هشام جعيّط... مفكر "تفهّمي" واجه استعلاء المستشرقين

كتاب وأكاديميون يتصفّحون مكتبة المفكر الراحل  هشام جعيط  وينبشون في منهاجه.
كتاب وأكاديميون يتصفّحون مكتبة المفكر الراحل هشام جعيط وينبشون في منهاجه.

بعد أكثر من شهرين على رحيله، تفسح "قنطرة" المجال لكتاب وباحثين أثرّت فيهم أدبيات هشام جعيّط أيما تأثير، لأبداء آرائهم في مكتبه الضخمة ومنهاجه المثير للجدل، وتتبع البصمات التي تركها الراحل في وجدانهم وأقلامهم. ومهما كان الحيز واسعا في تتبع إرث المفكر هشام جعيّط، فإنه سيضيق حتما بغزارة منتوجه وعمق تحاليله وكتاباته. الصحافي إسماعيل دبارة يستضيف أكاديميا تونسيا وآخر فلسطينيا كمحاولة بسيطة لإعطاء هذا المفكّر الكبير بعضا مما يستحقّ.

الكاتب، الكاتبة : إسماعيل دبارة

فقدت تونس والعالم العربي في الأول من يونيو الماضي المؤرخ والمفكر الكبير هشام جعيّط الذي أعاد بجهوده وكتاباته النظر في مسلمات تاريخية كثيرة جعلته يتبوأ مركزا متقدما ضمن كوكبة من المؤرخين والكتاب المُستنيرين أمثال محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وقبلهم طه حسين، ممن نبشوا عميقا في الطبقات التاريخية، والخلفيات الذهنية من خلال التراث؛ مقدمين وصفتهم لفهم مشاكل الحاضر، إذ لا يمكن لباحث في الشأن الإسلامي اليوم أن يتجاوز مؤلفات هشام جعيّط إن أراد فعلا التقدم بمنتوج جاد ومفيد.

اهتمّ جعيّط بكافة العناصر التي شكّلت المجتمع الإسلامي منذ سنوات التأسيس الأولى، لا سيما القبائل العربية، وتتبع حركتهم، ومسالكهم وسلوكاتهم، كما اهتم بالبلاط والخلفاء ولم يترك اي تفصيل دون النبش فيه، لكه بقي بالمقابل متمسكاً بالبحث العلمي الصارم، معتمدا بقوة على الوثائق والمستندات، مستعينا بالثقافة الشفاهية وعملية التدوين، منشغلاً أيضاً في كتاباته، بالثقافة الأفريقية وبلاد المغرب العربي.

وبعد أكثر من شهرين على رحيله، تفسح "قنطرة" المجال لكتاب وباحثين أثرّت فيهم أدبيات هشام جعيّط أيما تأثير، ومهما كان الحيز واسعا في تتبع ارث المفكر هشام جعيّط، فإنه سيضيق حتما بغزارة منتوجه وعمق تحاليله وكتاباته.

مصافحة أولى لمفكر "فريد"

بصمات المفكر هشام جعيّط واضحة المعالم في نشأة وتكوين الأكاديمي التونسي طارق الكحلاوي، الذي درّس في الولايات المتحدة، وحاز على الإجازة والدراسات المعمقة في التاريخ والآثار من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس والدكتوراة في تاريخ الفن من جامعة بنسلفانيا عن "وصف البحر الأبيض المتوسط في الخرائط الإسلامية"، وعمل بعد ذلك أستاذا في جامعة رتغرز في قسمي التاريخ وتاريخ الفن.

يقول الكحلاوي لـموقع "قنطرة" عن مصافحته الأولى لمدونة هشام جعيّط: "كانت المصافحة الأولى مع كتابات جعيط في سنتي الجامعية الأولى في قسم التاريخ خاصة كتابه حول الفتنة. الأهم أنى أدركت الرجل في سنواته الأخيرة في الجامعة قبل تقاعده، وهو ما سمح لي بالحضور في دروسه. الحقيقة التقيت الرجل لأول مرة قبل الجامعة في ظروف سأشرحها لاحقا. المراوحة بين الكتاب والدروس كان مثيرا للانتباه اذ كانت طريقته في الالقاء بطيئة وعميقة في الآن نفسه. الكتاب مكثف للغاية، تشعر أنك تلهث وراء المعطيات والمعاني وتحتاج إعادة القراءة. كانت تجربة مضنية لكن لذيذة. وبقيت تلك الحالة الشعورية مؤسسة لعلاقتي بجعيط. مفكر في التاريخ، متواضع خارج الدرس، لكن أيضا محبط. كان يتكلم باحباط واضح وكان ذلك يشعرني بحزن كبير".

