انتخابات تونس: سطوة الأحزاب تتراجع - أهلا بالمغمورين!

بتفوّق مُرشحين في الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية، أحدهما أستاذ جامعي غير مسنود من أي حزب، والثاني رجل أعمال مسجون متهم بالفساد، يبدو أنّ زلزالا عنيفا ضرب المشهد السياسي، وستكون له ارتدادات كبرى. إسماعيل دبارة من مركز تونس لحرية الصحافة يحاول رصد أسباب وتداعيات هذا "الزلزال" لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: إسماعيل دبارة

حصل المترشح المستقل وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد على المرتبة الأولى بنسبة 18,4 % في الانتخابات الرئاسية التونسية (الدور الأول)، في حين حصل مرشح حزب "قلب تونس" ومؤسس القناة التلفزيونية الخاصة "نسمة"، نبيل القروي، على 15,6 في المائة. وسببت نتائج الدور الأول لانتخابات الرئاسية ذهول الطبقة السياسية والمتابعين إلى درجة تسمية ما وقع بـ "الزلزال".

تظهر نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية أن النظام السياسي في تونس يدخل حاليا في أزمة مبكرة قوامها تشظي الخارطة الحزبية وعدم الثقة في الأحزاب الكبرى التي هيمنت منذ العام 2011، وتميزت بسوء الأداء الاقتصادي؛ فقد شهدت الانتخابات تصويتًا احتجاجيًا وعقابيًا على الواقع الاقتصادي المتردّي ومن ادعى القدرة على إصلاحه. فكانت النتيجة تراجع النخبة السياسية التقليدية، حُكمًا ومعارضةً، رغم القدرات التنظيمية والأذرع الإعلامية التي تسندها. وأيًا يكن الفائز في الدور الثاني، فإنّ المشهد السياسي التونسي دخل طور تغيرات جذرية ويتجه إلى إعادة تأسيس نفسه على قواعد جديدة قد تكون مختلفة كليًّا عن السابق.

ذهول غير مبرّر

تبدو صدمة السياسيين في تونس، خاصة المهزومين في الانتخابات، حيال النتائج، غير مبررة، بل جاء ذهولهم ليؤكّد أنهم مفارقون للواقع ويبتعدون شيئا فشيئا عن هواجس الناس. ومردّ ذلك أنّ المترشحَيْن الفائزَيْن تصدرا نتائج عدد لا يستهان به من استطلاعات الرأي، التي كانت دوما تضعهم بين المترشحين الخمسة الأوائل.

 

 

لم يهتمّ كثيرون بالظهور المفاجئ لقيس سعيّد ونبيل القروي في نوايا التصويت، ومرت الإشارات مرور الكرام، إذ يعتنق سياسيو تونس فكرة تقول إنّ من لم يملك "ماكينة" حزبية ودعائية ومالا ضخما، فلن يصل إلى الحكم. وفي حين أنّ أحد المترشحَيْن يملك تلك الامتيازات حتى وهو وراء القضبان، فإنّ الفائز الثاني مغمور وبلا مال ولا حزب وبلا ظهور إعلامي مستمر.

العقاب بالصندوق

قبل إعلان النتائج الرسمية يوم الثلاثاء 17 سبتمبر / أيلول 2019، ما كان لتونسي أن يعتقد بإمكانية حصول مترشح سجين، أو أستاذ جامعي مغمور، على نسب تفوق ما سيحصل عليه رئيس حكومة حالي، أو رئيس سابق، أو وزير دفاع حالي، شاركوا جميعا في المنافسة، لكن النتيجة أثثت لأن يكون ذلك ممكنا. فما الذي حصل؟

اختار حوالي المليون ناخب أي حوالي 35 % من الناخبين، شخصين هما قيس سعيد ونبيل القروي من خارج المنظومة الحزبية السائدة. وهذا يعني أنّ الغالبية باتت تدير الظهر إلى المنظومة التي حكمت بعد رحيل زين العابدين بن علي في 2011. ومنيت الأحزاب الحداثية والتقدمية والليبرالية واليسارية والوسطية، بهزيمة نكراء في الدور الأول رغم ما يقف وراءها من إمكانيات بشرية ومالية.

