مصر: من يتحدث باسم الدولة المصرية في قضايا الإسلام؟

المسؤولون المصريون الذين وصلوا إلى السلطة من خلال الإطاحة بتيار إسلامي، من دون أن يحملوا وعداً بتقديم بديل علماني، يتعرّضون الآن إلى ضغوط من أجل أن يُحدّدوا بالضبط مَن هي الجهة التي تتكلّم باسم الدولة المصرية في شؤون الإسلام. تحليل الباحث ناثان براون

الكاتبة ، الكاتب: Nathan J. Brown

في مصر اليوم، المجال المتاح للسياسة قليلٌ في مسائل اتخذ فيها النظام مواقف واضحة أو تُعتبَر مرتبطة بالأمن. إنما لايزال ثمة مجالٌ أمام النقاش الحيوي حول مسائل قد تبدو عادية لكنها ذات أهمية للمصريين، مثل قانون الأحوال الشخصية.

في ما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث، يدور نقاش مطّرد عن ارتفاع نسبة الطلاق في البلاد، وحقوق المرأة، ودور الشريعة الإسلامية. وقد طُرِح عددٌ من اقتراحات الإصلاح يتّجه مجلس النواب نحو تبنّيها. مَن يشاركون في النقاش ليسوا أفراداً وحسب بل أيضاً مؤسسات حكومية. وفي هذا الإطار، يحاول الأزهر، وهو مجمّع كبير من المؤسسات الدينية والتربوية الإسلامية التي تُشكّل جزءاً من الدولة المصرية، تأكيد موقعه المتصدِّر، محوِّلاً النقاش من الحديث عن مضمون الإصلاحات إلى الحديث عن السلطة القانونية والدينية والسياسية. ولاتقتصر النتيجة على تحوّل الشأن الشخصي إلى شأن سياسي، بل تحوّل الشأن الإجرائي أيضاً إلى شأن سياسي.

مسألة "الأحوال الشخصية" هي فئة حديثة من القوانين في دول الشرق الأوسط، تتولّى عموماً أجهزة الدولة وضعها وإقرارها لكنها ترتكز على التعاليم الدينية. عند المسلمين، يقتضي ذلك من مجالس النوّاب أو غيرها من السلطات التشريعية الخوض في أبحاث دينية وُضِعت على مر القرون لاتخاذ القرار بشأن تفسيرات الشريعة التي سوف تعتمدها الدولة. ولذلك فإن الرهانات الشخصية التي يمتلكها كثرٌ في هذه العملية مرتفعة جداً. ولكن الرهانات السياسية المرتبطة بتحديد هوية الجهة المناط بها تفسير الشريعة مرتفعة بالدرجة نفسها أيضاً.

"في موضوع إصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر، طريقة إجراء الإصلاح مهمة بقدر أهمية الجهة التي تقوم به"

غالباً ماتُثير عملية تحويل التعاليم الدينية إلى قانون من قوانين الدولة، نقاشات ذات صدى واسع. حتى التغييرات التي قد تبدو طفيفة أو تقنية في الأحكام المتعلقة بالوصاية أو الواجبات المادّية بين الزوجَين، أو الحقوق في الميراث، أو أسس الطلاق، تؤثّر على الأرجح في جميع أعضاء المجتمع. وحتى الاقتراح الذي قُدِّم لحثّ الدولة على ثني الأزواج عن الطلاق من خلال الإصرار على حدوثه أمام مسؤول حكومي – بدلاً من الاكتفاء بالطلاق الشفوي الذي يلفظه الزوج – من الممكن أن يؤدّي إلى شكاوى، وهذا ما حدث فعلاً، من أن أحكام الطلاق الشفوي متجذّرة جداً في المصادر الإسلامية بحيث إنه يتعذّر على الدول تجاهلها. ويقول ذوو الأفكار الأكثر تقليدية إن مَن يرغبون في ثني الأزواج عن الطلاق أو في تعزيز مكانة المرأة يملكون أدوات مشروعة، ولكن العبث بالطلاق الشفوي ليس واحدةً منها.

إذن ليس أمراً غير معهود أن تُركّز النقاشات الصاخبة، التي يشارك فيها عدد كبير من الأفرقاء، على جوهر القانون. ففي العام 2003 مثلاً، تمحورَ نقاشٌ وطني مطوَّل في مصر حول اقتراحٍ لقي طريقه إلى التنفيذ ويقضي بمنح المرأة حق طلب الطلاق مقروناً ببعض القيود، شرط تخلّيها عن معظم المطالبات المادّية من زوجها. وكانت لهذه الخطوة آثار كبيرة على طبيعة الزواج والطلاق في مصر. لكن مايجري الآن هو سجال أكثر هدوءاً إنما عميق حول الإجراءات. ويتطرّق هذا النقاش إلى الجهة التي يجب أن يؤخَذ بتفسيراتها للشريعة الإسلامية من أجل إدراجها في القانون، والجهة التي تُعتبَر آراؤها مهمة.

