مصر: حين يتحول الشعب إلى سكّان

الزيادة السكانية تشكل أكبر تهديد لجهود التنمية فى مصر على الإطلاق، خاصة أن عدد السكان فى الداخل تضاعف ثلاث مرات خلال القرن الماضى.
الزيادة السكانية تشكل أكبر تهديد لجهود التنمية فى مصر على الإطلاق، خاصة أن عدد السكان فى الداخل تضاعف ثلاث مرات خلال القرن الماضى.

ينتقد الكاتب شادي بطرس الخطاب الرسمي السائد في مصر، الذي يرسم صورة للسكان كعبء على الدولة، وكعائق أمام التنمية، لا كهدف لها، معتبرا أن معادلة السياسة تنقلب وفق هذا الخطاب، فبدلاً من أن تكون الدولة في موقع المسؤولية أمام الشعب، يصبح السكان في وضع المساءلة أمام الدولة.

الكاتب، الكاتبة : شادي بطرس

في كل مناسبة عامة، يكرر النظام المصري مجموعة من التيمات باتت محفوظة. فالعدة الأيديولوجية للخطاب الرسمي محدودة، وتم اختزالها بشكل مقصود في لائحة من الثنائيات البسيطة، تترسخ بالتكرار.

لا يفوّت الرئيس السيسي فرصة ليتكلم عن مشكلة السكّان، أو بمعنى أدق، عن السكّان كمشكلة، وتلحق به وسائل الإعلام الرسمية بإعادة تدوير الرسالة. ثنائية الجيش/الشعب يجاورها، في معجم السياسة النظامي، ثنائية الدولة/السكّان.

يصرح المسؤولون الحكوميون، بين حين وآخر، بكلفة الوزن السكاني، كلفة الفرد على الدولة إجمالاً من يوم مولده إلى يوم وفاته، مخصصات الموازنة للخدمات العامة، التعليم والصحة وغيرها، مقسومة على عدد السكان. يرسم ذلك الخطاب صورة للسكان كعبء على الدولة، وكعائق أمام التنمية، لا كهدف لها. بسهولة شديدة تنقلب معادلة السياسة، بدلاً من أن تكون الدولة في موقع المسؤولية أمام الشعب، يصبح السكان في وضع المساءلة أمام الدولة.



معدلات الخصوبة في مصر تهبط بشكل متتابع ومستمر (مع استثناءات قليلة ومحدودة في بعض السنوات). منذ العام 1950، تراجعت الخصوبة من معدل 6.8 إلى 3.2 هذا العام، توقعات الأمم المتحدة تفترض أن العام 2075 سيشهد وصول معدلات الخصوبة إلي ما تحت 2.1 (المعدل الذي يضمن بقاء عدد السكان ثابتاً)، وعندها سيبدأ عدد السكان في الهبوط.

التراجع في الخصوبة يحدث بالفعل، لكن توزيعه ليس متساوياً. الفقراء ينجبون أكثر، وفي الريف أكثر من الحضر، والعاملون في مهن يدوية أكثر من أصحاب الياقات البيضاء، ويفضل الحاصلون على تعليم عالٍ الأسر الصغيرة مقارنة بغيرهم. هنا يتفتت مفهوم الشعب لصالح السكان.



الشعب مصطلح حديث، تأسس عليه منطق الدولة-الأمة، فيه تكون الدولة تجسيداً مادياً لروح الشعب، تاريخه، وثقافته. السكان مصطلح أحدث، تصور إحصائي لمفهوم الشعب، عبره يمكن معايرة المثالي، إعداده ووضعه في جداول ومعادلات رياضية ورسوم بيانية. كل من الشعب والسكان، اختزال. اختزال للفرد وللجموع أيضاً. الأول في لغة شِعرية، والآخر بلغة الرياضيات، والإثنان لغتان للمطلق.

توظف مفردة الشعب من أجل الحشد ولحظات التضحيات، التفويض، والمعارك بانتصاراتها وهزائمها.

الزيادة السكانية تشكل أكبر تهديد لجهود التنمية فى مصر
الزيادة السكانية تشكل أكبر تهديد لجهود التنمية فى مصر: لا تفعل الدولة في مصر الكثير لتحفيز عمليات تراجع معدل الخصوبة، بل ربما العكس. حملات التوعية الواسعة في وسائل الإعلام، والتي جاءت بنتائج ملموسة في عقد الثمانينات، لم تتكرر، والخدمات الصحية العامة في تراجع. آخر تقرير حكومي يرصد تراجعها على وجه التحديد في الأقاليم والمناطق الريفية، وإغلاق الخدمات بسبب نقص الأطباء. منظمات العمل الأهلي، بما فيها القائمة على التوعية المجتمعية بأشكالها، تعاني تضييقاً أمنياً شديداً.