 

 

ومن الملاحظ في نتائج الدور الأول لانتخابات الرئاسة في تونس، أن الناخبين كفروا بكل الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة، بل حتى بأولئك الذين لم تحُم من حولهم شبهات فساد، ولم يشاركوا في تسيير دواليب الدولة ولم يثبت فشلهم في أي منصب.

في الحقيقة، لقد تشوهت صورة السياسي التونسي بشكل كبير، وتمكنت السنوات الثماني الماضية من إبراز صورة سلبية عنه، سواء أكان حاكما أم معارضا، فالسياسي في المخيال التونسي الحالي هو صاحب المصالح الشخصية، المشتغل مقابل أجر، لا يحب التطوع ونصرة الفقراء، يتمتع بامتيازات الدولة للقيام بالعمل السياسي، ويكيل الاتهامات للجميع، ويرفض الاعتراف بالفشل أو الاعتذار، ويبذل الجهود من أجل البقاء في المنصب لدورة أخرى، أكثر من الجهود التي يبذلها في الإيفاء بتعهداته التي قطعها.

وبلغ التنافر مع السياسي حدا أعلى من ذلك، إذ انهال الغضب على الدولة نفسها وعلى مؤسساتها المعطلة، بسبب العجز وفق نظامها السياسي وآلياتها وعبر الحكومات المتعاقبة في تقديم حلول مقنعة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتعددة. ورغم أنّ المنطق يقول إنّ من حكم فهو من يتحمل المسؤولية قياسا بمن لم يحكم، إلا أنّ الناخب التونسي، تعامل هذه المرة بمنطق عقابي لا يرحم، وشمل عقابه كل من اختار أن يكون جزءا من مؤسسات الدولة.

 

 

في العام 2014، عاقب التونسيون أحزابا ثورية كان لها تاريخ مشرّف في التصدي للديكتاتورية، وسلموا ثقتهم إلى الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ولحزبه، الذي توافق مع الإسلاميين من أجل الحكم، لكنّ الأداء الهزيل لمنظومة "التوافق" والمؤشرات الكارثية في الاقتصاد، كانت محبطة، فقد تفرّغ التحالف "العلماني الإسلامي" لمدة خمس سنوات لمعالجة الانقسامات والصراعات وكيل الاتهامات، قبل أن تدخل المنظومة الحاكمة في منطق المناورات والتورط في دعم الفساد عبر "قانون المصالحة الإدارية" والتستر على فاسدين كبار، بالتوازي مع الضغط الشديد الذي سُلِّط على المواطن العادي بسبب الضرائب الكبيرة التي فرضتها الحكومات. 

كل ذلك جعل الناخب التونسي يفهم أنّ المشكلة لم تعد في الأحزاب، فعاقب الجميع بمن فيهم حزب النهضة الذي لم يتوقع أحد أن تكون هزيمة مرشحه (عبد الفتاح مورو) مدوية، وألا يتمكّن من بلوغ الدور الثاني في انتخابات الرئاسة، رغم وقوف حزب ضخم ومنظم وراءه.

فائزان غامضان

من الصعب جدا فهم سلوك الناخب في أوقات الانتقال الديمقراطي، ورغم أهمية ما قيل آنفا في فهم أسباب رفض الناخب التونسي للمنظومة الفاشلة برمتها، فإنّ هنالك أسبابا أخرى تقف بالتأكيد وراء هذا الزلزال السياسي.

