انفصام الخطاب السياسي الألماني عن واقع الشرق الأوسط

مظاهرات متضامنة مع الفلسطينيين في برلين - ألمانيا.
مظاهرات متضامنة مع الفلسطينيين في برلين - ألمانيا.

إدراك ألماني منقوص للصراع الإسرائيلي الفلسطيني جعل خطاب ألمانيا الشرق الأوسطي متسما بعبارات جاهزة متكررة مضلِّلة، وهو ما يهدد بإغفال حقيقة هذا الصراع الواقعة. تحليل الصحفي الألماني شتيفان بوخن لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : Stefan Buchen

الرأي العام الألماني لا تَنْقُصُهُ النقاشات الخلافية الصاخبة ولا يَنْقُصُهُ الغضب الصامت، فثمة دائماً ما يثيرهما: ابتداءً بالموقف من سياسة الحكومة الألمانية المتعلقة بأزمة كورونا وما يتصل بها من حظر تجوال وإغلاق للمدارس، مرورًا بأزمة السكن وسوق العقارات والسياسات المتعلقة بالمناخ وخوف شرائح عريضة من المجتمع على رفاهيتها ومسألة اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وصولًا إلى الطريقة المثلى للتعامل مع روسيا والصين، وإلى ما ذلك من مواضيع يتم إثارتها في العلن، أضف إلى ذلك أيضا ما يحترق بهدوء في خلفية الأحداث بلا لهب.

وعليه، فمن المريح أن يطفو إلى سطح هذه النقاشات موضوع يتفق في شأنه معظم الرأي العام. وقد مثَّلت عِبارة: "فلنكافح معاداة السامية، ألمانيا تقف إلى جانب إسرائيل" [في فترة القصف المتبادل بين تل أبيب وغزة] الحد الأدنى من توافق الآراء في ألمانيا، واحتفى السياسيون والإعلاميون بهذه العِبارة، وكأنهم في قُدّاس لشعائر علمانيّة، وتكرر سماع عبارات من قبيل: "هذا لا يُطاق ومن غير المقبول أن نرى ذلك في الشوارع الألمانية إلخ..." - [في إشارة إلى ما حدث في مظاهرات متضامنة مع الفلسطينيين في ألمانيا].

وما قدح شرارة وابل الإدانات لمعاداة السامية في ألمانيا هو الصراع في الشرق الأوسط والتظاهرات المؤيدة للفلسطينين التي خرجت في بعض الشوارع الألمانية، والتي هتف خلالها بعض المتظاهرين بشعارات معادية لليهود، وشارك في هذه التجمعات أناس من أصل فلسطيني، بالإضافة إلى مهاجرين من بلدان أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

الإدانة بديهية ولا نقاش عليها حين يَسُب متظاهرون اليهود بالقول: "يهود زبالة ملاعين"؛ وما قام به السياسيون والإعلاميون الألمان في سياق التعبير عن غضبهم إزاء مثل هذه الأقوال هو أمر صحيح بكل تأكيد، إلا أنهم ما لبثوا أن أضافوا إلى ذلك ما أضافوا، فأخرجوا من دروج مكاتبهم هذا الكلام الطنان: "معاداة السامية المستوردة من الخارج". وهو مفهوم تم سابقا شرح مدى تضليله مرارا وتكرارا.

محاولة لتبرئة الألمان من تهمة معاداة السامية

فالحديث عن "معاداة السامية المستوردة من الخارج" يبدو كما لو أنه محاولة مكشوفة لرمي الذنب على أشخاص آخرين. فحين يتحدث الألمان عن معاداة السامية في أوساط المهاجرين المسلمين فإن الألمان يحررون بذلك أنفسهم من الحديث عن تاريخ معاداة السامية في ألمانيا، بل وحتى من التفكير بهذا التاريخ. وحين يصبح "المهاجرون" هم أعداء السامية، يمسي الألمان نقيض ذلك، أو أنهم لم يعودوا كذلك.

لكن خروج بعض الأفراد عن المسار الصحيح خلال الاحتجاجات المذكورة أعلاه هو أمر يمكن التغلب عليه من خلال التعليم والتوعية. وفي المقابل، فإن هزيمة النسخة الألمانية من معاداة السامية لم تتم إلا بعد أكبر عملية عسكرية وأعظم تضحيات عرفتها البشرية خلال تاريخها. غير أن حتى العنف لا يجدي نفعًا من منظور البعض، ومنهم مرشح الحزب الديمقراطي المسيحي للبرلمان الألماني والرئيس السابق لهيئة حماية الدستور هانس غيورغ ماسِن! [ماسِن الذي كان أُجبر على التخلي عن عمله في هيئة حماية الدستور (جهاز الاستخبارات الداخلية) إثر تشكيكه في صحة فيديو يُظهِر متظاهرين من اليمين الألماني المتطرف يطاردون مهاجرين].

