المرأة المسلمة في الغرب والمجتمع ما بعد العلماني

هذه الرواية للروائية السودانية المصرية ليلي أبو العلا تتجاوز ثنائية الشرق الإسلامي مقابل الغرب العلماني وهوية مسلمة شرقية مقابل هوية غربية مسيحية/علمانية. أماني الصيفي في قراءة نقدية للرواية لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: أماني الصيفي

صدرتْ حديثًا عن دار الساقي ترجمةٌ عَربيةٌ لرواية "الهدهد - إن حكى" للروائية السودانية المصرية ليلى أبو العلا، بترجمة عزَّة حسُّون. وكان قد صدر لأبو العلا عن الدار ذاتها ترجمة لروايتها "المترجمة"، التي أُدْرجت ضمن قائمة أبرز مائة كتابٍ في تصنيف صحيفة "نيويورك تايمز".

نشرت أبو العلا عدة رواياتٍ جميعها باللغة الإنجليزية، وترجم بعضها لأكثرَ من خمس عشرة لغة. من رواياتها: "الأضواء الملونة"، و"المئذنة"، و"حارة المغني"، و"كرم الأعداء"، و"وطن في  مكان آخر"، وقد أُدرجت روايتاها "المترجمة"  و"المئذنة" في القائمة الطويلة لجائزتي Orange و IMPAC، كما تم ترشيح "المترجمة" لجائزة "سالتير" الأسكتلندية لكتاب العام، كما فازت أبو العلا بجائزة (كاين) الأولى للكتابة الأفريقية عن قصتها القصيرة "المتحف" في عام 2000م.

وتعرف الروائية ليلى أبو العلا بين جمهور القراء في ألمانيا من خلال روايتها "المترجِمة"، التي تُرجِمت إلى الألمانية في عام 2001م، والمجموعة القصصية "المتحف" التي ترجمت بعدها  بعام  واحد، بينما انتظرت رواية "المئذنة" التي نشرت في عام 2005م خمسة عشر عامًا  حتى  تصل للقارئ الألماني.

وتعتبر رواية "المئذنة " من أهم روايات ما بعد الكولونيالية، التي صورت امرأة مسلمة، تجد نفسها تعيش بين عدد من (الأيدولوجيات) الدينية والسياسية في  موطنها السودان، ومن بعده بلد المهجر إنجلترا، والرواية تنتهي بامرأة مسلمة تختار الدين والحياة الروحانية طواعية، مُخلِّفة وراءها الحياة الغربية بقيمها، بعد أن خذلها كل من حولها من المتدينين والملحدين  على السواء.

الغلاف العربي لرواية "الهدهد - إن حكى" للروائية السودانية الأب والمصرية الأم ليلي أبو العلا. Al Houdhoud Arabic Cover Roman Novel Bild Dar Assaqi
تديُّن فردي وإسلام مُعَلْمَن؟ تصور الرواية كيف أن الرؤية للمقدس وممارسة التدين قد تغيرا في البيئة الليبرالية الغربية، حيث تنتقل الشخصيات المسلمة الثلاث من الدين المؤسسي المجتمعي إلى الدين الفردي القائم على نسخة أخلاقية غير مسيسة للدين. تلك الصورة للدين الذي يطالب أفراده تحت مصطلح "الأمة" بالالتزام بمعايير وصورة واحدة رغم اختلافات ثقافية وجغرافية واجتماعية. بينما الصورة في رواية "الهدهد - إن حكى" يمكن رؤيتها في سياق "إسلام الرسالة". إسلام يحاول كل فرد فيه الاجتهاد والتفكير في إسلام إنساني يشمل الجميع ويعمل على تحقيق العدالة للجميع في سياقاتهم المختلفة دون التقيد بخطاب يدعي إسلاما كونيا وتفسيرا وحيدا صحيحا لآياته القرآنية. ففي الرواية تتخذ المسلمات الثلاث ثلاث طرق مختلفة لممارسة دينهن دون التقيد بالرؤى الجاهزة لمن حولهن من المسلمين الآخرين عن الإسلام … يبدو أن طرق ممارستهن للتدين جاءت لتلبية احتياجاتهن النفسية الفردية، فهل يمكن القول في هذا السياق إن الإسلام تمت له عملية علمنة، يعترف فيها هؤلاء المسلمون بالمساواة، والتنوع، والدعوة إلى التسامح مع الأفراد المتدينين وغير المتدينين؟

ويتبقى السؤال الآن: لماذا تأخرت ترجمة هذه الرواية إلى الألمانية؟

هل كان لهذا التأخير علاقة بالوضع السياسي، وتصوير الصراع بين الثقافة الإسلامية والغرب بعد الحرب على الإرهاب والخطاب السائد حول قمع المرأة المسلمة، والحاجة لتحريرها (إنقاذها) من الإسلام على يد الغرب الليبرالي؟! وهل تُعتبر ترجمتها اعترافًا بالحاجة لخطاب مختلف عن المرأة المسلمة في الوقت الحاضر، خطابٍ يدعو للتعددية الثقافية وملامسة التجارب الحياتية الواقعية بعيدًا عن الخطابات المُسيَّسة؟!

في هذا المقال أناقش رواية ليلي أبو العلا الأخيرة "الهدهد - إن حكى" في ضوء حديثها عن المرأة المسلمة، والهوية الدينية، والتعددية الثقافية.

وُلدت ليلى أبو العلا بالقاهرة عام 1964م، لأب سودانيٍّ (رجل أعمال)، وأم مصرية (أستاذة جامعية)، وحصلت على أول درجة جامعية لها في الاقتصاد من جامعة الخرطوم، قبل أن تنتقل مع زوجها إلى اسكتلندا عام 1987م، حيث بدأت حياتها المهنية في الكتابة حول الالتقاء الثقافي بين الثقافة الغربية العلمانية/المسيحية، والثقافة التي يلعب حضور الدين فيها دورًا  قويًّا  في حياة المسلمين، سواء أكانوا في إفريقيا وآسيا أم في المهجر في الغرب.

وتعتبر أبو العلا من أهم الروائيات المسلمات في الغرب اليوم، اللاتي تلقى أعمالهن نقاشًا واسعًا حول المرأة المسلمة المهاجرة،  والنسوية، و"حضور الدين في الفضاء العمومي في المجتمع الحديث (العلماني)".

تشبث بالدين في محيط غربي

يتتبع السرد في روايتها الأخيرة "الهدهد - إن حكى" قصص ثلاث نسوة مسلمات مهاجرات، يقمن في (اسكتلندا)  ويخترن التشبث بدينهن، ليس فقط باعتباره جانبًا ثقافيًا وتاريخيًا لهوياتهن، ولكن كذلك باعتباره منبعًا وقوةً روحية، يقويهن على مواجهة  المحدودية البشرية، في مواجهة معاناة هؤلاء النساء المسلمات البسيطات.

هنا يمكن قراءة نهاية الرواية على أنها (ديستوبيا) من ضوء الخطاب العلماني؛ لأنها تعكس العودة والتمسك بالأسطورة، بدلًا من الدفاع عن العقلانية، والإيمان بفاعلية الإنسان في تسيير حياته.

ومع ذلك، يمكن تأويل السرد في سياق تحدي الخطاب الكولونيالي، وما بعد الكولونيالي السائد، فيما يتعلق بالهوية الدينية والثقافية المختلفة للشعوب غير الغربية وتاريخهم المكبوت من جهة، واختيارات المرأة المسلمة في المجتمع الليبرالي من جهة أخرى.

في مقالته "بقايا ما بعد الكولونيالية" Postcolonial  Remains يرى  روبرت يونغ  أنه بعد عصر الأنوار والخطاب الحداثي التنويري، أصبحت "تواريخ العالم" هي "تواريخ للتوسع الأوروبي داخل الأوساط الأكاديمية، بينما اعتُبر تاريخ الثقافات الأخرى أقل شأنا من أن  يؤخَذ  في  الاعتبار"؛ ولذلك كان على مفكري ما بعد الاستعمار ومؤرخيهم، العمل على اعتراف الأوروبي  المستعمر بتاريخ  تلك  الشعوب غير الغربية، رغم أنه يبدو أن هناك مناطق لم يتم التطرق لها  من قِبل نخبة ما بعد الكولونيالية؛ حيث إنه لم يكن بالإمكان استيعابها في نظريتهم، التي ولدت من رحم نظريات مادية أربعة هي: "الماركسية، والنسوية، وما بعد البنيوية، ونظرية التحليل  النفسي". وذلك كما يجادل أمين ملاك في كتابه: "روايات إسلامية والخطاب الإنجليزي"  Muslim Narratives and the  Discourse of  English، ولذلك كان لنظرية الكولونيالية وخطاب ما بعد الاستعمار، التي كانت عرضة للتأثر بالنزعة الأوروبية وقيمها المهيمنة، أن ينتهي بها الأمر في حالة من الاستعمار الجديد neo-colonialism، وذلك فيما  يخص معالجة العلاقة وقراءتها مع المقدس (هنا الدين الإسلامي) – خصوصًا -، فحسب ملاك أن  الأدب - في فترة ما بعد الكولونيالية - قد تجاهل الثقافة السائدة لدى فئات واسعة من المسلمين العاديين، الذين ظلوا يعتنقون قيمًا مختلفة عن قيم النخبة المثقفة، ويعيشون في سياقات اجتماعية واقتصادية وسياسية قاسية؛ مما أدى إلى حدوث فجوة بين واقع المسلمين العاديين وخطاب ما بعد الاستعمار السائد، الذي يمثله مُنظرون وكتابٌ من النخبة العلمانية.

وهنا يصف ملاك هذا السياق بأنه كان عبارة عن "التنافر بين خطابات ما بعد الاستعمار والممارسات المناهضة للاستعمار، بين قاعات الأكاديمية المصقولة وخراب الأحياء الفقيرة ومخيمات اللاجئين وغرف التعذيب وخنادق القتال".

ومن ناحية أخرى، يرى ملاك أن مسألة "الهوية الدينية " لم تحظَ باهتمام في أدب ما بعد الاستعمار، والمتهم بـ "ندرة المواد النظرية المفيدة ... ذات الصلة بموضوع الدين، أو المقدس كفئة مفاهيمية نقدية، مقارنةً بالمفاهيم التي تحظى بحضور واسع في نقاشات ما بعد الكولونيالية، كمسألة الاضطهاد على أساس العرق، أو الطبقة الاجتماعية، أو النوع الاجتماعي.

وفي هذا السياق يمكن قراءة  رواية  ليلى  أبو  العلا "الهدهد - إن  حكى" باعتبارها ردًا على خطاب الاستعمار السائد عن الإسلام وقيمه "القمعية"، المفروضة على  النساء المسلمات، اللاتي لن يتوانين عن التحرر منها واعتناق القيم الليبرالية الغربية متى سنحت لهن  الفرصة من جهة، وتهميش الهوية الدينية في الأعمال الأدبية المنشورة في الغرب من جهة  أخرى.

ظروف حياتية مرهِقة في محيط غربي

يتتبع السرد قصص ثلاث شخصيات نسوية أرهقتهن الظروف الحياتية؛ فعلى الرغم من أنهن يعيشن في المجتمع الغربي الأكثر حداثة، ومحاطات بأحدث التقنيات التي يمكن أن تقدمها الحضارة الغربية، مع ذلك، فهن في حالة من اليأس وخيبة الأمل؛ فلا  تستطيع  الحداثة التكنولوجية تلبية رغبة الشابة السورية المهاجرة  البسيطة، التي تركت خلفها زيجتين فاشلتين  أنجبت من إحداهما طفلًا، أما السودانية (موني) فتقف عاجزة أمام حالة ابنها ذي الاحتياجات  الخاصة، أما (سلمى) المصرية المتزوجة من رجل مسلم اسكتلندي، محب وداعم لزوجته وأبنائه؛  فتجد نفسها ممزقة بين بلدين: "اسكتلندا؛ حيث  أبنائها الأربعة وزوجها، ووطنها الأصلي مصر؛  حيث ماضيها، والفرصة في ممارسة عملها كطبيبة، بعد أن فشلت  في  ممارسته في بلد  المهجر بعد أن رسبت في الامتحان المؤهل لها.

غير أن ليلي أبو العلا -على خلاف الأعمال  والخطاب  الاستشراقي- تتجاوز ثنائية الشرق الإسلامي مقابل الغرب العلماني، وهوية مسلمة شرقية مقابل هوية غربية مسيحية/ علمانية.

تروي أبو العلا قصة ثالثة تدعم مجتمعًا متعدد الثقافات، وفي هذه المجتمعات  تكون الهويات في حالة التطور والتفاوض المستمر حول قيم مشتركة للتفاهم. يتتبع السرد قصة إيمان التي تختار أن تتخلى عن ممارسة ارتداء الحجاب، وتتطور شخصيتها كذلك؛ لتعلن استقلالها واعتمادها على ذاتها، مخالفة بذلك  الخطاب السائد في رواية ما بعد الكولونيالية، الذي  يتتبع رحلة تحول المرأة  المسلمة  في الغرب من الإسلام إلى العلمانية أو المسيحية، كما في رواية   "اسمي  سلمى" my Name  is  Salma للروائية فادية  فقير أو  الكثير من السير الذاتية التي نشرت في  الغرب حول نساء مسلمات مثل: "كافر" Infidel للصومالية  إيان هرسي علي.

"في  الهدهد - إن حكى" لا ترفض  إحدى البطلات (إيمان) الإسلام باعتباره عقيدة وقوة روحية، بل الممارسات التي تعتقد أنها فرضت عليها من  قِبل العائلة والمجتمع،  ولم يكن لها دور في اختيارها.

وبالرغم من أنها تشعر بعدم تقبل صديقتيها "سلمي وموني" ، اللتين تشبثتا بارتداء الحجاب كرمز للهوية الدينية والثقافية، لها في  البداية، إلا أنه مع تطور السرد نرى أنهما قبتلا اختيارها، واعترفتا بحرية اختيارها في ممارسة إيمانها دون  تقليل من انتمائها للدين الإسلامي.غير أن الحبكة الروائية تدور حول زيارة هؤلاء المهاجرات الثلاث لقبر شخصية أوروبية مسلمة، ألهمتهن في مهجرهن، وهي المستشرقة الاسكتلندية  "ليدي إيفيلين كوبولد" (1867-1963م).

 

الأديبة السودانية البريطانية ليلى أبو العلا.  (photo: picture-alliance/EdinburghEliteMedia/Ger Harley) Die britisch-sudanesische Autorin Leila Aboulela
الحبكة في رواية "الهدهد - إن حكى" للكاتبة البريطانية السودانية الأب والمصرية الأم ليلى أبو العِلا: الحبكة الروائية تدور حول زيارة المهاجرات الثلاث لقبر شخصية أوروبية مسلمة، ألهمتهن في مهجرهن، وهي المستشرقة الاسكتلندية "ليدي إيفيلين كوبولد" (1867-1963م). ليدي كوبلد بريطانية تنتمي للطبقة العليا، تقوم برحلة للأراضي المقدسة، قضت معظم طفولتها بين اسكتلندا وشمال أفريقيا، واعتنقت الإسلام طواعية، وكان إسلامها إسلامًا روحانيًّا غيرَ مرتبط بالانتماء الجسدي أو المكاني للمسلمين، أو حتى الممارسات الإسلامية، كارتداء الحجاب، غير أنها تصرح في مذكراتها "الحج إلى مكة": "لطالما سألت نفسي متى ولماذا أسلمت؟ ... إجابتي هي: أنني لا أعرف اللحظة بالتحديد التي تجلت فيها حقيقة الإسلام بالنسبة لي.. يبدو أنني كنت مسلمة على الدوام".