 

 

تذهب بعض القراءات إلى اعتبار أنّ التجربة التونسيّة "لا تجترّ التجارب الديمقراطية الكلاسيكيّة من حيث بناء أحزاب كبيرة تتداول على السّلطة، وأنها وصلت إلى الشيخوخة مع بقيّة الديمقراطيات الغربيّة العريقة في وقت قياسيّ".

ويستشهد أصحاب هذا الرأي بما جرى في فرنسا عند صعود إيمانويل ماكرون من خارج الحزبين الكبيرين، ووصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في أمريكا، وبولزونارو في البرازيل وبوريس جونسون في بريطانيا، وعلى هذا النهج، أصعد المزاج الشعبيّ التونسيّ شخصيّتين من خارج المؤسّسات ولا تتمتّعان برضاها.

ومن الصعب القول إنّ المترشح نبيل القروي "من خارج المنظومة" كونه كان أحد أبرز قيادات "نداء تونس" حزب الرئيس الراحل، وأحد أبرز مموّليه، وكان لوقت قريب مهندسا لبعض السياسات، في حين يعترف المزاج العام في تونس حاليا بأن القروي مسجون لأنه "منافس" وليس لأنه "متهرّب ضريبيًا".

خاض القروي الانتخابات الرئاسية من السجن بعد اعتقاله، في 23 أغسطس / آب بتهمٍ تتعلق بالفساد، وكان مثار جدل واسع بسبب صعوده السريع الذي بدأ قبل عامين، عندما أسّس جمعية تحت مسمى "خليل تونس"، نسبة إلى ابنه خليل الذي مات في حادث سير. وقامت الجمعية بدور مهمّ في الترويج للقروي، من خلال جمع التبرعات والقيام بتوزيع المساعدات النقدية والأغذية والأغطية بشكل مباشر للفقراء في عدد من المناطق والأحياء المهمّشة.

 

 

تلك الأنشطة كانت تبثّ على قناة "نسمة" التي يملكها القروي وتعتبر الأكثر مشاهدة في البلاد، وتركز القناة على إبراز المنتفعين وهم يتقدمون إليه بالشكر والعرفان بل ويناشدونه الترشح للحكم. وقد أثار هذا الأسلوب جدلًا واسعًا حول شرعية استخدام العمل الخيري وأخلاقيته لتحصيل مكاسب سياسية، وشراء الذمم وتحويلها إلى رصيد انتخابي، وتقدمت الحكومة فعلا بقانون يجرّم تلك الأعمال، ويقصي فاعلها من الترشّح، وهو قانون فُهِمَ على أنه سُنّ تحديدا لإزاحة القروي، وتم تمريره عبر البرلمان لكن الرئيس الراحل السبسي رفض توقيعه، وبالتالي لم يُطبَّق في الانتخابات الحالية.

وصعود القروي السريع وانقلابه على المنظومة التي كان ينتمي إليها، يأتي في سياق التحوّلات العميقة التي يشهدها العالم أجمع، خاصة في الديمقراطيات، إذ تتراجع حظوظ السياسي التقليدي المحنّك والمجرّب، والذي يُراكم خبراته ويتدرج في المسؤوليات وعبر الأطر الحزبية والمناصب على امتداد سنوات طويلة، لصالح السياسي المغمور الذي يصعد سريعًا وبشكل فجائي إما بفعل المال وجماعات الضغط والتلميع الإعلامي، أو عبر الاستثمار في "الخطاب الشعبوي" الذي يرتكز على تضخيم نقاط فشل الخصوم وإغداق الوعود، لجمهور فقير لا يمنحه القصف الإعلامي المركّز وضغوطات الحياة اليومية فرصا للتدقيق والتثبّت وإبداء الشكّ وطرح السؤال.