 

وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في البرلمان الألماني (البوندستاغ) - برلين. Foto: Kay Niietfeld/dpa/picture-alliance
Außenminister Heiko Maas geißelt in einer Aktuellen Stunde des Bundestags des „Raketenterror“ der Palästinenserorganisation Hamas. „In einem Krieg wie zwischen Israel und der palästinensischen Hamas im Mai 2021 bringt die konsequente Parteiname für die israelische Seite allerdings auch ein Problem mit sich,“ schreibt Stefan Buchen in seinem Essay. „Vor lauter Bekenntnissen zum Anspruch Israels auf Selbstverteidigung und Sicherheit ("es ist deutsche Staatsräson"), vor lauter Verurteilungen der "Terrorangriffe" der Hamas geraten wesentliche Tatsachen aus dem Blick.“

 

وأيّاً كان الأمر، فقد أصبح لدى الطبقة الوسطى في المجتمع الألماني سبب منطقي ومفهوم يسمح لها برفع الصوت ضد الهجرة إلى ألمانيا وبالنظر بشكل مريب إلى الوافدين مسبقا إلى البلاد. فحين يوصَم هؤلاء المهاجرون بأنهم معادون للسامية، يصبح رفض الهجرة علامة على التسامح والتنوير، ويرسل ذلك في الوقت نفسه إشارات مطمئنة بأن الغرب ماضٍ في ترسيخ قيمه الليبرالية بعزيمة وثبات.

وفي سياق انتخاب خلف للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، قدَّم المرشح عن الحزب الديمقراطي المسيحي أرمين لاشيت مثالًا واضحًا عن التوظيف السياسي الجيد لتهمة معاداة السامية، وذلك حين ألقى بهذه التهمة على غريتا تونبيرغ، الشخصية المشهورة في حركة "أيام الجمعة من أجل المستقبل" [وهي حركة اجتماعية عالمية عمادُها أطفال المدارس والتلاميذ المطالبون بإجراءات أكثر شمولية وسرعة وكفاءة لحماية المناخ] بعد نشر هذه التلميذة ملاحظات انتقادية حول الحرب الإسرائيلية على غزة.

وفي ذلك ما يتيح تسطيح الحراك العالمي الهادف لحماية المناخ -المزعج [للعديد من السياسيين وأرباب الصناعات الكبرى]- عبر اتهام هذا الحراك بمعاداة السامية. هكذا، وبكل بساطة.

كما يتيح هذا الخطاب للمسؤولين عن الانبعاثات الغازية -المسببة للاحتباس الحراري- أن يشعروا فجأة بأنهم "متسامحون".

عبر التنديد بمعاداة السامية يعرب السّاسة في ألمانيا قبل كل شيء عن تضامنهم مع إسرائيل. وهو أمر جدير بالترحيب للوهلة الأولى. فلو لم يكن لماضي ألمانيا أي عواقب على تصرفات ممثليها الحاليين، لكنا نشهد اليوم سقوطًا في العدمية ونهاية الأخلاق.

حقائق جوهرية متوارية عن الأنظار

غير أن الانحياز المطلق لإسرائيل في حرب مثل تلك التي جرت بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية في شهر أيار/مايو 2021 يطرح بدوره إشكالية. فبالتوازي مع علوّ الأصوات المؤيدة لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها وأمنها -بوصف ذلك "مصلحة وطنية عليا" لألمانيا- وارتفاع الأصوات المنددة بـ "الهجمات الإرهابية" لحماس، يتم تجاهل حقائق جوهرية متعلقة بهذا الصراع.

