كابوس إردوغان الجيوسياسي - هل يعيد تركيا إلى الحضن الغربي؟

بحلول عام 2010 رعت تركيا علاقات جيدة مع جميع الدول الشرق أوسطية. لكن استبدالها عام 2011 سياسة القوة الناعمة بتكتيك القوة الصارمة أدى إلى تدهور علاقاتها مع أطراف إقليمية فاعلة. لهذا سيعود إردوغان عاجلا أم آجلا إلى حضن الغرب. تحليل ستاسا سالاكانين لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Stasa Salacanin

بعد فشل محادثات انضمام تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبي وإدراك إردوغان أنَّ ما يمكنه توقُّعه في أحسن الأحوال هو بقاء تركيا على وضعها غير الواضح كدولة تابعة، تحوَّل الرئيس التركي إلى الشرق.

ومنذ ذلك الحين، باتت الأهداف الرئيسية لسياسة رجب طيب إردوغان الخارجية هي إقامة علاقات ودِّية مع جميع الدول الإسلامية - وخاصة في الشرق الأوسط - وكذلك الاهتمام في تحالفه مع العرب السُّنة.

وفي الواقع، تحسَّنت هذه العلاقات في مطلع القرن الحادي والعشرين في ظلِّ حكومة حزب العدالة والتنمية - المعروف عامة باسم AKP. البروفيسور سلجوق جولاك أوغلو، مدير المركز التركي لدراسات آسيا والمحيط الهادئ ومقره في أنقرة، يرى أنَّ السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية تتوافق تمامًا مع سياسة تركيا الخارجية التقليدية الموالية للغرب، التي أسَّسها مصطفى كمال أتاتورك.

بحلول عام 2010 باتت حكومة حزب العدالة والتنمية ترعى علاقات جيِّدة مع جميع الدول الكبرى ذات الطابع الإسلامي في الشرق الأوسط، بما فيها المملكة العربية السعودية ومصر وإيران وسوريا وليبيا. وحتى أنَّ حزب العدالة والتنمية قد قام بتعديلات بنَّاءة في تقاليد السياسة الخارجية الكمالية، وذلك من خلال محاولته تحسين علاقات تركيا مع جميع الدول المجاورة، بما فيها اليونان وأرمينيا وسوريا. وكذلك بدأت أنقرة بمغازلة قوى عالمية مثل روسيا والصين، وكانت تأمل في أن تعزِّز تكتيكات القوة الناعمة وضع تركيا كشريك تجاري.

برود في العلاقات بعد الربيع العربي

ولكن الرومانسية التركية العربية انتهت بعد انتفاضات الربيع العربي، التي أدَّت إلى إسقاط الحكومات في تونس ومصر وليبيا واليمن. وباعتبارها مؤيِّدة بكلّ حزم وإصرار للإسلام السياسي، فقد رحَّبت القيادة التركية بانتفاضات الربيع العربي، في حين أنَّ معظم دول الخليج باستثناء قطر كانت تنظر إلى هذه الانتفاضات على أنَّها عامل يزعزع الاستقرار.

أدَّت العلاقات الوثيقة بين الحكومة الإسلامية في تركيا وجماعات الإخوان المسلمين في كلّ من مصر وتونس واليمن وسوريا إلى حدوث خلاف بين أنقرة والدول العربية الأخرى، باستثناء قطر.

وبحسب رأي البروفيسور سلجوق جولاك أوغلو لم يكن هذا التقارب الإيديولوجي مفاجئًا: فمعظم جماعات الإخوان المسلمين أو الحركات السياسية الأخرى ذات التوجُّهات الإسلامية في العالم العربي كانت تُقلِّد حزب العدالة والتنمية التركي في محاولة للوصول إلى السلطة في بلدانها بوسائل ديمقراطية وسلمية.

تَعَمَّق الخلاف بين تركيا والدول العربية وخاصة المملكة العربية السعودية على نحو متزايد لأسباب ليس آخرها أيضًا الانقلاب العسكري في مصر وكذلك الأزمة القطرية. وفي شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2018، وصلت الأوضاع في آخر المطاف إلى ذروتها بعد اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول.

محاكمة فتيات ونساء عضوات في جماعة الإخوان المسلمين - في 27 نوفمبر / تشرين الثاني 2013.   (photo: Getty Images/AFP)
شبح جماعة الإخوان المسلمين: "أدَّت العلاقات الوثيقة بين الحكومة الإسلامية في تركيا وجماعات الإخوان المسلمين في كلّ من مصر وتونس واليمن وسوريا إلى حدوث خلاف بين أنقرة والدول العربية الأخرى، باستثناء قطر"، مثلما يكتب ستاسا سالاكانين.

 

{الحركات السياسية ذات التوجهات الإسلامية في العالم العربي كانت تقلد حزب العدالة والتنمية التركي في محاولة الوصول إلى السلطة في بلدانها بوسائل ديمقراطية وسلمية.}



وبدلًا من الاستمرار في بناء علاقات وثيقة مع الدول العربية، باتت تركيا اليوم أشدّ منافس للمملكة العربية السعودية ولدولة الإمارات العربية المتَّحدة عندما يتعلق الأمر بالهيمنة الإقليمية وبقيادة العالم السُّني.

يثير تزايد نفوذ تركيا العسكري المخاوف في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتَّحدة ومصر، حيث لا تزال ذكرى الحكم الاستعماري في عهد العثمانيين حيَّة حتى يومنا هذا.

الفرص الضائعة

بيد أنَّ عجز تركيا عن توسيع نفوذها في جميع أنحاء العالم العربي يجبر إردوغان على الحفاظ على علاقات جيِّدة مع المملكة العربية السعودية. لم تتمكَّن تركيا من الحفاظ على اتِّفاقية التجارة الحرّة مع الأردن أيضًا، وهذا خير مثال على الفرص التركية الضائعة. زد على ذلك أنَّ تحسُّن العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج يساهم في زيادة مخاوف تركيا من العزلة.