أما ظاهرة قيس سعيّد، فتبدو أكثر غموضا من حالة نبيل القروي، فالرجل وافد جديد على المسرح السياسي التونسي، وقد سطع نجمه بعد ثورة 2011، حيث كانت له مساهمات مهمة خلال النقاشات التي رافقت كتابة دستور 2014، خصوصًا في المنابر الإعلامية، وكان يمتاز عن غيره بطرح يدعو إلى القطع مع مركزية الدولة مباشرة من خلال ترسيخ مبدأ "حكم الشعب للشعب" وذلك بالبدء بإنجاز انتخابات محلية ثم جهوية ثم مركزية (أي برلمانية). وهو خطاب يتمسك به منذ 2011 ولم يغيّره وبنى عليه حملته الانتخابية الباهتة.

 

 

يملك سعيّد أسلوبا تواصليا غير تقليدي، ويبدو مختلفا عن غالبية المُتكلمين ومن تعود عليهم الناخب عبر وسائط الإعلام المختلفة، ويتميز بهدوئه وتمسّكه بالحديث باللغة العربية الفصحى، واحترام قواعدها الصرفية والنحوية والصوتية، ما يوحي لدى المتابع بصدقه واختلافه عن الصورة النمطية للسياسي التقليدي. وقد تميز بأدائه في مناظرات المترشحين التلفزيونية، ونال إعجاب كثير من الشباب والناخبين المترددين.

ويوما بعد يوم، يقترب الإعلام التونسي من فكّ شفرة "قيس سعيّد"، إذ تبيّن أن للرجل فريقا صغيرا من المستشارين غالبيتهم من الشباب، وأبرزهم يساريّ كان متشددا قبل أن يراجع خياراته، أما بقية الفريق فهم مزيج من اليساريين والمحافظين، تَمكَّنَ خطاب سعيّد الغامض وجمعه بين متناقضات كثيرة من تجميعهم رغم تنافر أيديولوجياتهم، على غرار موقفه الرافض لقانون المساواة في الإرث. وبدأ سعيّد مع ذلك الفريق غير المتجانس، حملة باكرة خاصة في الجهات الداخلية للبلاد، لكنها كانت حملة صامتة وبعيدة عن الأضواء.

لم يقم قيس سعيّد بحملة انتخابية بالمعنى التقليدي للكلمة، حيث لم يكن له ظهور إعلامي متواتر، ولم يصرف كغيره أموالا ضخمة في مواقع التواصل الاجتماعي أو خلال الاجتماعات، ورفض أيّ دعم مالي من المؤسسات الاقتصادية ورجال الأعمال وغابت المظاهر الاحتفالية عن جولاته، بل اعتمد بشكل كبير على عدد من الشباب المتطوعين الذين آمنوا برؤيته وبرنامجه الذي حمل اسم "الشعب يريد".

 

 

ضِف إلى ذلك أنّه تمكن من البقاء بعيد تمامًا عن المنظومة السياسية الحالية وكلّ ما يشوبها من علاقات مشبوهة بلوبيات الفساد، رغم الإغراءات، ما جعل هالة من "العفة والطهورية" تحوم من حوله، ما جعل كثيرين يختارونه دون غيره.

ثورة ناعمة؟

ربما هي كذلك بالفعل، فالمرشح الفائز قيس سعيّد وصفها بانها "ثورة من داخل الدستور". وبكل الأحوال، فقد تمكن التونسيون من جعل التصوّرات السائدة والحسابات الشّائعة حول دور الأحزاب واللوبيات والإعلام والمال، تنهار بالصندوق.

هذه النتائج، سوف تدفع بالنخبة الحزبية والسياسية التقليدية إلى السعي لفهم مغزى الرسالة التي أتى بها صندوق الاقتراع، إن أرادت هذه النخبة فعلا عدم الاندثار وتسليم البلاد إلى مغامرين أو هواة، فالأمر يحتاج -بحسب المتابعين- إلى الكثير من التواضع والتأمل والتحليل لفهم رسالة الناخب التونسي، وفهم سلوكه الغاضب والمعاقب للجميع

 

إسماعيل دبارة

حقوق النشر: إسماعيل دبارة / موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de

إسماعيل دبارة صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة