغب الطباخ (1875/1950)، الذي أشار في مقدمة كتابه «أعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء» إلى أن «علم التاريخ من أجل العلوم قدراً وأرفعها شأناً وأسماها رتبةً… وهو مرآة يبصر ما دونه الأقدمون من العلوم والفنون وما صنعته يد الإنسان من الأعمال والآثار، فيدعو ذلك إلى الاتّعاظ والاعتبار والتحلّي بمحاسن المحسنين والأخيار».

ويبدو أن التأثّر بهذه الرؤية الوعظية بقي يحكم إياد محفوظ سواء على صعيد أسلوب الكتابة أو حتى الغاية من هذا المؤلف، فهدفه هو الحفاظ على بقايا من ذاكرة هذه المدينة، على العبرة التي تفوح من الطرائف والنكت العديدة التي تداولها الحلبيون عن حياة البيوت وقصص الفتيات اللواتي يعملن في أحشائها.

لم يسبق لأحد أن امتلك جرأة فتح خزائن مدينة حلب، ليسد في التراث الشعبي الثلمة المتعلقة ببيوت الخفاء، أي ببيوت البغاء: هكذا يختم إياد جميل محفوظ كتابه (بيوت الخفاء في حلب الشهباء خلال القرن العشرين: خزائن لم تفتح- دار الحوار2017).
أحد أحياء مدينة حلب في ستينات القرن الماضي: السلطات الفرنسية لم تجد حرجاً من انتشار تلك الأماكن في المدينة… بل اعتقد أن سياستها شجعت وساعدت على ازدهار ونمو قطاع الدعارة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي داخل المدينة

وفي مقابل هذه الرؤية الأخلاقية للتاريخ، نجد أن ابتعاد المؤلف عن عالم الكتابات الأكاديمية في هذا الموضوع (لاعب رياضي سابق، وقاص لاحقاً)، قد ساعده على الفرار أو الخروج من أسر المقاربات المعرفية والأدبيات حول الجنسانية، وبالأخص العروج، الذي غدا حتمياً، على رؤية فوكو لتاريخ العلاقة بين السلطة والجنس.

بيد أنه في الوقت الذي استطاع محفوظ الهرب من هذا العالم، ومن سردياته، أجبرنا في ظل غياب بعض التفسيرات أو التسرّع في إطلاق بعض الاستنتاجات أحياناً إلى الاستعانة بالمخيال الفوكودي حول الجنس في الدولة الحديثة، صحيح أن هذا المخيال جاء لتفكيك عالم التنوير الغربي، والكشف عن آلياته في السيطرة، إلا أنه غدا في السنوات الفائتة، ومع تطور دراسات حقل الاستشراق والكولونيالية بمثابة سردية أحادية أحياناً، رغم إغراءاتها وقدرتها في أكثر من مدينة، مثل القاهرة أو بيروت، على تفسير علاقة السلطة والدولة الحديثة بشكل وحياة بيوت الدعارة، مع بدايات القرن العشرين، ولذلك أقول إن سردية فوكو هنا قد تفرض نفسها على القارئ المتخصص وهو يلتقط صورا من عالم كاتبنا.

وربما هنا مكمن حيرتنا وقلقنا من أن يؤدي هذا الاقحام أحياناً إلى خيانة براءة بعض المرويات الشفوية، بيد أنه يبدو أننا لن نكون قادرين على الوفاء لملاحظات حلاق، حول الحذر من السردية المهيمنة بدون أرشيف أوسع عن بيوت الدعارة في حلب، تشمل مثلاً موقف الطبقة الوسطى وكتابات الصحافيين آنذاك حيال هذه الظاهرة.

 

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة