العراق ينتفض - اكتشاف القواسم المشتركة وتجاوز الانقسامات

عُقِدَ في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بمدينة إربيل في شمال العراق لقاءٌ ضمّ مجموعة من الفنانين والمبدعين العراقيين الشباب القادمين من جميع محافظات العراق. أعمالهم تتجاوز الخطوط الفاصلة للمجتمع وتبرز أوجه تشابه الثورة في بغداد وفي جميع أنحاء العراق. من أربيل، كريستوفر ريش يسلط الضوء لموقع قنطرة على الفنانين والمبدعين في العراق.

الكاتبة ، الكاتب: Christopher Resch

لم تعد لانا حداد قادرة على التوقُّف عن الكلام. الناس في مركز ألاء في مدينة إربيل شمال العراق يزدحمون من حولها، يتدَّفقون بلا انقطاع. تشرح عالمة الآثار والفنَّانة الكردية لانا حداد بكلّ من اللغة الكردية والعربية والإنكليزية والألمانية لعبة الألواح التي ابتكرتها باسم "الإمبراطورية الآشورية"، والتي يحارب فيها اللاعبون من أجل السلطة والنفوذ بصفة الملوك الآشوريين أشوربانيبال أو سنحاريب.

كان الآشوريون يتحكَّمون بمصير المنطقة حتى نحو القرن السادس قبل الميلاد. وكانت في ذلك العصر بلادُ ما بين النهرين الخصبة - بلادُ الرافدين دجلة والفرات - مُتقدِّمة كثيرًا على الأوروبيين. تعتبر الإمبراطورية الآشورية في عصر ازدهارها حضارة راقية في الشرق الأدنى القديم.

قد تجد ألعابُ الألواح التاريخية اهتمامًا أقل في ألمانيا. ولكن في العراق لا يمكن أن يكون هناك توقيت أفضل لمثل هذه اللعبة: إذ يتزايد عدد الناس الذين يستذكرون في بلاد الرافدين تاريخهم المشترك. تقول لانا حداد: "هذه اللعبة تهدف لأن تكون جسرًا لإرثهم التاريخي المشترك".

اكتشاف القواسم المشتركة وتجاوز الانقسامات: هذا أيضًا أحد شعارات الاحتجاجات في بغداد وفي العديد من المدن الأخرى في وسط وجنوب العراق. يسعى المتظاهرون في العراق إلى القضاء على الفساد والعنف والانقسامات الطائفية، ويطالبون بتوفير فرص عمل ووظائف وآفاق مستقبلية وبتيار كهربائي يمكن الاعتماد عليه ومياه نظيفة.

مثل عالمين مختلفين

تفصل بين إربيل وبغداد ستون دقيقة بالطائرة، ولكنهما قد تبدوان في هذا السبت نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر (2019) مثل عالمين مختلفين. ففي بغداد يخرج مئات الآلاف إلى الشوارع، بينما تبدو إربيل هادئة ومملة شيئًا ما - لكن فقط من النظرة الأولى، حيث يعرض عشرون فنَّانةً وفنَّانًا قادمون من جميع أنحاء العراق أعمالهم في مركز ألاء، وهو مركز ثقافي متشابك مع حديقة ومقهى، تملكه المنظمة الشبابية للحزب الديمقراطي الكردستاني.

 

الفنانة وعالمة الآثار العراقية لانا حداد قامت بتصميم لعبة الألواح التي ابتكرتها باسم "الإمبراطورية الآشورية". Foto: Christopher Resch
Brücke zum gemeinsamen historischen Erbe: Die irakische Künstlerin und Archäologin Lanah Haddad hat das Brettspiel "The Assyrian Empire" konzipiert, in dem die Spieler als assyrische Könige Assurbanipal oder Sanherib um Macht und Einfluss kämpfen.

 

توجد أفلام ورسومات كاريكاتير وموسيقى ومسرحيات، كما أنَّ مَنْ يشاهد الأعمال يومًا كاملًا ويتحدَّث مع الفنَّانات والفنَّانين ويختلط بالجمهور، يحصل من خلال ذلك على لمحة مُكثَّفة عن المشهد الثقافي الحيوي في العراق. وجميع هذه الأعمال الفنِّية قام بتمويلها معهد غوته من خلال برنامج لدعم الفنَّانين والمبدعين اسمه "سبوت لايت العراق" "Spotlight Iraq".

تجاوز التقاليد المتوارثة منذ القدم

على سبيل المثال، تريد سارة الزبيدي، البالغة من العمر اثنين وعشرين عامًا، تعزيز حبِّ المسرح في مدينتها كربلاء. صحيح أنَّ هذه المدينة لها أهمية دينية وتاريخية كبيرة بسبب معركة كربلاء التي وقعت في سنة 680، لكن من الصعب جدًا وخاصة للنساء أن يعيش المرء هنا حياةً عصريةً تُثريه ثقافيًا، مثلما تقول سارة الزبيدي: "يهدف مشروعي المسرحي أيضًا إلى إظهار أنَّه يجب علينا أن نتخلى عن بعض هذه التقاليد المتوارثة منذ القدم. لا تسمح في الوقت الحالي القيودُ الاجتماعية للنساء لا بالسعي لتحقيق أهدافهنّ ولا بالمشاركة في الحياة الاجتماعية".

