تحية موسيقار لأستاذه علي أكبر خان: صوت الروح

من رُوّاد عازفي آلة جيتار اﻟ "سلايد"، دِيباشِيش بهاتّاتشاريا.
من رُوّاد عازفي آلة جيتار اﻟ "سلايد"، دِيباشِيش بهاتّاتشاريا.

بهاتاتشاريا عازف بارز قدم بألبومه تحية إجلال للراحل علي أكبر خان العازف البارع على آلة السارود. وكلاهما مِن أهم مَن سد ثغرة بين موسيقى كلاسيك الهند وأوروبا. ريتشارد ماركوس استمع إلى الألبوم لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Richard Marcus

الأُستاذ علي أكبَر خان من مواليد شهر إبريل / نيسان من عام 1922، في المنطقة التي تُعرَف اليوم بِاسم بنغلاديش. وكغيره من الكثير من موسيقيِّي ذلك الزمن، كانت الموسيقى تجري في عروقه وأُسرته. فوالده، المُعلم والموسيقيّ المعروف، كان عازفًا في بلاط مَهَراجا إمارة "مايهار" – التي تقع اليوم في ولاية "ماديا پرادِيش" في الهند. وفيما كان خان يتلقَّى التعليم على يد والده في العزف على آلاتٍ مختلِفة وفي التلحين الغنائيّ، إلا أنّ الأمر انتهى به إلى التركيز على إتقان العزف على آلة اﻟ "سارُود".

وهي آلة وَتَريّة ذات عُنُقٍ خالٍ من الخانات، تُستخدَم في عزف الموسيقى الهندُوستانيّة. تعُود أُصول تسميَتِها إلى واحدة من هاتين الكلمتين الفارسيّتين: سُورُود – بمعنى "أُغنية" أو "لحن" أو "أُنشُودَة". أمّا الكلمة الأُخرَى المُحتمَلة فهي: سُورُودان – بمعنى أن "يُغَنِّي" المَرء، أو أن "يَعزف على آلة"، أو حتى "يُؤَلِّف مقطوعة موسيقيّة". في حين أنّ هناك من الدَّارسين ممّن يقول بأنّ تسمية "سارُود" جاءت من كلمة "شاه-رُود"، بمعنى "مَلِك الأوتار".

التأثير الإسلاميّ على الموسيقى الكلاسيكيّة الهندُوستانيّة

رغم أنّ أصل الكلمة مثير للاهتمام بحد ذاته، مُوَضحًا التأثير الإسلاميّ الجَلِيّ على الموسيقى الكلاسيكيّة الهندُوستانيّة، إلا أنّ النقطة الهامة في سياق هذا الألبوم هي أنّنا أمام آلة وَتَريّة ذات عُنُقٍ خالٍ من الخانات، لكنّها تَبقَى الأمثَل لِعَزف وتلحين موسيقى تتطلَّب من أنامِل العازف أن تتحرَّك، أو بالأحرَى أن تَنزَلِق، من أعلى عُنُق الآلة إلى أسفله، وبالعكس. هنا، يأتي أُسلوب بهاتّاتشاريا المُمَيَّز في دَمج آلة الجيتار الهاوانِيّة [من جُزُر "هاواي"] مع الموسيقى الكلاسيكيّة الهندُوستانيّة.

في هذا الألبوم، نَجِد أنّ بهاتّاتشاريا قد تمكَّن من مزج هذه الأساليب التقنيّة المُتميِّزة بعضها مع بعض عبر إحداث آلة اﻟ "تشاتُورانغِي". وهي قيثارَة ذات أوتار معدنيّة، تُوضَع على حجر العازف، مع إلحاق وَتَرين إضافيّين على لوحة الخانات في عُنُق الآلة، لتمكين عَزف الطبقة الصَّوتيّة الخَفِيضَة. كما أنّ هناك مجموعة من الأوتار المتجانسة (ستّة عشر وَتَرًا)، تلك التي تُصدِر الدَّندَنَة الصَّوتيّة حين تُعزَف الأوتار الأُخرى. 

صورة غلاف ألبوم "صَوتُ الرّوح" للموسيقيّ پاندِيت دِيباشِيش بهاتّاتشاريا (المُوَزّع التجاري: صفحة الفنّان على موقع "باند-كامپ" للتسجيلات الصوتيّة) Album cover of Debashish Bhattacharya’s "Sound of the Soul" (distributed by Abstract Logix/bandcamp.com)
عبر إصداره الأخير "صَوتُ الرّوح"، يُقدِّم الموسيقيّ پاندِيت دِيباشِيش بهاتّاتشاريا تحيّة إجلال إلى الفنّان الراحل / الأُستاذ علي أكبَر خان، أحد أبرَع الأساتذة في الموسيقى الكلاسيكيّة الهندُوستانيّة. قد لا يَعرف المُستَمِع الكثير عن الأُستاذ علي أكبَر خان، لكنّه سيكتسب دون أدنى شَك تقديرًا جديدًا لموسيقاه، وكذلك موسيقا بهاتّاتشاريا، عقب الاِستماع إلى هذا الألبوم.