 

ليدي كوبلد بريطانية تنتمي للطبقة  العليا، تقوم  برحلة للأراضي المقدسة،  قضت معظم طفولتها بين اسكتلندا وشمال  أفريقيا، واعتنقت الإسلام طواعية، وكان إسلامها إسلامًا روحانيًّا غيرَ مرتبط بالانتماء الجسدي أو المكاني للمسلمين، أو حتى الممارسات  الإسلامية، كارتداء الحجاب، غير أنها  تصرح في مذكراتها "الحج إلى مكة": "لطالما سألت نفسي متى ولماذا أسلمت؟ ... إجابتي هي: أنني لا أعرف اللحظة بالتحديد التي تجلت فيها حقيقة الإسلام بالنسبة لي - يبدو أنني كنت مسلمة على الدوام".

بالإضافة إلى ذلك، لا يقدم السرد شخصيات تصارع من أجل الدفاع عن دين حقيقي جيد مقابل الدين الخاطئ السيء؛ فسلمى زوجة مسلمة تقوم برعاية والدة زوجها المسيحية، (نورما) وتربطهما علاقة ودية قائمة على تفاعلاتهم البشرية اليومية بعضهم مع بعض، بما يتجاوز معتقداتهم.

في مثل هذا المجتمع السلمي المتعدد الثقافات، يتم تقدير الأفراد بناءً على مشاركتهم النشطة في المجتمع من خلال العمل والخدمات التي يقدمونها بعضهم لبعض، وليس بناء على ما يعتقدونه.

 يدافع السرد إذَن عن الأطروحة، التي ترفض جوهرانية الهويات والرؤية الدينية للأفراد؛ إذ لعب فضاء البيئة الغربية دورًا مهمًا في مساءلة مشاعر الأفراد، وسلوكهم حول احتياجاتهم، وما يعنيه الانتماء في هذه البيئة الاقتصادية، والسياق  الاجتماعي والسياسي.

تصور الرواية كيف أنه على الرغم من وجود "الدين" في روايةِ ما بعد الاستعمار هذه، إلا أن الرؤية للمقدس نفسها، وممارسة التدين، قد تغيرا في البيئة الليبرالية الغربية، حيث تنتقل الشخصيات المسلمة الثلاث من الدين المؤسسي المجتمعي إلى الدين الفردي القائم على نسخة أخلاقية غير مسيسة للدين. تلك الصورة للدين الذي يطالب أفراده  تحت مصطلح "الأمة" الالتزام بمعايير وصورة واحدة تعبر عند انتمائهن رغم  الاختلافات الثقافية والجغرافية والاجتماعية.

بينما الصورة التي تصورها رواية "الهدهد - إن حكى" فيمكن  أن نراها في سياق ما تطلق عليها عالمة الاجتماع والنسوية المغربية فاطمة المرنيسي "إسلام الرسالة" . إسلام  يحاول كل فرد فيه الاجتهاد والتفكير في  إسلام إنساني يشمل  الجميع ويعمل على تحقيق العدالة للجميع في سياقاتهم المختلفة دون التقيد بخطاب يدَّعي إسلاما كونيا وتفسيرا وحيدا صحيح لآياته القرآنية.