 

مشهد من المدينة القديمة في القدس بُعَيْد احتلالها من قِبَل إسرائيل عام 1967. Foto: Reuters/Moshe Pridan/Courtesy of Government Press Office
Die israelische Eroberung von Westjordanland und Gazastreifen im Sechstagekrieg 1967 war ein Einschnitt. Bereits kurz danach warnte der Philosoph und Professor für Chemie an der Hebräischen Universität Yeshayahu Leibowitz (1903 - 1994), die Militärherrschaft über damals 1,5 Millionen Araber (inzwischen sind es fast viermal so viele) werde den Kriegserfolg in eine schwere Bürde verwandeln und die israelische Gesellschaft kompromittieren. Sicherheit sei weder durch Unterdrückung noch durch den Bau von Mauern zu erreichen, sondern nur durch Verständigung, Friedensschluss und die Gewährung von Selbstbestimmung für die Palästinenser.

 

ومن ذلك تجاهل العوامل التي لها صلة مباشرة بالتصعيد الأخير في مايو / أيار 2021، مثل سياسة الاستيطان وعمليات الشرطة الإسرائيلية في القدس، والقضايا الرئيسة التي لم يتم التوصل لحلول لها حتى يومنا هذا ولا تزال تؤجج الصراع، مثل استمرار احتلال الضفة الغربية وإغلاق قطاع غزة- وبعبارة أخرى تجاهل حق الفلسطينيين في تقرير المصير والمساواة في الحقوق، اللذين لم يتحققا بعد.

السياسة والرأي العام في ألمانيا يتحركان كلاهما في عالَمٍ موازٍ حَشَرَهما فيه جيل الأجداد بقيادة أدولف هتلر. والنوافذ التي تنفتح من هذا العالم الموازي على الواقع في الشرق الأوسط تصبح مُغَبَّشَة بشكل خاص مع كل تصعيد هناك. ويعيق هذا التشويش رؤية الأمور على حقيقتها، فيَظهَر سكان غزة كما لو أنهم المثال الرهيب عن الغوغاء المعادين للسامية المتظاهرين في شوارع مدينة غيلزِنْكيرشِن الألمانية [حيث أُحرقت أعلام إسرائيلية في احتجاجات أمام معابد يهودية في عدة مدن ألمانية] وفي الوقت نفسه تَظهَر إسرائيل كما لو أنها مثال الديمقراطية التي لا تشوبها شائبة، والتي تحاول حماية مواطنيها.

خطاب ألماني محشوّ بعِبارات متكررة مضلِّلة

من الواضح أن فهم مَن يصيغون الخطاب الألماني هو فهم منقوص للتاريخ. حتى أن الادعاء بأن الماضي الألماني قد تم معالجته بالفعل قد يصبح موضع شكٍّ حين يقارَن ذلك بتصرفات بعض السياسيين وممثلي وسائل الإعلام. فلو كان هؤلاء على دراية شاملة بالتاريخ الألماني لأحجموا عن الثرثرة الغبية حول "معاداة السامية المستوردة من الخارج".

فقد كانت معاداة السامية في نسختها الألمانية قانونًا ثقافيًا راسخًا وجنونًا جماعيًا قاتلًا، كما تُصنَّف الكراهية الألمانية لليهود ضمن أسوأ درجات اللاعقلانية على الإطلاق. وفي المقابل، لدينا على الأرض صراع قائم وملموس بين إسرائيل والفلسطينيين. ومصطلح "معاداة السامية" لا يفيد في سياق تحليل هذا الصراع، كما أشار إلى ذلك أستاذ التاريخ الإسرائيلي موشيه تسيمارمان مؤخرًا.

الفيلسوف الإسرائيلي وأستاذ الكيمياء في الجامعة العبرية يشعياهو ليبوفيتش (1903 - 1994). Quelle: Wikimedia commons
Eine warnende jüdische Stimme. Der Philosoph und Professor für Chemie an der Hebräischen Universität Yeshayahu Leibowitz (1903 – 1994) befürchtete bereits kurz nach dem Sechtstagekrieg von 1967, die israelische Militärherrschaft über damals 1,5 Millionen Araber (inzwischen sind es fast viermal so viele) werde den Kriegserfolg in eine schwere Bürde verwandeln und die israelische Gesellschaft kompromittieren. Sicherheit sei weder durch Unterdrückung noch durch den Bau von Mauern zu erreichen, sondern nur durch Verständigung, Friedensschluss und die Gewährung von Selbstbestimmung für die Palästinenser.

ويبدو أن الجهات الفاعلة في ألمانيا تختزل إسرائيل بين الفينة والأخرى بأنها الدولة التي أُنشِئَت كنوع من التعويض عن الهولوكوست، وهذا ليس إلا أحد الكليشيهات الجاهزة المضلِّلة؛ فقد خرجت دولة إسرائيل إلى حيز الوجود ليس بسبب المحرقة وإنما على الرغم منها.