يتابع الكحلاوي: "كنت حينها انشط سياسيا في تنظيم طلابي قومي-يساري في مرحلة تم فيه تحريم العمل السياسي في الجامعة وبالبلاد. كانت مرحلة صعبة تتسم بالقمع. كانت عشرية سوداء نحاول فيها الخربشة في الصخر، نفتك افتكاكا جرعات الحرية، تعليق لنصوص لا تبقى الا بضع دقائق قبل تمزيقها، اجتماعات غير مرخص فيها يلاحقنا البوليس بعدها ويعتقل من يعتقل. مرحلة محنة حقيقة كمحب للحرية، وكان جعيّط محبا للحرية، ومعروف بمواقفه المبكرة من نظام بن علي". 

الأكاديمي التونسي طارق الكحلاوي. الصورة: خاص
الأكاديمي التونسي طارق الكحلاوي: "جعيط لم يكن يعزل نفسه كمفكر نشأ في سياق عربي-إسلامي عن مستشرقين نشؤوا في سياق أوروبي غربي. النقاش كان علميا أساسا. لكن من الواضح انه لم يكن مرتاحا لبعض المدارس ضمن الاستشراق، بعض الكلاسيكيين لكن خاصة معاصريه في السبعينات. باتريسيا كروون وغيرها، وهو توجه يطغى عليه قراءة الشك المطلق في المصادر واستخلاص رواية بديلة جذريا للرواية السائدة."

من هنا كان من الضروري اكتشاف بقية الرجل، ليس فقط المؤرخ بل المفكر وحتى الناشط السياسي. قلت إني التقيته قبل الجامعة. كان ذلك عندما أسس مع والدي (الناشط أحمد الكحلاوي) وآخرين لجنة مقاومة العدوان على العراق (ثم أضافوا اليها "فك الحصار" بعد الحرب). أذكر أول مرة التقيته في مقر "التجمع الاشتراكي التقدمي" (الديمقراطي التقدمي لاحقا) الذي كان يستضيف أنشطة الجمعية. لم يكن سياسيا الحقيقة، يتكلم بهدوء شديد ويبدو غير مرتاح للسياقات الصاخبة، لكن من الواضح أنه كان يرى العراق نقطة مركزية. تجد هذا الشغف بالعراق في كتاباته حتى العلمية، ومن ذلك تركيزه على الكوفة كنموذج تأسيسي لمسار التحضر العربي. قرأت بقية الكتاب خاصة المعنية بالتأمل حول الشخصية العربية الإسلامية. كان للرجل ميول بعثية دون أن يكون منتظما. كانت المقارنة طبيعية مع بقية المؤرخين الاجلاء الذين تتلمذت على أيديهم. خصوصية الرجل أنه كان قلقا من "سجن المؤرخ-الأكاديمي". يسعى بشكل واضح للتأمل الفكري. كان يسعى أن يكون مفكرا، لا أقل. وأيضا مفكر ملتحم بقضايا عصره، دون الاضطرار للتسطيح السياسي.

"مفكر ملتحم بقضايا عصره، دون الاضطرار للتسطيح السياسي"

صيت هشام جعيّط يتجاوز تونس، فللرجل اشعاع عربي اسلامي، بلغ تخوم الثقافة الغربية لأنه يحرر كتاباته بالفرنسية.

يقول الكاتب والباحث الفلسطيني حسام أبو حامد لـموقع "قنطرة" مستذكرا هو الآخر مصافحته الأولى لكتب جعيّط: "انطلاقتي كانت مع كتاب الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر (1991) الذي قدم فيه جعيّط قراءة جديدة لمرحلة حساسة من التاريخ الإسلامي، سعى فيها إلى توضيح أسس الصراعات الحزبية والمذهبية اللاحقة والمتواصلة إلى يومنا هذا. كان ذلك في السنة الأولى من دراستي الجامعية في قسم الفلسفة، حين كنت بصدد إعداد حلقة بحث حول سقيفة بني ساعدة كلحظة تأسيسية في التاريخ الإسلامي. وكان جعيّط مرجعا مناسبا".

يضيف أبو حامد: "لا أعتقد أن فرادة جعيّط تكمن تماما في أفكاره، لأني أجد لها تقاطعات عند عدد من المستشرقين أمثال فلهوزن، وغولدتسيهر، وربما بلاشير أيضا. لا أنفي الجدة عن كثير من أفكاره التي تبقى في النهاية تخمينات واستنتاجات قابلة للنقاش، لاسيما في غياب الدلائل المادية التي لا تزال مطمورة في أماكن تمنع قدسيتها لدى المسلمين من انطلاق عمليات تنقيب واسعة، قد تغير كثيرا من تصوراتنا حول التاريخ العربي الإسلامي، خصوصا في صدره الأول. فرادة جعيّط تكمن في منطلقاته المنهجية، أو تتمثل في عملية "التنهيج" إن جاز التعبير، المتعددة المداخل، التي توسل فيها المنهج التاريخي لدى جعيّط بعدة علوم (أنثروبولوجيا، علم أديان مقارن، علم اجتماع، علم نفس، ثقافة تاريخية وفلسفية) لم تكن معهودة للباحثين القدامى، حتى يتسنى له تقديم قراءة أكثر موضوعية يمكن من خلالها إعادة كتابة السيرة النبوية، والتاريخ العربي الإسلامي في غير محطة منه، ينتصر فيها للحقيقة التاريخية على الحقيقة المطلقة.

جعيّط متصديا لـ"استعلاء" المستشرقين

يقول النقاذ والمهتمون إنّ سلسلة أعمال جعيّط التاريخيّة والثقافيّة تعتبر تجسيدًا لمنهج أطلق عليه اسم: "العقلانيّة المُتفهّمة"، وهو منهج يعارض بشدّة منهجيّة المستشرقين التي تردّ وترفض كلّ ما ورد في كتب السيرة النبوية، جملةً وتفصيلاً، وتعتبره من وضع القصاص والحكّائين لا غير، إذ أنّ طبيعة تعامل المستشرقين مع المصادر العربية، تتضمن الكثير من الازدراء، فكانت الصور التي حملوها تجاه الإسلام والنبي "معيارية" منطلقها المركزية الغربية-المسيحية والتي من خلالها حاكموا النبي محمد والاسلام.

يقول الأكاديمي التونسي نجم الدين خلف الله في مقال نشر في "العربي الجديد": "اعتمد جعيّط على القرآن مصدراً رئيساً لكتابة السيرة باعتبارها الوثيقة الصحيحة الوحيدة الشاهدة على أحداث تلك الفترة، وهو ما يرفضه تعنتًا الغربيون. ومن جهة ثانية، تميّز عن المستشرقين بحمل الهم العربي وقضايا الوطن في كتاباته، فلم يَدرس ظواهره ببرودٍ، كما لو كانت نصوصه منعزلةً عن الواقع التي أنتجها، فقط من أجل التظاهر باستخدام المنهج الفيلولوجي والاقتصار عليه إيهامًا بأن اللغة العربية وحضارتَها قد ماتتا منذ عهودٍ.

هكذا، كان إسهام جعيّط أساسيًّا في قلب النموذج المعرفي الذي ساد من قرون: فقد فَتح الباب للباحثين العرب وأطاح باحتكار الخطاب الاستشرافي لدرس الإسلام وتاريخه، كما ثَبّتَ أساسيات التاريخ الإسلامي أمام موجة النقد العارمة التي شكّكت، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، في كل شيءٍ دون استثناء".

لكن الأكاديمي طارق الكحلاوي لا يعتقد أن ّالراحل هشام جعيّط وضع لنفسه مهمة الرد على المستشرقين هكذا في العام. هو نفسه تتلمذ لدى بعضهم خاصة الفرنسي كلود كاهين.

ويضيف الكحلاوي لـ"قنطرة": "جعيط لم يكن يعزل نفسه كمفكر نشأ في سياق عربي-إسلامي عن مستشرقين نشؤوا في سياق أوروبي غربي. النقاش كان علميا أساسا. لكن من الواضح انه لم يكن مرتاحا لبعض المدارس ضمن الاستشراق، بعض الكلاسيكيين لكن خاصة معاصريه في السبعينات. باتريسيا كروون وغيرها، وهو توجه يطغى عليه قراءة الشك المطلق في المصادر واستخلاص رواية بديلة جذريا للرواية السائدة.