تدين فردي وإسلام مُعَلْمَن؟

ففي الرواية تتخذ هؤلاء النساء المسلمات الثلاث، ثلاث طرق مختلفة لممارسة دينهن، دون التقيد بالرؤى الجاهزة لمن حولهن المسلمين الآخرين عن الإسلام. إنهم يعترفون بتصورات مختلفة من ممارسة الإسلام في العالم الواقعي بما يتجاوز تفسيرًا واحدًا كونيًّا مزعومًا. يبدو أن طرق ممارستهن للتدين؛ جاءت لتلبية احتياجاتهن النفسية الفردية، فهل يمكن القول في هذا السياق إن الإسلام تمت له عملية علمنة، يعترف فيها هؤلاء المسلمون بالمساواة، والتنوع، والدعوة إلى التسامح مع الأفراد المتدينين وغير المتدينين؟!

دعوة للمفكرين والمنظرين المعاصرين إلى إعادة التفكير في نظرية العلمنة التي أقصت ثقافات وفئات واسعة

وكرواية ما بعد الكولونيالية، يبدو أن هذا التطور لشخصيات المسلمات المهاجرات الثلاث يحيل إلى التفكير: حالة التفاوض على مساحة وفضاء ثالث، ينبع من ولادة هوية جديدة تسعى إلى تخليص نفسها من الممارسات الأبوية (القمعية)، وتقدير الموقف الليبرالي النسوي دون التخلي عن إيمانها بالإسلام.

 

 

الليدي إيفلين كوبولد أوّل امرأة من العالم الغربي تؤدّي مناسك الحج، وأول اسكتلندية تعتنق الإسلام.. تعرف بأمّ المسلمين الاسكتلنديين، دوّنت قصّة إسلامها وهي تستحقّ أن تُروى pic.twitter.com/znXkqClaxb

— مجلة ميم (@MeemMagazine) February 24, 2020

 

وبشكل عام، تحتفى رواية "الهدهد - إن حكى" بمجتمع متعدد الثقافات؛ حيث يعيش المسلمون وغير المسلمين معًا دون هيمنة دين واحد على الأديان الأخرى، كما هو سائد في   الخطاب والرواية الاستشراقية، التي تبنت التحول لتصوير صراع الحضارات والصراع الأيديولوجي بين الإسلام والغرب، ففي  مقابل التمثيل الاستشراقي الذي تم تشكيله تاريخيًا من خلال الأجندات السياسية، والافتراضات الأيديولوجية التي تعكس الصراع السياسي بين الإسلام والغرب، اختارت أبو العلا تمثيل المسلمين العاديين غير المهتمين بالسياسة، ويمكن دعم  هذه  الحجة في نصها في غياب تصوير حرب على الإرهاب (الإسلاموفوبيا) أو الصراع بين الإسلام السياسي والغرب، وهو الأمر الشائع في النصوص الأدبية المعاصرة  والخطاب السائد في الغرب.

وختامًا، أرى أنه على الرغم من أن " الهدهد - إن حكى" عمل روائي و لا تعتبر نظرية أكاديمية، إلا أن هذا  التصوير  الواقعي لحيوات فئات متعددة من المسلمين يمكن أن اعتباره  دعوة للمفكرين والمنظرين المعاصرين إلى إعادة التفكير في نظرية (العلمنة)  التي أقصت ثقافات وفئات واسعة، ما زال  يلعب الدين  فيها  دورًا كبيرًا؛ سواء باعتبارها هوية تاريخية وثقافية، أو قوة روحانية، ولا  يعتبر بالضرورة وجوده خطرًا على الديمقراطيات الغربية كما في الخطابات السياسية الشعوبية، بل إن الخطر هو رفض الاعتراف بوجوده وإقصائه، والغرض هنا هو استيعاب فئات مختلفة من الأفراد في المجتمعات  الغربية الحديثة المعاصرة من جهة، وتضييق الفجوة بين النظرية المعيارية للعلمنة، والممارسة القائمة على الخبرات والتواريخ الحية المتنوعة للمجموعات والأفراد المختلفة من جهة أخرى.

 

 

أماني الصيفي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de

 

 

أماني الصيفي - أكاديمية وباحثة في تخصص الدراسات الأدبية والثقافية.