إلياس خوري يعري مافياوية نخبة لبنان الحاكمة

هل الناس في لبنان لا يتعاملون مع حكومة بل مع مافيا يحميها طرف ويحتاجها كدرع لنزاعاته الإقليمية؟ وهل عاش لبنان لعقود من الزمن فوق إمكانياته من خلال تحايلات مالية مصرفية؟ وهل السلام في لبنان قائم على ائتلاف بين ميليشيات قديمة وتمويلات بنكية ضخمة؟ لقد علِقَ لبنان في أزمة عميقة وبات خمسون في المائة من اللبنانيين يعيشون عمليا تحت خط الفقر ولا تلوح في الأفق أية نهاية. في الحوار يتحدث الكاتب اللبناني الشهير إلياس خوري حول الأزمة والثقافة في وطنه لبنان. حاورته الصحفية الألمانية لينا بوب.

الكاتبة ، الكاتب: Lena Bopp

يعاني لبنان من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث. حيث تزداد نسبة التضخُّم المالي والبطالة، والمحلات التجارية فارغة، والكهرباء تنقطع دائمًا. هل تتوقَّع حدوث موجة هجرة جديدة؟

إلياس خوري: لقد بدأتْ بالفعل، وهذا أمر طبيعي جدًا. ولكن الشيء المذهل هنا هو أنَّ طبقة القلة الحاكمة بأكملها تتمسَّك بالسلطة، على الرغم من أنَّها تعرف أنَّه لم يتبقَّ شيء لتحصل عليه. هؤلاء الأشخاص أخرجوا كلَّ الأموال خارج البلاد، ولكن هؤلاء لا يهاجرون بأنفسهم. على الرغم من أنَّ الأفضل لهم أن يرحلوا الآن.

مَنْ تقصد بـِ "هؤلاء"؟

إلياس خوري: الطبقة الحاكمة برمَّتها. الجميع يعلمون أنَّهم يملكون المال. ولكنهم لا يرحلون لأنَّهم خارج لبنان لا يساوون أي شيء. لأنَّهم يحتاجون السلطة لإظهار أهميَّتهم، مع أنَّ الجميع يعلمون أنَّهم لصوص. يمكن للمرء بطبيعة الحال أن يكون لصًّا ومع ذلك ذكيًا شيئًا ما. غير أنَّ هؤلاء الأشخاص أغبياءٌ - أغبى مافيا على وجه الأرض.

الأشخاص الذين يذهبون الآن، هل ينتمون إلى الطبقة الوسطى ...

إلياس خوري: نعم، فهم يمثِّلون الموجة الأولى، ولكنني أعتقد أنه إذا استمر تدهور الأوضاع بنفس السرعة مثلما هي الحال في الوقت الراهن، فسنصبح مثل السوريين. الفقر هنا رهيب. خمسون بالمائة من اللبنانيين يعيشون بالفعل تحت خط الفقر. هذه ليست أسرار. ولا تلوح في الأفق أية نهاية.

شهد لبنان عدة موجات من الهجرة في تاريخه. إلى أي مدى تختلف الهجرة القادمة عن سابقاتها؟

 

متظاهرون أمام البنك المركزي مطالبون بالإصلاح - في بيروت، لبنان - بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية. (Foto: picture-alliance/abaca/A.A. Rabbo)
Der Libanon drohe ein "gescheiterter Staat" zu werden, wenn die Regierung nicht die vom Internationalen Währungsfonds (IWF) geforderten Reformen umsetze, warnte der libanesische Außenminister Nassif. Das Land gehört weltweit zu den am stärksten verschuldeten Staaten. Im Juni traten bereits zwei Mitglieder des libanesischen IWF-Verhandlungsteams wegen des mangelnden Reformwillens der Regierung zurück. Aus Protest gegen mangelnden Reformwillen seiner Kabinettskollegen hat nun auch der libanesische Außenminister Nassif Hitti seinen Rücktritt erklärt

 

إلياس خوري: لقد حدثت أكبر موجة بعد المجاعة إبَّان الحرب العالمية الأولى. في تلك الفترة كانت الهجرة سهلة نسبيًا، لأنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية وكذلك البرازيل والأرجنتين كانت مفتوحة أمام المهاجرين.

لم تبدأ الموجة الكبيرة الثانية في بداية الحرب الأهلية، كما يُعتقد كثيرًا، بل في خضمِّها [لاحقاً]، أي خلال ما يسمى بالحرب بين مؤيِّدي ميشال عون - الرئيس الحالي - وبين القوَّات اللبنانية في شرق بيروت. كان ذلك في عام 1989. في ذلك الوقت، هاجربشكل خاص المسيحيون إلى أوروبا وكندا.

ولكن الموجة التي بدأت الآن لا تشبه كثيرًا الموجات السابقة، لأنَّني لا أعتقد أنَّ أية دولة سترحِّب بالمهاجرين. ولهذا السبب فإنَّ الموجة اللبنانية ستشبه الموجة السورية. عندما تبدأ هجرة الفقراء الحقيقية، الذين لا يمكنهم الحصول على تأشيرة سفر، سنرى القوارب والمهرِّبين. والمهاجرون لن يكونوا فقط مسيحيين.

 

..............................

طالع أيضا

لهذا تأزم لبنان وانزلق إلى فوضى اقتصادية

لبنان الجريح - هذه ليست بيروت

أكثر من نصف سكان لبنان باتوا فقراء

رائحة بيروت - نفحة العشق ومتن الفكر وصوت فيروز

..............................

 

يقول الكثيرون إنَّ هذا الوضع جديد على لبنان، وذلك لأنَّ هذه هي المرة الأولى، التي لم يعد من الممكن فيها الحصول على دولارات كانت تتدفَّق إلى البلاد حتى خلال الحرب الأهلية. يعاني لبنان من هذه الصعوبات لأنَّ حكوماته فاسدة منذ عقود من الزمن، ولكن أيضًا لأنَّه عاش لعقود من الزمن فوق إمكانياته من خلال تحايلات مالية قام بها مصرف لبنان المركزي.

إلياس خوري: هذان أمران مترابطان. فالحكومة الفاسدة والبنوك تعاونوا طيلة الوقت.

ولكن ما أتاحه هذا التعاون للبنان هو الحفاظ لعقود من الزمن على مستوًى معيشي أعلى بكثير مما كان يمكن تحقيقه في خلاف ذلك. وقد كان أحد الآثار الجانبية لهذا التعاون ظهور طبقة وسطى ...

إلياس خوري: ... لكنها كانت موجودة قبل ذلك. ولم تكن تحصل إلَّا على ما يتبقى، حتى يسود الهدوء في لبنان.

لكن السؤال: لماذا لم تدافع هذه الطبقة عن نفسها في وقت سابق؟

إلياس خوري: لقد فَعَلَت ذلك. بدأت الاحتجاجات في عام 2013 واستمرت بعد ذلك مع أزمة النفايات لعامين، عندما كانت النفايات تتراكم في جميع أنحاء البلاد وكان الناس يخرجون إلى الشوارع. وهذه الاحتجاجات خلال أزمة النفايات حرَّكتها الطبقة الوسطى، التي كان لديها وعي بالمشكلات الهيكلية في البلاد. ولكنها توقَّفت فقط عندما جاءت ميليشيات حركة أمل الشيعية بالسكاكين. أنا كنت هناك ورأيت ذلك. وحينها فكَّر المتظاهرون كيف يجب عليهم أن يردوا. ولكنهم كانوا يعرفون أنَّهم إذا جاؤوا بسكاكينهم فإنَّ الآخرين سيُحضِرون بنادق الكلاشينكوف.

 

 

كانت دائمًا مشكلة الطبقة الوسطى اللبنانية أنَّها ليس لديها حلفاء في الطبقة السياسية. ولا حتى حليف واحد! إنْ أردنا التغيير فنحن نحتاج تركيبة من حركة شعبية وعلى الأقل بعض الأطراف السياسية. عندما اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى في الخريف الماضي، ناقش الشباب ما يجب القيام به. وفكَّروا في الذهاب إلى حزب الله، الذي يعتبر أتباعه فقراء أيضًا، وربما سيساعدونهم. ولكنهم اكتشفوا أنَّ حزب الله هو أكثر مدافع عن كلِّ هذا النظام. حزب الله يحتاج النظام كدرع لنزاعاته الإقليمية. حزب الله ليس لديه أي مشروع لبناني على الإطلاق. ولذلك فنحن لا نتعامل هنا مع حكومة، بل مع مافيا. وإذا لم نفهم ذلك، فلن نفهم أيضًا ما يحدث الآن. هذا كله هو ثمن نهاية الحرب الأهلية.

إلى أي مدى؟

إلياس خوري: السلام قائم على ائتلاف بين الميليشيات القديمة والتمويلات الضخمة من البنوك. هكذا نشأ لبنان. لقد كان تحالفًا شيطانيًا. واليوم المشكلة مشكلة هيكلية.

كيف سيؤثِّر ذلك على الحياة الثقافية في البلاد؟ إذا استمر تنامي الإفقار بهذه السرعة فلن يتبقى بعد وقت قريب الكثيرُ من لبنان…

إلياس خوري: يوجد في لبنان قطاع نشر سيصمد بصعوبات كبيرة. وتوجد كذلك فنون أدائية وصلت إلى طريق مسدود - بسبب الأزمة في لبنان، ولكن أيضًا لأنَّ الكثير من الفنَّانين يحصلون على دعم من الخارج سينخفض الآن أيضًا. القطاع السينمائي، على سبيل المثال، كان كبيرًا. كان يتم في كلِّ عام إخراج أربعة أو خمسة أفلام جديرة بالذكر من لبنان، وكانت تتلقى دعوات إلى مهرجانات دولية. ولكن جميع هذه الأفلام يتم تمويلها من قبل قناة آرته (الألمانية-الفرنسية) أو غيرها. هذا سيصبح أقل بكثير الآن. وهذا سيغيِّر كلَّ شيء.