مع وَلَعِه بأُسلوب "سلايد" للعَزف [عبر استخدام اسطوانة معدنيّة صغيرة تُرَكَّب على أحد أنامِل العازف]، وبراعتِه في تَطويع الآلة المُستخدَمة هنا، فإنّه من الأمر الطبيعيّ أن يتمكَّن بهاتّاتشاريا من تأليف أربع قطع موسيقيّة جديدة مُهداة إلى الأُستاذ علي أكبَر خان. خاصةً أنّ الأخير كان من عازفي آلة مُطوَّعَة لهذا النوع من الموسيقى. ومع أنّ صوت آلة اﻟ "تشاتارانغِي" مُختلِف نوعًا ما عن آلة اﻟ "سارُود"، إلا أنّ الرّوح هي عين ذاتِها.

 روحُ الإبداع

المعروف أنّ الأُستاذ علي أكبَر خان من مؤسِّسي واحدة من أوائل المدارس لتعليم الموسيقى الهندُوستانيّة في الولايات المتحدة. ليس ذلك فقط، بل إنّه  شارَك بالعَزف في احتفالاتٍ بارزة، كما فعل بصُحبَة عضو فريق اﻟ "بِيتِلز" السابق جُورج هاريسُون في الحفل الشهير "من أجل بنغلاديش" عام 1971. وإن دَلّ ذلك على شيء، فهو على أهميَّة آلة اﻟ "تشاتوُرانغِي" القادرة على لَحم الصَّدع الذي لطالما كان متواجدًا بين الموسيقى الأوروبيّة ونظيرتها الهنديّة. 

نظرًا لمُراعاة بهاتّاتشاريا تلك الأحاسيس التي أتاحَت للأُستاذ علي أكبَر خان أن يعزف ويسجِّل موسيقاه بالتعاوُن مع أسماء لامِعة كعازف الكمان البريطاني الشهير يِهُودِي مِينيُوهِين وكذلك العديد من فنّاني موسيقى اﻟ "پُوب" الغربيّة، نَجِد أنّ هذه الموسيقى قد نجحَت في تمَلُّك روح الإبداع التي لا شك أنّها قد ميَّزَت أعمال الأُستاذ علي أكبَر خان.

يَكشِف لنا ألبوم "صَوتُ الرّوح" عن عازفٍ بارِع تمكَّن من إطلاق العَنان لموهبته ومَلَكته الإبداعيّة.

حين نستمِع إلى الألبوم لأوّل وهلة، لن نُصدِّق أنّ كل معزوفة من المعزوفات الأربَع هي من أداء بهاتّاتشاريا، برفقة عزفٍ مُنفَرد على آلتين لا غير: الطبلة الهنديّة الكلاسيكيّة وطبلة اﻟ "پاخاڤاج" [آلة إيقاعيّة بِرميلِيَّة الشكل تُوضَع على حجر ضابِط الإيقاع، تَحمِل قطعتين جلديَّتين، واحدة في كلّ ناحية]. يقوم العازف آخِيلِش غُوندِيتشا بالنَّقر على آلة اﻟ "پاخاڤاج" في المعزوفة الأُولى "شُعلة متوهِّجة أبَدَ الدَّهر". فيما يقوم العازف سُواپان تشاودُري بالنَّقر على الطبلة الهنديّة الكلاسيكيّة في المعزوفات الثلاث الأُخرَيات: "إلى قَدَمَية القُدسِيَّتَين"، "صَوتُ الرّوح"، "ألوانُ الفَرَح".

في حين أنّ كل واحدة من المقطوعات الأربع تُظهِر إبداع بهاتّاتشاريا، تبدو معزوفة "إلى قَدَمَية القُدسِيَّتَين" ذات الأربعين دقيقة وكأنّها الجوهر النابض للألبوم. وهي مقطوعة مَجازيّة عن حكمة الآلهة، فيما يقوم المُريدُون بزرع أقدام أساتذتهِم القُدسِيّة في أحشاءِ قلوبهم كي يتمكنوا من الأخذ بتعاليمهم. وبهذا، نستطيع بدورنا كمُستَمِعين أن نستنبِط بأنّ هذه المقطوعة ما هي إلا تأمُّليّة على ألحان علي أكبَر خان. تماشيًا مع تقاليد الموسيقى الكلاسيكيّة الهندُوستانيّة، ينغَمِس التلميذ في تعاليم أُستاذِه كما يفعل أيّ طالب عِلم أمام شيخ الأساتذة في مجالِه – سواء كان ذلك روحانيًّا أو دُنياويًّا.