بالمعنى القانوني والدستوري المحض ، الجواب واضح إلى حد كبير: كل تغييرٍ يجب أن يُقرّه مجلس النواب. لقد نصّ أحد البنود في دستور 2012 الذي لم يُعمّر طويلاً على وجوب استشارة الأزهر في المسائل المتعلقة بالشريعة الإسلامية. لم يرغب المسؤولون في الأزهر في إدراج هذا البند في الدستور، فهم يُفضّلون التكلّم بسطوةٍ دينية ومعنوية، لكنهم أرادوا تجنُّب الحصول على سلطة دستورية حاسمة. وقد حقّقوا مبتغاهم من خلال الدستور الحالي الذي أُقِرّ في العام 2014 وفيه تعهّدٌ بمنح الأزهر استقلالية ذاتية، لكنه وصفَ مؤسسة الأزهر بكلامٍ مبهم جاء فيه أنها المرجع الأساسي "في علوم الدين والشؤون الإسلامية"، من دون أن تُمنَح سلطتها التوجيهية أيّ دور رسمي أو ملزم. وبما أن الرئيس عبد الفتاح السيسي وأحياناً الأجهزة العسكرية والأمنية أكّدوا سيطرتهم على جميع مؤسسات الدولة تقريباً، خاض الأزهر معركة للاحتفاظ باستقلاليته الذاتية. وهكذا، عندما حاول الرئيس أن يُلقي محاضرة على مسامع مسؤولي الأزهر، أثار ذلك صداماً علنياً مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب، ولاسيما في موضوع الطلاق.

 

مقالات من موقع قنطرة 

''الجيش المصري يفتقد لرؤية إستراتيجية لقيادة مصر في المستقبل''

جدل حول فيلم مصري في ذكرى حرب أكتوبر 1973

لا قداسة للعسكر في الديمقراطيات الحديثة

 

والحال أن تلك المحاججة هي من أسباب السجال الراهن، وتساعد على فهم الأسباب التي تجعل من هوية الجهة التي تُفسّر الشريعة الإسلامية مسألة خلافية أكثر من مضمون القانون نفسه. وقد تابع مجلس كبار علماء الأزهر – وهو عبارة عن هيئة تُمدّد لنفسها بنفسها على رأس مؤسسة الأزهر، وتفرض شروطاً صارمة على صعيدَي الأقدمية والخبرة للقبول في عضويتها – النقاش بشأن قانون الأحوال الشخصية وأبدى خشيته من أن تفسيرات التعاليم الإسلامية هي تفسيرات هاوية وغير منضبطة، وقرّر تقديم اقتراحه الخاص. ونتيجةً لهذا القرار، بات لزاماً على النواب الانتظار إلى حين إبداء الأزهر رأيه.

كان وقوع الخيار على هيئة كبار العلماء لتكليفها بهذه المهمة، مؤشراً ذا أهمية، فالأزهر يضم فقهاء أفراداً ومركزاً بحثياً كان بإمكانهم أن يؤدّوا ذلك الدور. لكن غالب الظن أن قيادة الأزهر أرادت، من خلال إسناد هذا الدور إلى الهيئة، أن تُلقي بثقلها المعنوي والبحثي كاملاً في هذه المسألة.

وهذا بالضبط ما فعلته. فقد تعامل الفقهاء مع القضية على أنها تتطلب بصورة أساسية معارف تخصصية، وعلى هذا الأساس، تشاوروا في مابينهم. وفي حين أقرّوا بتلقّيهم اقتراحات متعددة، أصرّوا أيضاً على وجوب أن تكون لخبرتهم الكلمة الفصل في المسائل المتعلقة بالشريعة الإسلامية.

خلافاً للجهود الأخرى المبذولة لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، يحمل اقتراح الأزهر الهيبة الكاملة للمؤسسة، لكنه لايُقدّم الكثير على مستوى التعبئة الشعبية أو بناء ائتلاف سياسي. فالمجالات التي تطرّق إليها – الوصاية، وحقوق الزيارة، وحتى المطالبات باسترداد هدايا مادّية قدّمها عريس إلى عروسه المستقبلية في حال عُقدت الخطوبة ثم فُسِخت – هي عموماً محدودة وتقنية الطابع. ويبدو أن الهدف من بعض المقترحات – مثل السماح بالطلاق الشفوي إنما الاشتراط قانوناً أن يُعلم الزوج زوجته بالطلاق – هو إجهاض المقترحات الأكثر جذرية.

بعدما قايضت قيادة الأزهر السلطة السياسية بالمكانة المعنوية (وبعدما تصادمت سابقاً مع السيسي، ووجدت نفسها بالتالي مكشوفة سياسياً إلى حد ما)، لاتمتلك الآن آليةً من أجل العمل على تحقيق رغبتها في أن يتبنّى البرلمان اقتراحها. وقد يجد المشترعون صعوبة، من الناحية السياسية، في القول بأن الحكمة الجماعية للفقهاء التقليديين الأكثر احتراماً تُفسّر الشريعة الإسلامية بطريقة معيّنة في حين أن النوّاب يفسّرونها بطريقة مختلفة. ولكن هذا مالمّح إليه البعض من خلال الإشارة في تصاريح علنية إلى أنه ليس بإمكان الأزهر أن يفرض تعليماته على مجلس النواب أو يحلّ مكانه.

المسؤولون المصريون الذين وصلوا إلى السلطة من خلال الإطاحة بتيار إسلامي، من دون أن يحملوا وعداً بتقديم بديل علماني، يتعرّضون الآن إلى ضغوط من أجل أن يُحدّدوا بالضبط مَن هي الجهة التي تتكلّم باسم الدولة المصرية في شؤون الإسلام.

 

ناثان براون

حقوق النشر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط 2019