تاريخ من لا تاريخ لهم

كتاب "طائر التّمّ: حكايات جنى الخُطا والأيام"، للمفكر فهمي جدعان، ليس مجرد سيرة ذاتية، أو حتى سيرة فكرية، فنحن نقف أمام شخصية وأمام مرحلة، وأمام أكثر من قضية. فالكتاب يتجاوز عوالم التخييل الذاتي ويكسر الزمن السردي ويفتته، وينفتح على أصوات أخرى غير صوت السارد العليم.

الكاتبة ، الكاتب: رشيد بوطيب

لم يبالغ بورخيس وهو يؤكد بأن الكتابة الحقيقية هي دوما بيوغرافية، ولكن هذا الحكم ليس حكرا على الكتابة الأدبية فقط، فالفكر، أيضا، من هوية بيوغرافية. مُتألماً لا متأملاً يبدأ الفيلسوف. والألم تعطيل للمفهوم، هذا ما يمكن أن نتعلمه من أدورنو، وهذا ما نتعلمه من ذلك التيار الفلسفي العريق الذي ظل التفكير عنده تجربة للمحايث.

“طائر التّمّ: حكايات جنى الخُطا والأيام”، للمفكر الفلسطيني فهمي جدعان، ينتمي لا ريب إلى هذا التفكير المحايث في القدر الشخصي والجمعي. ليس الكتاب مجرد سيرة ذاتية، أو حتى سيرة فكرية، فنحن نقف أمام شخصية وأمام مرحلة، وأمام أكثر من قضية. فالكتاب يتجاوز عوالم التخييل الذاتي ويكسر الزمن السردي ويفتته، وينفتح على أصوات أخرى غير صوت السارد العليم، أصوات ظاهرة شأن أخ الراوي وهو يحدثنا عن ملحمة المقاومة واللجوء، وأخرى مضمرة. إذ نلتقي في الكتاب بالروائي وبالمؤرخ وبالفيلسوف، ونتوقف أحيانا في دهشة أمام لحظات شعرية متوهجة.

لكن ما وراء كل ذلك، وما يستوقف كل قارئ للكتاب، هو أدبيته، أسلوبه المتفرد، الذي نشعر كما لو أن موسيقى داخلية تسكنه وتحركه وتنساب من خلاله، فلا نعرف هل نحن أمام سارد كبير أو أزاء موسيقي يؤلف ألحانه في دقة متناهية، خصوصا ونحن نقف أمام تلك الصفحات التي كتبها عن أمه، هذا الكائن “اللامرئي” كما يسميه الكاتب، والذي في الآن نفسه سيحمل مسؤولية الجميع، أو حين يكتب عن قريته عين غزال التي هرب منها صبيا، رفقة سكانها في حلكة الليل، حتى لا تكتشفهم عصابات الاحتلال، تلك القرية التي لن تغادر يوما ذاكرته. ولا أنسى في هذا المقام تلك الصفحات التي ستظل برأيي خالدة، والتي يتأمل فيها الخيمة والمخيم، ومن خلالهما الوجود بأكمله، فأتذكر ما كتبه محمود درويش يوما: “حين يبتسم المخيم، تعبس المدن الكبيرة”، ومن غير هذه المدن الكبيرة أو بالأحرى من غير المدن الصغيرة، من يؤلمها صمود المخيم وبسمته!

يكتب جدعان: “للخيمة بابان، بل فتحتان، إحداهما تأخذك إلى العدم، والثانية تأخذك إلى الوجود”. وكتاب جدعان تأريخ للعدم والوجود في آن، وللقدر الفلسطيني، بل لقدر الغريب، أي غريب، زوادته من ألم وذكرى.

 

 

يؤرخ الكتاب من خلال سيرة صاحبه لمرحلة تاريخية مهمة، حكمتها الهزيمة وطبعها الاستبداد وحروب الإخوة الأعداء، نقف من خلاله على أوهامها، آمالها وآلامها. ولا ريب أن ما جعل حكم الكاتب عليها يتميز بتلك الموضوعية وتلك الروح النقدية هو أنه ظل “عصيا على أي انتماء حزبي”، لقد كان الأمر الذي يؤرقه ويشغله هو الخروج من المخيم، فثورته كانت داخليه، ولكنها لم تكن بعيدة عما يحدث في واقعه، فمن خلال سيرته نقف أيضا على نقد جاد لمسار حزب البعث في سوريا والعراق وانحرافه نحو الطائفية والفاشية، كما سنشهد معه صراع الإخوان والناصرية، وعلى موقفه الرؤيوي منذ بداياته الأولى من الأنظمة العسكرية، كما لو أنه كان يستشرف حجم الدمار الذي ستجره على المنطقة.

يسافر بنا كتاب جدعان إلى أكثر من مكان وأكثر من بلد، حتى أننا نشعر أحيانا أننا نقف أمام حيواة متعددة، فهو في باريس يكتشف فكر العالم وزمنه، وفيها يحقق أمنيته العلمية، وذلك في زمن كانت فيه باريس القبلة الثقافية لكل العالم، وفي تغريباته العربية المختلفة، يدبج إبداعاته الفكرية المختلفة، ويلتقي كبار مفكري عصره وأساتذته، ذلك الرعيل الذي نشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى باليتم في غيابه. ولكنه فيما وراء هذا وذاك، يلتقي باللجوء الفلسطيني وأقداره المختلفة، فنشعر بحسرته وحزنه حينا وغضبه ونقمته في أحايين أخرى، ونشعر كما لو أن الزمن أخذه وأخذنا جميعا على حين غرة، أن حلما ما ينكسر، أن مرحلة تطوي ذيول خيبتها رغم أحلامها العظيمة، فقد نقرأ الكتاب أيضا باعتباره تأبينا لمرحلة بأكملها، ولقضية ضيعها أنصارها قبل أعدائها، وتوزع لحمها بين القبائل.

قد نختلف مع المفكر فهمي جدعان في بعض مقارباته الفكرية، ومنها اعتقاده بأن ما يسميه بـ “الإسلام الحديث”، “قد استطاع مجابهة قضايا الحداثة الشائكة وتجاوزها بكفاءة عالية”، فمثل هذا الإسلام لا نلتقيه في واقعنا، بل لربما لا نلتقي سوى نقيضه، ولكننا أمام جدعان، مؤرخا للألم، أمام جدعان الأديب، الراوي، المتفرد في لغته وأسلوبه، صوت من غيبت صوتهم السياسة والضحالة، فلا يمكننا إلا أن نقف أمامه، وأمام كلماته التي قدت من لحم دم، في “خوف ورعشة”.

عالم بأكمله يندثر، أحيانا في صمت، وأحايين أخرى في صخب وعنف، ولربما جاء كتاب جدعان ليؤرخ لهذا الاندثار، أحيانا في صمت، وأحايين أخرى…

 

رشيد بوطيب

حقوق النشر: قنطرة 2021