يبقى أن ننتظر كيف ستتغلب تركيا على الأزمة مع السعوديين بسبب مقتل خاشقجي ومدى نجاحها في تحقيق التوازن بين العديد من الأهداف المتعارضة مع دول الخليج العربية التي تظلّ مثل ذي قبل -على الرغم من الاختلافات السياسية العديدة- أهم المستثمرين في تركيا.

تُقدِّر الوكالة التركية لتشجيع الاستثمار والتنمية قيمة الاستثمارات الخليجة في تركيا بنحو تسعة عشر مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل 9.4 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في البلاد. وفي هذا السياق تعتبر المملكة العربية السعودية سوقًا مهمة للشركات التركية. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ أكثر من نصف مليون سائح سعودي يزورون تركيا كلَّ عام.

يجب على إردوغان فتح فصل جديد

ينظر الكثيرون إلى عجز تركيا عن إقامة علاقات أفضل مع الدول العربية باعتباره ضربة قوية لجدول أعمال القوة الناعمة التركية وأحلامها العثمانية الجديدة.

وضمن هذا السياق، يرى باحث أكاديمي، لا يريد الكشف عن هويته، أنَّ كلًا من رجب طيب إردوغان وأحمد داوو أغلو غير ملتزمين بجدول أعمال عثماني جديد، بل بجدول أعمال وحدوي إسلامي. ويقول إنَّ "هذا الخطاب حول العثمانية الجديدة هو وجهة نظر غربية نمطية ويدل على الجهل". 

ويضيف أنَّ "إردوغان يتحوَّل وعلى نحو متزايد إلى ’قومي‘، سياسته الخارجية تشبه سياسة تركيا الخارجية في مطلع ومنتصف التسعينيات. لقد تم إضعاف العنصر الإسلامي بشدة، إن لم يتم حتى محوه، في شهر أيلول/سبتمبر - آب/أغسطس 2015".

وفي المقابل يشير البروفيسور سلجوق جولاك أوغلو إلى أنَّ جميع عمليات تطبيع العلاقات - وخاصة مع القاهرة والرياض - تبقى على الأرجح مجرَّد أضغاث أحلام، ما دامت حكومة حزب العدالة والتنمية تواصل سياستها الإسلامية الموجَّهة نحو جماعة الإخوان المسلمين.

وبحسب مصدرنا الأكاديمي غير المذكور اسمه فإنَّ "الحكومات العربية - ربَّما باستثناء قطر وعُمان - تتعامل جميعها بحذر مع تركيا إردوغان. ولكنني أفترض أنَّ الجماهير السُّنية لا تزال تحبُّه - وخاصة أنصار جماعة الإخوان المسلمين".

وزير خارجية مصر سامح شكري يتحدث للصحفيين خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان ووزير الخارجية السعودي عادل الجبير ووزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة بعد لقائهم في العاصمة المصرية القاهرة في 5 يوليو / تموز 2017 ، لمناقشة الأزمة الدبلوماسية الخليجية القطرية. الدوحة دعت إلى الحوار من أجل حل النزاع. (photo: picture alliance/Zumapress/APA Images/Stranger)
جبهة مشتركة ضدَّ قطر وحليفها الإقليمي التركي: تَعَمَّق الخلاف بين تركيا والدول العربية وخاصة المملكة العربية السعودية على نحو متزايد لأسباب ليس آخرها أيضًا الانقلاب العسكري في مصر وكذلك الأزمة القطرية واغتيال خاشقجي. باتت تركيا اليوم أشدّ منافس للمملكة العربية السعودية ولدولة الإمارات العربية المتَّحدة عندما يتعلق الأمر بالهيمنة الإقليمية وبقيادة العالم السُّني.

 

{"جميع المؤشرات تشير إلى عودة إردوغان عاجلا أم آجل إلى حضن الغرب." - كما يرى ستاسا سالاكانين }

 

وبالإضافة إلى ذلك يعتقد البروفيسور سلجوق جولاك أوغلو أنَّ السياسة الخارجية الإسلامية لا تتَّبع أية استراتيجية مدروسة. ويضيف أنَّها تفتقر بالمقارنة مع السياسة الكمالية الخارجية إلى التطبيق الضروري على أرض الواقع.

منذ قيام حزب العدالة والتنمية بتغيير إيديولوجيَّته في عام 2011 - من الديمقراطية المسلمة إلى الإسلام السياسي - وإدخال تكتيكات القوة الصارمة كبديل لسياسة القوة الناعمة التي كان يتَّبعها، بدأت تركيا تفقد مكانتها.

واليوم تروِّج حكومة حزب العدالة والتنمية لخريطة طريق أكثر براغماتية من خلال سياستها في الشرق الأوسط، في شكل مزيج من العناصر الإسلامية والكمالية.

وإذا اتَّبعت أنقرة الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الكمالية، فعندئذ يمكن لتركيا أن تنجح في تطبيع علاقاتها مع الأطراف الفاعلة الأخرى في المنطقة.

وبما أنَّ واقع تركيا الاقتصادي يعتمد على اقتصاد السوق الحرّة، فمن الأرجح أنَّ ارتباط أنقرة العميق بالمؤسَّسات الغربية، مثل حلف الناتو والاتِّحاد الأوروبي ومجلس أوروبا، يدفعها إلى البقاء موالية على المدى الطويل للمحور الموالي للغرب. فجميع المؤشِّرات تشير إلى عودة إردوغان عاجلًا أم آجلًا إلى حضن الغرب.

 

 

ستاسا سالاكانين

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de