وهناك ما يعلِّل الطبيعة المنقوصة للخطاب الألماني وانتقائية العبارات الجاهزة فيه، فالمتحدثون بهذه الطريقة يخفون حقيقة أن دولة إسرائيل نفسها تمر بتطور تاريخي وتتغير نتيجة لذلك، كما يسهِّل ذلك نسيان حقيقة أن للفلسطينيين تاريخهم الخاص ومنظورهم الخاص.

فقد مثَّل استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب الأيام الستة عام 1967 نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولم يعبِّر أحد عن ذلك بقوة أكثر من الفيلسوف وأستاذ الكيمياء في الجامعة العبرية يشعياهو ليبوفيتش (1903 - 1994). يعود أصل ليبوفيتش إلى ليتوانيا، وقد درس في ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي، وهاجر إلى فلسطين في مرحلة مبكرة بسبب معاداة السامية التي كانت متفشية في الجامعة الألمانية.

فبعد انقضاء فترة وجيزة على نهاية الحرب، حذَّر ليبوفيتش قولًا وكتابةً من أن فرض الحكم العسكري على أكثر من مليون ونصف مليون عربي آنذاك (هذا الرقم تضاعف اليوم أربع مرات تقريبًا) سيحوِّل انتصار إسرائيل إلى عبء ثقيل، وسيُحرِج المجتمع الإسرائيلي.

وذَكَرَ أن الأمن لن يتحقق عبر استخدام القمع أو ببناء الجدران العازلة، وإنما من خلال التفاهم والسلام ومنح الفلسطينيين حق تقرير المصير.

تحذير من إساءة استخدام التقاليد اليهودية

وبغض النظر عن تلاطم الأحداث السياسية المعاصرة، فقد أبدى هذا العالِم والناشط ذو الالتزام الديني القويّ قلقًا حول مستقبل اليهودية وتعاليمها وشهاداتها في العالم الحديث، كما أعرب عن خشيته من إمكانية أن تسيء الأوساط الدينية القومية استخدام التقاليد اليهودية من خلال تبنِّي برنامج توسُّعي، وحذر من أخطار "نزعة فاشيَّة" تنبثق ضمن أوساط المستوطنين.

وقد تحقَّقت نبوءات ليبوفيتش بعد خمسين عامًا بطريقة كابوسية، حين سقط رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين قتيلًا بالرصاص على يد طالب مقرب من حركة المستوطنين عام 1995 بعد توقيعه معاهدة سلام مع الفلسطينيين.

وجدير بالذكر هنا بأن أكبر المحرضين على معاهدة السلام وعلى القتيل إسحاق رابين شخصياً -لدرجة أن هذا المحرض قد ظهر مرة إلى جانب مُجسم من الورق المقوى يُظهِر رابين مرتديًا الزِّي العسكري النازي- هو اليوم يتبوأ منصب رئيس الحكومة الإسرائيلية منذ سنوات عديدة، إنه: بنيامين نتنياهو.

صحيح أنه ليس بمقدور ألمانيا أن تؤثر على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أو على الجيش الإسرائيلي من أجل تخفيف حدة الصراع في الشرق الأوسط، أضِفْ إلى ذلك وقوف التاريخ نفسه عائقًا في طريق ذلك، غير أن الحقيقة الواقعة هي أن الحكومة الألمانية تساعد على استمرار حالة الصراع من خلال تقديم الدعم العسكري لإسرائيل وتمويل بُؤس حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي.

وبذلك تساعد ألمانيا -رغم المفارقة التي قد تبدو عليها هذه الصياغة اللغوية- في استقرار الصراع. ولعل من المنصوح به أن نحاول -نحن الألمان- أن نركِّز أكثر -عند تحليلنا أمام الرأي العام وتقييمنا للوضع- على ما يحدث بالفعل بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، وإلا فإنه يتهددنا الانفصال التام عن الواقع.

 

شتيفان بوخن

ترجمة: حسام الحسون / ع.م

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 

شتيفان بوخن دَرَس اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب ما بين عامَيْ 1993 و1995، وعمل بعد ذلك صحفيًا في إسرائيل وفي المناطق الفلسطينية. وهو حاليًا صحفي استقصائي ألماني بارز يعمل لمجلة بانوراما التابعة للقناة التلفزيونية الألمانية الأولى: أيه آر دي.

 

[embed:render:embedded:node:44254]