ينشط جعيط أكاديميا في مستوى دولي ولهذا تجده في قلب الجدال الأكاديمي الواسع وهو لا يخص بنقده "الاستشراق" لكنه يجد نفسه في جدال مع مستشرقين. بل أذهب أكثر من ذلك هو في ذات السياق المعرفي من حيث أدوات التحليل على الأقل والمنهجيات مع مجال الاستشراق ككل. هو أقرب من هذا المجال منهجيا منه مثلا الى عربي يفكر بأدوات غير علمية في الإسلام.

الباحث الفلسطيني حسام أبو حامد، يحدّث "قنطرة" عن منهج جعيّط ويقول: "أعلن جعيّط أنه سعى إلى استنباط منهج "عقلاني تفهّمي" (تأثر فيه بماكس فيبر فيبر)، زعم أنه غائب عن جهود الباحثين في التراث الإسلامي المعاصرين، وأن المستشرقين الجدد لم يأتوا عليه، واصفًا دراستهم بالهزيلة في هذا الحقل مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب، فلم يعد هناك، برأيه، مستشرقون من ذوي الأهمية في الغرب، فأغلبهم قد مات، ولم يأت جيل جديد، وأن المستشرقين في الفترة التي كتب فيها لم يكونوا متمكنين من علم التاريخ، وليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي، فاستسلموا للسرد وللأحكام المسبقة، ولاعتبارات خارج الحقل العلمي، وسكنت كتاباتهم فرضية تفوق الغرب على الشرق الإسلامي. لذا يعلن من خلال ثلاثيته حول "السيرة النبوية" أن "الاستشراق انتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين".

الباحث الفلسطيني حسام أبو حامد، الصورة خاص.
يقول الباحث حسام أبو حامد بخصوص المنهج الحفري الذي اعتمده جعيّط، وجعله يصل إلى استنتاجات وخلاصات تبدو للجميع "مستفزة" وجعلت من التيارات السائدة خصوما له، فلا هو أرضى دعاة الحداثة، ولا كسب ودّ الاصوليين: "لا تتعلق المسالة بنظري بنتائج معينة، بقدر ما نشأ هذا الاستفزاز أولا وقبل أي نتائج، على مستوى المنهج. فجعيّط يعتقد أن العرب لم يكتبوا تاريخهم بعد أو أنهم كتبوه غارقين في الأيديولوجيا بعيدا عن المعقولية التاريخية".

أخذ جعيّط على عاتقه أن يقرأ تاريخ الإسلام، مقاوما من ناحية، وجاهة الصرامة العلمية المفتعلة في الاستشراق، الذي بدا له استعلائيًا تشكيكيًا، وأن يقاوم من ناحية أخرى، إغواء المركزية الذاتية الإسلامية التي تبدو تبجيلية في أغلب الأحيان. إلى أي حد استطاع النجاح في هذه المهمة، دون أن يقع في الحيرة والتردد، ودون أن يجمع بين نقيضين يتمثلان في الارتكاز على الاستشراق، حيناً، ونقده وتعريته حينا آخر؟ الإجابة المتسرعة هنا ستكون غير منصفة. على الأقل، فإن تعمّقه في التاريخ الإسلامي، وانفتاحه على الثقافة الغربية والمدرسة الاستشراقية، تجعل من كتبه إضافة مهمة، في فهم الشخصية العربية والإسلامية. وأيضا، مرجعا أساسيا في فهم العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، جنبا إلى جنب مع كتاب إدوارد سعيد حول "الاستشراق".

مفكّر "لا يُرضي الجميع"

بناء على ما تقدّم، يمكن القول إنّ الارتكاز على الاستشراق، ونقده وتعريته في آن، دفع بكثيرين من هواة "التصنيف" إلى الصاق صفتين أو تهمتين بالمفكر الراحل، تبدوان متناقضتين وجمعت عليه الخصوم من كل حدب.

فقد تعرّض جعيّط الى انتقادات خصوم الحداثة التي سعى اليها وآمن بها، كما تعرّض الى انتقادات خصوم منهج الاستشراق الذي عايشه ونهل منه واستند اليه. ثمة من مدحه، واعتبره حديثاً، نجح في دراسة الإسلام من الداخل، أميناً على التراث، مستعيناً بالمناهج الجديدة، وثمة من هجاه واتهمه بمحاباة المستشرقين، وتقليدهم في أساليبهم، وبدل أن يتمكن من الرد عليهم، وقع في "تسطيحهم".

