تناقض بين جبال سويسرا الهادئة والفوضى في العراق

اضطر أسامة الشحماني إلى الفرار من العراق في عام 2002 وأصبح مسافرا بين العوالم. تعلم اللغة الألمانية بنفسه وها هو يعمل كمترجم ووسيط ثقافي في سويسرا. يصف في روايته كيف ساعده التمشي في البرية على معالجة خسارته لوطنه. فولكر كامينسكي يسلط الضوء لموقع قنطرة على هذا الكاتب وروايته الصادرة بالألمانية.

الكاتبة ، الكاتب: Volker Kaminski

لقد سمع الراوي المتحدِّثُ بصيغة الأنا للمرة الأولى كلمةَ "التمشِّي" وهو في سكن اللاجئين بمدينة آراو السويسرية. لم يكن يعرف ما المقصود بذلك؛ وبحسب تعبيره لا يوجد عراقيٌ يتمشَّى في الغابة أو يصعد الجبال.

ومثلما يقول: لا توجد بصفة عامة لدى العراقيين أية علاقة إيجابية مع الغابة، التي تتكون في وطنه من النخيل وأشجار الزيتون والرمان والليمون، وعلى أكثر تقدير يذهب المرء إلى هناك من أجل رعاية الأشجار وقطف الثمار. يتساءل مستغربًا: كيف يفكِّر السويسريون في "التجوُّل داخل غابة ما؟".

هذه "الفجوة الثقافية" الملحوظة جيِّدًا تُقدِّم للراوي المجال من أجل توضيح مشاعر الغربة التي يشعر بها وتستحوذ عليه أثناء إجراءات معاملة لجوئه. كلُّ شيء في سويسرا غريبٌ بالنسبة له، ليس فقط اللغة، بل وحتى عادات وتقاليد هذا البلد الجبلي والأخضر بشكل غير مألوف.

القفز فوق سياج الغربة

الغلاف الألماني لرواية "في الغربة تتحدث الأشجار اللغة العربية" للكاتب العراقي أسامة الشحماني
العودة إلى الطبيعة: إنَّ تمكُّن أسامة من الهروب لم يُحقِّق له الشعور بالراحة والرضى، بل يسبب له شعورًا بالذنب يحاول الآن التخلُّص منه بالتمشِّي في الطبيعة البرية من خلال توجُّهه بصوت عالٍ إلى الأشجار - وفي الواقع يوفِّر له ذلك العزاءَ والسلوان. تعطيه الأشجار صدًى وتساعده في التغلب على اليأس الذي كثيرًا ما يجتاحه.

 

ومع ذلك فهو عازم على إيجاد موطن جديد، ويريد "القفز فوق سياج الغربة"، وهكذا يُقرِّر ليس فقط أن يتعلم اللغة الألمانية بنفسه، بل ويرتدي أيضًا حذاءً رياضيًا ويبدأ في التمشِّي في منطقته المحيطة.

لقد اضطر إلى الهروب من وطنه بسبب مسرحية منتقدة للنظام. وقبل ذلك كان يدرس الأدب في بغداد ويُحَضِّر أطروحة الدكتوراه خاصته. والآن أصبح مضطربًا وقلقًا قبل كلِّ شيء على شقيقه الأصغر علي، الذي لا يزال يدرس في بغداد، حيث الحربُ الأهلية المريرة التي تُهَدِّد كلَّ يوم في هذه الفترة (من 2003 وحتى 2006) وجودَ أي إنسان.

وعليٌّ أيضًا يريد مغادرة العراق، ولذلك يتعيَّن على أسامة أن يساعده ويرسل له المال حتى يتمكَّن من دفع تكاليف الرحلة. ولكن من أين لأسامة أن يحصل على ألفيّ دولار؟ فعمله كمُوَزِّع دعايات لمحل بيتزا لا يجلب له حتى ما يكفيه لحياته الخاصة، لا سيما وأنَّ صاحب العمل كثيرًا ما يصطدم معه بسبب أجرته.

إنَّ تمكُّن أسامة من الهروب لم يُحقِّق له الشعور بالراحة والرضى، بل يسبب له شعورًا بالذنب يحاول الآن التخلُّص منه بالتمشِّي في الطبيعة البرية من خلال توجُّهه بصوت عالٍ إلى الأشجار - وفي الواقع يوفِّر له ذلك العزاءَ والسلوان. تعطيه الأشجار صدًى وتساعده في التغلب على اليأس الذي كثيرًا ما يجتاحه.