ينزع مصطلح السكان هالة السحر، يضع السكان أمام المرآة أو ما يظن إنه مرآة، ويهبط بهم إلى مستوى المقايضة، كمجرد عامل اقتصادي آخر في مصفوفة الربح والخسارة. تلتهم الزيادة السكانية كل معدلات التنمية، هذا ما يكرره الخطاب الحكومي، وفيه بعض الحقيقة بالطبع، لكن المسؤولية ليست معممة.

مفهوم الشعب يفترض الوحدة، وحدة زائفة لكنها مطلقة بشكل ملهم وخطير في الوقت نفسه. على العكس، تحمل فكرة السكان في طياتها إمكانيات واسعة من آليات التقسيم، بحسب الفئة العمرية والجنس والتوزيع الجغرافي والدخول والطبقات والدين والأمراض والإنتاجية والاستهلاك. يسقط اللوم على فئات بعينها، الفقراء والبعيدون من المركز، سكان الريف وعشوائيات المدن وقرى الصعيد. هؤلاء يتم التعامل معهم كعائق أمام التقدم بشكل ملموس كما بشكل نظري.

تُزال المناطق العشوائية وسكانها أمام اندفاع عجلة الاستثمار ودورة رأس المال، يُستأصل السكان كأورام سرطانية في عمليات تطهير جغرافي، بعضها قسري ومقصود، والآخر يحدث كإزاحة مع الوقت، بحسب آليات السوق وبعنف تدريجي وتحت السطح.



تراجع الخصوبة ظاهرة عالمية. مع نهاية القرن، سيتراجع معدلها على مستوى العالم إلى 1.7 وسيكون سكان الكوكب قد بدأوا في التراجع قبل ذلك بعقدين على وجه التقريب. العوامل كثيرة، الحضرنة وما يتبعها من تغير في أنماط السكن وتحلل بنى العائلات الكبيرة وشبكات الدعم التقليدي، وكذا قيود الثقافة التقليدية، تمكين المرأة وولوجها سوق العمل، وفرص الترقي التعليمي والمهني، بعض من أكثر العوامل الحاسمة. إتاحة خدمات المشورة الطبية ومؤسسات الصحة الإنجابية، مع توافر حوافز الدعم الحكومي، أيضاً ركن أساس. أحد العوامل هو الفوارق الاجتماعية والجغرافية بين الطبقات. وكلما قلّت المسافة بمعانيها المادية والمعنوية، كلما اقتربت معدلات الخصوبة لدى الطبقات الأدنى من الطبقات الوسطى.



لا تفعل الدولة في مصر الكثير لتحفيز عمليات تراجع معدل الخصوبة، بل ربما العكس. حملات التوعية الواسعة في وسائل الإعلام، والتي جاءت بنتائج ملموسة في عقد الثمانينات، لم تتكرر، والخدمات الصحية العامة في تراجع. آخر تقرير حكومي يرصد تراجعها على وجه التحديد في الأقاليم والمناطق الريفية، وإغلاق الخدمات بسبب نقص الأطباء. منظمات العمل الأهلي، بما فيها القائمة على التوعية المجتمعية بأشكالها، تعاني تضييقاً أمنياً شديداً.

ومن ناحية تمكين المرأة، يشن النظام الحالي حملة قمعية ضد النساء، على أكثر من مستوى، وبإسم قيم الأسرة. اختلال توزيع الثورة، واتساعها، يعني بالضرورة اتساع المسافة بين الطبقات، وحرمان قطاعات واسعة، هي الغالبية، من فوائد الحضرنة والتنمية.

على كل مستوى، لا يبدو أن الدولة تبذل جهداً لكسر دائرة الفقر والخصوبة العالية. يكتفي خطابها بتحويل الشعب إلى سكان، بتصويرهم كمشكلة، تقسيمهم وتحفيز ألعاب إلقاء اللوم على الفئات الأكثر هشاشة.

 

شادي بطرس

حقوق النشر: المدن 2021

موقع قنطرة يعيد نشر المقال بالاتفاق مع الكاتب و"المدن".

 

....................................................

طالع أيضا

الخطايا السبع للمعارضة المصرية منذ ثورة يناير

مصر - سلاح التشويه لاأخلاقي ويؤذي المعارضة "أكثر من غيره"

الحكم الرشيد وليس الاستبداد هو المفتاح إلى الاستقرار في الأمد البعيد

"قانون الإرهاب يطيح بحرية الصحافة في مصر ولا يعاديها فقط"

عصف ممنهج بمعايير المحاكمة العادلة في مصر

تحية لذاكرة الألم المصري وللكاتب الشجاع علاء الأسواني

الدولة التسلطية تفرز مجتمعا تسلطيا تعزز به سلطتها

....................................................