يقول الباحث حسام أبو حامد بخصوص المنهج الحفري الذي اعتمده جعيّط، وجعله يصل إلى استنتاجات وخلاصات تبدو للجميع "مستفزة" وجعلت من التيارات السائدة خصوما له، فلا هو أرضى دعاة الحداثة، ولا كسب ودّ الاصوليين: "لا تتعلق المسالة بنظري بنتائج معينة، بقدر ما نشأ هذا الاستفزاز أولا وقبل أي نتائج، على مستوى المنهج. فجعيّط يعتقد أن العرب لم يكتبوا تاريخهم بعد أو أنهم كتبوه غارقين في الأيديولوجيا بعيدا عن المعقولية التاريخية. كان الماضي العربي مسكوناً بالهوية الإسلامية أساساً، وهو ما كان في الواقع المعاش. وفي سياق سعيهم للخروج من عباءة الاستعمار، حاول دعاة الحداثة المستنسخة أوروبيا، التي فهموها على أنها مضادّة للدين، كتابة تاريخ وطني، مارس قطيعة مع التاريخ العربي الإسلامي، مع أن الإسلام كما يؤكد جعيّط هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية والإسلامية. وقع التناقض بين هؤلاء الحداثويين وبين الفكرة الإسلامية التي عادت إلى الساحة بقوة. تلك الحداثة اختُزِلَت في التّحديث دون أن تتحول إلى ثقافة جمعية، وكان ينبغي حسب جعيّط تغيير الفهم الخاطئ للإسلام وللتاريخ الإسلامي، لا القطيعة معهما.

في الضفّة المقابلة هناك الإسلاميون، الذين تمسّكوا بإسلام شكلي يُفْرِط في الاهتمام بملابس المرأة ووضعها وأمور عتيقة مظهرية جداً، كما وصفها جعيّط، مفتقدين للتفكير العميق والإصلاح الديني، على غرار إصلاح جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. أراد هؤلاء إخضاع التاريخ للحقيقة المطلقة التي يؤمنون بها ولم ينظروا إلى التاريخ بوصفه منهجا للبحث عن الحقيقة. بدا جعيّط مقتنعا بما ذهب إليه توينبي من أننا نستطيع أن نؤمن بديانتنا دون أن نعتقد أنها وحدها تتوافر على الحقيقة، فحذّر من القراءة الإيمانية عند هؤلاء الإسلاميين التي يغتالون الحقيقة بكفّهم عن البحث عنها، والتي أنتجت ثقافة إسلامية مأزومة خلت من كل علمية وموضوعية".

كان من الطبيعي أن ينظر الحداثويون إليه بوصفه إسلاميا آخرا يريد كتابة التاريخ، بل منظّرا من منظّري الخلافة الإسلامية. كما كان متوقعا أيضا، أن ينظر إليه الإسلاميون، أصحاب الحقيقة المطلقة، بوصفه حداثويا مشككا بحقائق الدين، حين أكّد أن التاريخ علم يجري على سطح الأرض، ولا يتناول الحقائق الميتافيزيقية في حدّ ذاتها، وأن على المؤرخ المسلم وضع قناعاته الدينية عند دراسة الإسلام بين قوسين، وأن يضع حقائق الدين في لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطى الإيماني، لأن غرض الباحث دائماً هو مناقشة المسلمات، والمعرفة التاريخية تبقى نسبية ومتغيرة بتغيّر المصادر والوثائق. هل من استفزاز أكثر من هذا؟

وفي هذا الصدد يقول الأكاديمي طارق الكحلاوي: "إن كنا نتحدث تونسيا في مستوى التأملات الفكرية عموما والموقف من الوضع العام، نعم هو في وضع اشكالي. لا يتبع جعيط التوجه الحداثوي العام في النخبة التونسية القلقة بشكل فطري من الدين والتي يمكن حتى ان تبدو مخاتلة إزاء الاستبداد على قاعدة التوتر مع المسالة الدينية، وخاصة التيارات الإسلامية. في المقابل ورغم أن جعيّط يدافع عن ديمقراطية جدية تستوعب مختلف الأطراف بما في ذلك الإسلامية الا أن موقفه النقدي الجذري أيضا من الإسلاميين بوصفهم يقدمون إجابات خاطئة لمشاكل حقيقية وأيضا بلمسه خطوطا حمراء في علاقة بالسيرة النبوية جعله أيضا في معرض استهداف التيار الإسلامي. هو عموما مثقف عانى الوحدة".

في معنى "التعاطف مع الموضوع"

لطالما حضّ هشام جعيط في حواراته ومقالاته على أن "كل قراءة تقوم على التعاطف مع الموضوع" وهذا هو منهجه البارز، فيقول: "إنه استقراء الباحث للماضي متسلحاً بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع وبالتعاطف اللازم مع موضوعه برحابة صدر ورجاحة فكر".

يضيف جعيّط في أحد حواراته: "ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام أولاً، واستقراء للنص القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية والنظر النقدي في المصادر التاريخية والبيوغرافية".

ويعرف عن الراحل جعيط اعتماده في أبحاثه على علم التاريخ أو المنهج التاريخي الذي يرى أنه بلغ درجة من المصداقية قربته كثيراً من العلوم الصحيحة، وهو يستعمل علم التاريخ بتداخل مع مجموعة أخرى من العلوم والمعارف مثل الأنثروبولوجيا (علم الأجناس) والفيلولوجيا.

يقول الباحث حسام أبوحامد: "ذهب جعيط إلى أنه بالإضافة إلى الموضوعية والدقة، على الباحث في التاريخ أن يتعاطف مع موضوعه وإلا فقد البحث توهّجه وقيمته. والمقصود بالتعاطف هنا أن يتمسك الباحث بأكبر قدر ممكن من "النزاهة التفهّمية"، وأن ينزع عن نفسه كل فكرة مسبقة. ويبدو لي أن هذا المنهج مستمد من علم النفس وهو نوع من التقمص الوجداني أو "التَشاعُر" أي القدرة على الفهم أو الشعور بما يختبره شخص آخر ضمن إطاره المرجعي، بأن يضع الشخص نفسه في مكان شخص آخر، وله أنواع: التقمّص الوجداني المعرفي؛ التقمّص الوجداني العاطفي؛ التقمّص الوجداني الجسدي... لنقل أن التعاطف عند جعيّط هو نوع من التقمص الوجداني المعرفي".

يرتبط التعاطف عند جعيّط بمنهج "التاريخ العقلاني التفهّمي" الذي سعى لتطبيقه في ثلاثيته "السيرة النبوية"، محاولا من خلاله الجمع بين "الفهم"، أي وضع العمليات التاريخية في قالب يمكنا من أن نفهمه "بعقل اليوم"، و"التفهّم" الذي هو الانحياز إلى المبررات الذاتية للحدث التاريخي ذاته في زمانه ومكانه. وتزداد أهمية هذه القراءة التفهّمية عند مقاربة موضوعات مركبة وحساسة، مثل: الوحي، والنبوة، معاني القرآن، تاريخية النبوة والنبي…إلخ، فهي برأيه موضوعات أقرب إلى الحقيقة الدينية المحضة، التي لا يمكن مقاربتها إلا بحس رهيف وعقلانية تفهّمية ومعرفة دقيقة".

أما طارق الكحلاوي فيرى أنّ "التعاطف" الذي تحدث عنه جعيّط يتضمن معنيين اثنين: الأول معنى "التعاطف الحضاري" أي مثلا هنا جعيط يدرس كعربي تاريخ العرب ليس من باب الحرفة او المهنة بل لأنه منشغل بشكل عميق بمأساة الانسان العربي، هو يعتبر نفسه معنيا بمواجهة هذه المأساة. بهذا المعنى هو مثقف عضوي وليس مجرد "مؤرخ محايد". المعنى الثاني أعتقد هو معنى "التعاطف الإنساني" أي أن الموضوع ليس فقط عينة حضارية محددة بل مكون حضاري في مشهد انساني.

في العمق، انشغال جعيط انساني وليس عربيا بشكل حصري، خاصة رفضه التمييز الحضاري على أساس السطوة والقوة.

جعيّط... في برجه العاجي!

مشروع هشام جعيّط حسب النقاد والمهتمين هو مشروع كبير لم يكتَمل بعد، أساسه إعادة قراءة الحقبة التأسيسية في الإسلام وما تلاها من منعطفات من أجل رؤية نقدية متحررة من صراعات الماضي وتقلبات الحاضر، بمنظور "عقلاني متفهم" يبتعد عن الهوس والبرود الاستشراقي الذي يحمل هاجس "التفنيد" وأسطرة كل الوقائع.

لكن يعيب كثيرون على الراحل كمفكر عضوي اختياره برجا عاجيًا مريحا، ورفضه التعريف أكثر بمشروعه، وخاصة تعففه عن الظهور الإعلامي للترويج لأفكاره التي ستستفيد منها الانسانية قاطبة. فهل كان مُخطئا هنا؟

تنقل "قنطرة" السؤال الى ضيفيها، فأما عن الدكتور الكحلاوي فيقول: "أعتقد ان جعيّط ظلم نفسه. فقد كان متحفظا جدا في التسويق لأفكاره وفي الظهور الإعلامي. لا يعود ذلك فقط للتواضع وعدم ارتياحه لأضواء الشاشة، بل أيضا لتطيّره من الصدام والصراع خاصة إذا وجد نفسه في قلب زحام الصراع السياسي. هل كان يمكن له التسويق لفكره دون ان تخدشه وتشوهه مسارات الصراع السياسي؟ اعتقد كان ذلك صعبا. هو أيضا ضحية سياقه، اذ قبل الثورة كان مغضوبا عليه وكان ضحية التعتيم. وبعد الثورة كان ضحية سياق "البوز" والاكلة الخفيفة الفكرية وسرعة التحولات السياسية. في وضع صاخب مثل هذا ورغم مناخ الحريات لم يكن هناك مقبولية لأفكار تطبخ على نار هادئة.

أما الكاتب والباحث الفلسطيني حسام أبو حامد، فيقول: "للأسف، لا تزال مجتمعاتنا العربية الإسلامية تدور في الحلقة نفسها التي حكمت مجمل التاريخ العربي الإسلامي والتي تفصح عنها العلاقة المتوترة بين المثقف والجمهور. لطالما كانت الجماهير سلاحا خطيرا بيد رجل الدين الذي يريد أن يرفع نمط تدين معين إلى مرتبة الحقيقة المطلقة، كان تحريض رجل الدين للجماهير ضد المثقف أخطر من تأليبهم للسلطة السياسية عليه، أو الوشاية به عند ولاة الأمور، ففي الوقت الذي تخضع في السلطة لبعض التوازنات لا تعرف الجماهير المهادنة. لذلك، توقّف كثيرون عن الخوض في "ما كانت الشريعة المحمدية قد نهت عن الخوض فيه" ولم يستطيعوا كلاما إلا تقيّة أو مواربة. كان ابن رشد الأكثر إدراكا لخطورة الجماهير سلاحا بيد رجل الدين، فحصر التأويل (بوصفه منهجا لإعادة القراءة وإنتاج المعرفة) في دائرة ضيقة من البرهانيين، وأخذ على الإمام أبو حامد الغزالي في معرض ردّه عليه في "تهافت التهافت"، أنه (الغزالي) قد جعل كتبه، وما تضمنته من مسائل فلسفية، متاحة للجماهير مما أفسد على العوام دينهم".

ويختم أبو حامد بالقول: "هناك ثمن يدفعه أصحاب الفكر النقدي الذي لا يكون مجديا بعيدا عن التشكيك وزعزعة القناعات تمهيدا للوصول إلى الحقيقة. على الأقلّ، لم يلجأ جعيّط إلى التقيّة في كتاباته بل اختار أن يحصر انتاجه المعرفي في دائرة الاختصاص. نعم ربما توخّى السلامة (قدر الإمكان طبعا) طالما لم يسلم حسين مروة ولا فرج فودة ولا نجيب محفوظ ولا نصر حامد أبو زيد ولا غيرهم. أنا شخصيا لا ألومه".

 

إسماعيل دبارة

حقوق النشر: قنطرة 2021

إسماعيل دبارة صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة.

 

 

 

المزيد من المقالات حول معضلة الإصلاح في الإسلام

نقد الذات التراثية استفادة إسلامية من الكنيسة اللوثرية

هل كان المفكر نصر حامد أبو زيد مصلحاً لوثراً إسلامياً؟

الإصلاح الديني في المسيحية والإسلام

معضلة الإصلاح في الإسلام 

الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!