أيًّا كان الدافع وراء صياغة عنوان الألبوم، يبقى هذا العمل إنتاجًا موسيقيًّا استِثنائيًّا. بهاتّاتشاريا عازف مُتمَكِّن بوسعه أن يجعل آلة اﻟ "تشاتارانغِي" تَصدَح وتَنساب بكل طَلاقة وسَلاسة، وكأنّه ليس هناك أيّ إحساس بمُرور الوقت أثناء الاِستماع إلى المعزوفة. في حين تُسمَع الدَّندَنَة الجارفة للأوتار المتجانسة، ويتذوَّق المُستمِع مَهارة العزف وثَبات الإيقاع، فيُضحي مُنتَشيًا ومُنغَمسًا في أبعاد الصَّوت واللحن.

تجربةٌ مُتسامِيَة

تُحَلِّق الطبقات اللحنيّة، واحدة تلو الأخرى، حول أُذني المُستمِع الذي لن يتمكَّن إلا من أن ينساق طَواعية تجاه عالمٍ آخَر. هنالك الكثير من المؤلَّفات الموسيقيّة التي تدَّعي الرّوحانيّة أو الاِرتقاء، إلا أنّ الكثير منها لا ينجح في تقديم تجربة مُتسامِيَة كتلك التي يُقدِّمها لنا بهاتّاتشاريا. كالسَّهلِ المُمتَنِع، دون أدنى جُهد، يَحمِلك هذا الفنّان من عالمك الآنيّ إلى آخر مِلؤُه التأمُّل والجَمال.

تلعَب دِيباجَة ضابِطَي الإيقاع غُوندِيتشا وتشاودُري دور الرّكيزة التي تتدفَّق حولها تقاسيم بهاتّاتشاريا. نسمَع في بعض الأحيان صوت الإيقاع يتراجَع إلى لمسةٍ خلفيّة؛ وفي أحيان أُخرى، تتقدَّم هذه الأصوات إلى صَدر المعزوفة. في كلتا الحالتين، تبقى العلاقة بين جميع الآلات – الوَتَريّة منها والإيقاعيّة – متجانسة ومتكاملة. لدرجة أنّنا لا يُمكِن أن نتخيَّل واحدةً دون أيّ من الآلات الأُخرَيات.

 

 

استمَعتُ في السابق إلى العديد من عازفي آلة اﻟ "تشاتُورانغِي"، وأكاد أن أجزِم بأنّه لا يوجد أيّ عازف آخَر يُنافِس بهاتّاتشاريا في أناقة وحساسيّة عزفه البالغة. إن كنت لم تسمع هذه الآلة تُعزَف من ذي قبل فستندهش من إمكانيّة تضافُر هذين الصَّوتين في آلةٍ واحدة: صوت جيتار اﻟ "سلايد" ذي الأوتار المعدنيّة، مندمجًا مع صوت الأوتار المتجانسة. وهذه الخاصيّة هي ما عهدناها من آلة اﻟ "سيتار" – على سبيل المثال – لا الـ "تشاتارانغِي" كما في هذا الألبوم.   

تُتيح كل معزوفة من المعزوفات الأربع للمُستَمِع الفرصة للتدَبُّر في تراث الأُستاذ علي أكبَر خان. ونحن إذ نتمنَّى من المُستَمِع أن يحفَظ اِسم كل مقطوعة في ذاكرته ووجدانه وأن يُطلِق العنان لروحه أن تُحَلِّق بعيدًا في فَلَك الموسيقى: فنحن نتمنَّى ذلك لأنه حينها سيجد نفسه في حالةٍ تأمُّليّة للإنجازات الفنيّة للأُستاذ علي أكبَر خان.

عبر ألبوم "صَوتُ الرّوح"، يُقدِّم دِيباشِيش بهاتّاتشاريا تحيّة إجلال رائعة ولائقة إلى أحد أبرَع أساتذة الموسيقى الكلاسيكيّة الهندُوستانيّة. قد لا يَعرف المُستَمِع الكثير عن الأُستاذ علي أكبَر خان، لكنّه سيكتسب تقديرًا جديدًا لموسيقاه – وكذلك موسيقى بهاتّاتشاريا – عقب الاِستماع إلى هذا العمل.

 

 

ريتشارد ماركوس

ترجمة: ريم الكيلاني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de