وطن في الغربة

قدَّم أسامة الشحماني قراءة مثيرة للحماس في مهرجان الأدب الدولي لهذا العام 2019 في العاصمة الألمانية برلين، وقد شدَّد من على المنصة على أنَّه كان من المهم جدًا بالنسبة له بعد هروبه أن "يصل" وأن "يخلق بنفسه وطنًا في الغربة".

لقد أشار من دون استخدامه كلمة التباطؤ إلى تأثير الطبيعة الإيجابي، الذي يساعده حتى يومنا هذا: عندما يراقب الأشجار تختفي - بحسب تعبيره - جميعُ الأشياء التي تشغله وتصرف انتباهه والهموم والأزمات ويكون "قريبًا من نفسه".

ولهذا السبب - مثلما يقول - فقد اتَّسع مفهوم الوطن أيضًا بالنسبة له: ففي اللغة العربية تعتبر كلمة "وطن" كلمة جديدة نسبيًا وتعني شيئًا مثل "بلدي، المكان الذي أعيش فيه". وفي المقابل لقد تحرَّر بالنسبة له هذا المفهوم من المكان ودخل في اللغة، بحيث أنَّ وطنه اليوم في الواقع هو اللغة، بصرف النظر عمَّا إن كان يتحدَّث أو يكتب بالعربية أو بالألمانية.

أسامة الشحماني، الذي قام ببحث حول "المجموعة 47" [الأدبية] وترجم أعمالًا لكلّ من [الفيلسوفين الألمانيين] فريدريش شلايرماخر ويورغن هابرماس إلى اللغة العربية، يعتبر من ناحية كاتبًا عربيًا ومن ناحية أخرى ألمانيًا، وهو فخورٌ جدًا بكونه يتم وصفه -في سويسرا مكان إقامته- بأنَّه "كاتبٌ من أبناء مدينة فراونفيلد" [السويسرية].

عندما يختفي عليٌّ في بغداد، تبدأ عائلته التي تعيش في جنوب العراق عملية بحث شاقة ومكلفة في بعض الأحيان.

يتم تقفِّي كلِّ أثر صغيرًا له، وتريد أمُّه بإلحاح منح الثقة لأشخاص مشبوهين يغرونها بوعودٍ ويطلبون مبالغَ كبيرةً، من دون تقديم أي ضمان.

الإيمان بالحرِّية القادمة

ما من شكّ في أنَّ هذا الوضع جعل أسامة الشحماني ييأس في منفاه، حيث يُفكِّر في عليّ من دون انقطاع، ويلوم نفسه على تخليه عن عائلته ويتذكَّر فترة حرب الخليج الثانية، عندما تعرَّض للإزعاج والمضايقة والضرب من قِبَل الجنود والميليشيات وقد نجا بأعجوبة من الخطف.

 

 

الرواية تُطوِّر في هذه المقاطع قوة تشويق كبيرة كما أنَّ التناقض بين عالم الجبال السويسرية الهادئ وبين الوضع الفوضوي الذي يسوده العنف والتعسُّف في بغداد، خاصة بعد سقوط صدام حسين، أي في الفترة التي يختفي فيها عليّ، يجعل هذه الرواية الصغيرة جذَّابة للقراءة.

يُعجَب أسامة بإيمان شقيقه غير المترابط بالحرّية القادمة. وهذا الإيمان، الذي يُضطَر عليٌّ في النهاية إلى أن يدفع حياته ثمنًا له، يحاول اليوم أسامة الشحماني المحافظة عليه من أجل العراق. ففي ظلِّ الظروف الحالية يعتبر العراق "دكتاتورية خالصة" تعاني من نقص في المؤسَّسات الحكومية وتسودها الفوضى، مثلما قال أسامة الشحماني في مهرجان الأدب. ولكن الأمل يعتمد على ظروف التواصل المُتغَيِّرة، التي تُوَفِّر لجيل الشاب فرصة للتعبير.

ومن ضمن خطط أسامة الشحماني نفسه -الذي يزور العراق باستمرار- مشروع ورشة كتابة عامة، يدعو إليها الكثير من المؤلفين والمؤلفات الأصداقاء من جميع أنحاء العالم من أجل التعاون. "إنَّها فكرة جنونية"، مثلما يقول مستهينًا بذلك شيئًا ما: "تمامًا مثل التمشِّي في الغابة".

 

فولكر كامينسكي

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de

 

 

رواية أسامة الشحماني: "في الغربة تتحدث الأشجار اللغة العربية"، صدرت عن دار نشر ليمَّات، في زيوريخ سنة 2018، في 192 صفحة، تحت رقم الإيداع:

ISBN 9783857918599