وبالنسبة لهدى الكاظمي، كان هذا الأمر بالذات هو الحافز لعودتها إلى وطنها. نشأت هدى الكاظمي في العاصمة الأردنية عمَّان، لأنَّ التوتُّرات بين السُّنة والشيعة في العراق كانت قد أصبحت كبيرة جدًا بالنسبة لعائلتها.

أشعل تنظيم القاعدة هذه التوترات ابتداءً من عام 2006 بهجمات إرهابية محدَّدة الأهداف. تقول هدى الكاظمي: "كثيرون سألوني لماذا عُدْتُ إلى هنا - فهنا كلُّ شيء ببساطة سيِّئٌ للغاية. ولكن حتى وإن كانت حياتي كلاجئة في أوروبا ستكون أسهل: فإنَّ العراق مليء بقصص تعتبر مصدر إلهام أريد تصويرها". تعمل هدى الكاظمي اليوم صانعة أفلام، ويعرض مشروعها الحالي قصة هروب ثلاث نساء عربيات.

تم تقديم ثمانية وثمانين مشروعًا من أجل الحصول على مِنَحٍ من معهد غوته، كانت مخصَّصة فقط للتمويل الأوَّلي، مثما يقول توماس كوسلَر، رئيس مكتب غوته في العراق، الذي يقع مقره في أربيل. وفي النهاية تم اختيار أربعة وعشرين مشروعًا، بحسب قول توماس كوسلَر: "أرصدتنا المالية ليست كبيرة. كان حجم الأموال الموجودة لدينا ثمانين ألف يورو. وهدفنا بالأحرى هو أن نُوَفِّر الحوافز، وأن نقول: هنا يمكنكم أن تفعلوا شيئًا ما في وقت قصير وبشكل غير بيروقراطي".

استمرار تمويل المشاريع "سبوت لايت العراق"

وكذلك سيواصل في العام القادم برنامج "سبوت لايت العراق" تمويل المشاريع، غير أنَّ معهد غوته يرى وبشكل متزايد أنَّ مهمته هي إقناع الشركاء العراقيين بأن يدعموا بأنفسهم الأفكار المثيرة. "ليس صحيحًا أنَّ في العراق لا توجد أموال بشكل عام، بل توجد أموال هناك - ووزارة الثقافة العراقية أيضًا لديها أموال"، مثلما يقول توماس كوسلَر: المشكلة هي أنَّ: عمليات منح الدعم المالي غامضة للغاية.

الأموال تتسرَّب، وهذه ظاهرة يومية في العراق الغني من الناحية النظرية. لا تزال المشكلات في العراق هي نفسها منذ عهد طويل: الفساد والانقسامات المشتعلة طائفيًا وعدم توفُّر فرص عمل وآفاق مستقبلية. الفنَّانات والفنَّانون هنا في مركز ألاء يعالجونها إمَّا في أعمالهم أو أنَّهم يعانون منها شخصيًا وبشكل مباشر: إذ إنَّ الكثيرين منهم يحملون شهادات من جامعات عراقية أو ما يزالون يدرسون - ولكنهم لا يستطيعون سوى الحلم بوظيفة جيِّدة.

 

حسين مطر في إربيل. Foto: Christopher Resch
Hussein Muttar: "Die Leute werden nicht nach Hause gehen, wir werden nicht weglaufen. Auch im Irak gilt das Gesetz, wir sind nicht in einem Dschungel, wir leben nicht mehr in einer Diktatur, und Saddam Hussein ist nicht mehr unter uns."

 

روح ساحة التحرير

مواضيع المحتجِّين المُنْتَفِضين في العاصمة بغداد وفي غيرها من المدن العراقية الأخرى مطروحة هنا وترافق كلَّ حديث. كان من المقرَّر في الأصل أن تُقام هذه الفعالية في بغداد، ولكن بسبب الأوضاع الأمنية الغامضة فقد قرَّر معهد غوته بشكل عاجل إقامتها في أربيل.

وعلى الرغم من أنَّ المخرج ياسر كريم يأسف لذلك، ولكنه يقول أيضًا: "هذا في الواقع واحدٌ من التناقضات الكثيرة هذه الموجودة في داخلنا وفي داخل بلدنا". استحضر ياسر كريم في كلمة قصيرة مُلتَهِبة روح ساحة التحرير: "بالنسبة لي لقد فزنا. فأنا أرى في ساحة التحرير عراقًا مثلما أتمناه، أخيرًا أصبح العراق وطنًا لنا جميعًا".

وهذا ما تشعر به أيضًا هدى الكاظمي: "الجميع في ساحة التحرير مُتَّحِدون، لقد تغلبنا أخيرًا على الانقسامات إلى سُّنة وشيعة أو بين الشمال والجنوب".

يقول حسين مطر، وهو طالب عمره واحد وعشرون عامًا، إنَّ استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي هي الخطوة الأولى. لكن: يجب أن تليها خطوات أخرى، بسبب المذبحة التي وقعت في مدينة الناصرية، وبسبب التصويب على الرأس مباشرة بقنابل الغاز المسيل للدموع، وبسبب استخدام العنف الوحشي منذ اليوم الأوَّل للثورة من قِبَل جماعات تدعمها إيران.

وبحسب حسين مطر فإنَّ: "الناس لن يعودوا إلى بيوتهم، ولن نتراجع. في العراق أيضًا يوجد قانون. نحن لسنا في غابة، ولم نعد نعيش في حكم ديكتاتوري، وصدام حسين لم يعد موجودًا بيننا. لن نتخلى ببساطة عن حقوقنا".

 

 

كريستوفر ريش

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

 

ar.Qantara.de