لكن كانت توجد أيضًا الكثير من الفعاليَّات الثقافية، التي كانت تتلقى الدعم من البنوك اللبنانية من دون أن تسأل من أين أتت هذه الأموال أصلًا…

إلياس خوري: ستتوقَّف جميع فعاليَّات العرض: الفعاليَّات السياحية والموسيقى في (مهرجانَيْ) بيت الدين أو بعلبك - انتهت. لقد كانت بعض أجزاء المشهد الثقافي بمثابة فقاعة وستنفجر. لكن هل يعني هذا أنَّ الثقافة تموت؟ طبعًا لا. فكيف يمكننا الاستمرار؟

ما زلتُ أتذكَّر كيف أسَّسنا المسرح في عام 1992 بعد الحرب. كنا جميعنا متطوِّعين. وقد كان كلُّ شيء متواضعًا جدًا، وأعتقد أنَّ هذا ما يجب علينا أن نعود إليه، إنْ لم يتصاعد الوضع ولم يندلع نزاع عسكري أو انقلاب، وهذا أمر ممكن أيضًا. وعندئذ ينتهي بنا المطاف مثل إخواننا العرب.

 

المطربة المصرية شيرين عبد الوهاب وهي تغني على مسرح مهرجان بعلبك الدولي في لبنان في تاريخ 26 / 08 / 2016. Foto:  DPA
يقول إلياس خوري حول الأزمة والثقافة في وطنه لبنان: "ستتوقَّف جميع فعاليَّات العرض: إنها نهاية الفعاليَّات السياحية والموسيقى في (مهرجانَيْ) بيت الدين أو بعلبك. لقد كانت بعض أجزاء المشهد الثقافي بمثابة فقاعة وستنفجر. لكن هل يعني هذا أنَّ الثقافة تموت؟ طبعًا لا".

 

هل يمكن أن تواجه بيروت مصيرًا مشابهًا لمصير بغداد، التي فقدت أيضًا طبقتها الوسطى في الخمسينيات والستينيات وفقدت معها طليعتها الثقافية؟ لم تتعافَ بغداد من ذلك قطّ.

إلياس خوري: أعتقد أنَّ النموذج العراقي لا يمكن مقارنته بنموذجنا، وذلك لأنَّ بغداد كانت دائمًا مدينةً عراقيةً متجانسة. أمَّا بيروت فهي ليست لبنانية بل عربية. بيروت كانت دائمًا مركز الثقافة العربية. كان الجميع يأتون إلى بيروت: الفنَّانون والمخرجون والكتَّاب. لم تكن الحال هكذا في بغداد. فقط في القاهرة كانت الأوضاع مشابهة في مطلع القرن العشرين، ولكن ذلك كان قبل فترة طويلة.

إنَّ ما يعطيني بصيصًا من الأمل هو أنَّ الحركات الإسلاموية لم تهتم بالثقافة ولم تنتج أية ثقافة - لا في لبنان ولا في بقية دول العالم العربي. هذه الحركات لديها الدين وإيديولوجيتها، ولكن لا توجد لديها ثقافة. ولا يمكنها قتل الثقافة لأنَّها لا تملك أية ثقافة. غير أنَّ كلَّ مجتمع يحتاج الثقافة لأنَّها مثل المرآة ولا يمكن لأي شخص أن يعيش من دون مرآة.

لم يتناول في الأدب اللبناني الكتَّابُ اللبنانيون موضوع الهجرة، وهذا أمر مثير للدهشة إذا رأينا كم منهم هاجروا ...

إلياس خوري: صحيح أنَّ كُتَّاب الموجة الأولى من الهجرة قد غادروا البلاد، ولكنهم كانوا يريدون العودة. خليل جبران وإيليا أبو ماضي وأمين الريحاني - جميعهم ​​لعبوا دورًا كبيرًا في الحداثة العربية، وكانوا مهاجرين إلى الولايات المتَّحدة الأمريكية أو مصر. غير أنَّهم كانوا يتحدَّثون حول بلاد الشام أكثر من حديثهم حول الظروف التي كانوا يعيشون فيها. وهذا ينطبق تمامًا على كُتَّاب الموجة الثانية: مثلًا أمين معلوف لم يتحدَّث قطّ حول تجربة المنفى.

هل تملك بنفسك جوازَيْ سفر؟

إلياس خوري: لا.

هل ستهاجر؟

إلياس خوري: لا بتاتًا. لقد عملت فترة طويلة في الجامعة في نيويورك، ولكنني لم أتولَّ بتاتاً وظيفة كاملة، لأنَّني أردت العودة. والآن وأنا في مثل سنِّي هذا: هل عساهم أن يقتلوني! (يضحك)، المنفى ليس خيارًا. نحن -المثقَّفين- لا نرحل إلَّا حين نُضْطَرّ إلى الرحيل.

 

حاورته: لينا بوب

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ /  موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

إلياس خوري كاتبٌ لبناني، وُلِدَ في بيروت عام 1948، نُشر له باللغة الألمانية عام 2012 ترجمة روايته "كأنَّها نائمة" (صدرت عن دار نشر سوركامب). وتُرجمت روايته المشهورة "أولاد الغيتو - اسمي آدم" إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية.

 

 

[embed:render:embedded:node:41133]