مفكر الحوار بين الحضارات والقواسم المشتركة

توفي المفكر الإيراني (الفرنسي) داريوش شايغان في طهران بتاريخ 23 / 03 / 2018، عن عمر ناهز 83 عاما، وهو أحد أهم فلاسفة العالم الإسلامي الحديث. كان يسعى -من دون أن يحدد نفسه طائفيا- إلى الجمع بين الروحانية الإسلامية والهندية والشرقية والفلسفة الغربية. وكل من زار منزله آخر أعوام حياته كان يدخل متحفا خاصا للأديان العالمية. الكاتب الألماني شتيفان فايدنَر في رثاء الفيلسوف داريوش شايغان، لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Stefan Weidner

قبل عشرة أعوام كان يتمشَّى في شارع فينيسيا بيتش في لوس أنجلوس رجلٌ مسنٌ وأنيق، يتفحَّص بنظره تفاصيل المحلات المصطفة على جانبي الشارع: في واحد من هذه المحلات كان يتم بيع إكسسوارات هندية والترويج لطقوس شامانية وفي محل آخر تم إنشاء أستوديو لليوغا، وبجانبه كان يتم تقديم الوخز بالإبر الصينية، وبعد بضعة محلات أخرى كان يوجد محل للتدليك وكتب يابانية حول التنجيم والروحانيات، وأخيرًا محل لأحدث المنتجات من سيليكون فالي (وادي السيليكون جنوب خليج سان فرارنسيسكو) وبجانبه محل لموسيقى الروك المسجلة على اسطوانات "الفينيل".

هذا الرجل المسن اسمه داريوش شايغان. في وقت لاحق كتب حول ملاحظته تلك: "كلُّ شيء كان حاضرًا هناك في الوقت نفسه. وكأنما قد تمكَّن المرء من جعل جميع الطبقات المختلفة والمرتَّبة بعضها فوق بعض في جيولوجيا وعينا، مرتَّبةً على مستوى أفقي بعضها بجانب بعض".

شايغان المولود في عام 1935 كان كوزموبوليتيًا عالميًا بفضل الله. كان ينشر مؤلفاته بالفرنسية والإنكليزية والفارسية. ولكنه كان أيضًا يتحدَّث ويقرأ بالألمانية والسنسكريتية والروسية. وكلُّ شخص كان يزور منزله في الأعوام الأخيرة من حياته، كان يدخل متحفًا خاصًا للأديان العالمية. ومع ذلك فإنَّ هذا المنزل كان في مدينة لا يتوقَّع المرء أنَّ يجد فيها مثل هذا التوفيق بين الأديان، ومثل هذا الانفتاح على العالم - أي العاصمة الإيرانية طهران.

المفكر الإيراني (الفرنسي) داريوش شايغان.  Foto: IBNA
Ein Kosmopolit von Gottes Gnaden

 

في منفًى داخلي

بعد أن تم إبعاده من وطنه إيران في عام 1979 بسبب الثورة الإسلامية، عاد في عام 1991 المفكِّر والباحث المختص في الدراسات الدينية، شايغان إلى طهران، لأسباب ليس آخرها إنقاذ مكتبته. وعلى الرغم من أنَّه كان يعيش فيما يشبه المنفى الداخلي في طهران، إلَّا أنَّه كان واحدًا من الشخصيات القليلة التي كانت تشكِّل جسرًا بين نظام الملالي ونظام الشاه.

شايغان هو صاحب فكرة حوار الحضارات، الذي تم إطلاقه بمؤتمر عُقِد عام 1977 في عهد الشاه، ومن ثم أعيد إحياؤه في عهد الرئيس الإصلاحي خاتمي. لقد تم تتويج مبادرة شايغان حينما أعلنت الأمم المتَّحدة أنَّ عام 2001 هو عام الحوار بين الحضارات.

من المعروف أنَّ حلم المصالحة السلمية القائمة على أساس الاحترام المتبادل قد انتهى مع هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2011. ولكن مع ذلك فإنَّ تحليلات شايغان القاسية للعدمية السائدة في الغرب وكذلك في المجتمعات الآسيوية قد اكتسبت بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر أهمية أكثر بكثير من ذي قبل.

ومع ذلك لم يكن شايغان فقط عالم اجتماع، بل كان فيلسوفًا وباحثًا مختصًا في العلوم الدينية - كانت تفصله عوالمُ عن النظرية العصرية ما بعد الاستعمارية، التي لا تريد معرفة أي شيء عن الأعماق الثقافية والدينية للمجتمعات المُستعمَرة.

كان منظور شايغان مختلفًا تمامًا: فبعد إكماله التعليم المدرسي في إنكلترا وسويسرا، بات يشعر بالحاجة إلى معرفة ما تبقى من إسناد وموقف ومن قوة مقاومة وكرامة في الإسلام بعد التقليد السطحي للغرب.

النظر أبعد من حدود إيران

وبما أنَّ هذه الأسئلة كانت تنطبق على جميع المجتمعات الآسيوية، فقد سارع شايغان في النظر إلى ما هو أبعد من حدود إيران، وأيضًا إلى الهند والصين واليابان. لقد تعلـَّم اللغة السنسكريتية وأبرز في العديد من الدراسات أوجه التشابه والارتباطات، التي منحت المنطقة الآسوية استمراريةً روحيةً وقاسمًا مشتركًا حتى قبل المواجهة مع الغرب.

من المفارقات العجيبة أنَّ شايغان قد وجد أفضل الإجابات في الغرب نفسه، حيث كان السؤال حول دور التقليد والروحانية في مواجهة المادية والعلمانية قد تم طرحه في مرحلة أقدم بكثير. ومثل الكثيرين من المفكِّرين الآخرين في العالم الإسلامي، فإنَّ شايغان لم يتبنَّى فقط أفكار غوستاف يونغ وهايدغر والفلسفة الوجودية، بل أيضًا أفكار باحثين في علوم الدين مثل رودولف أوتو أو الفرنسي المختص في الدراسات الإيرانية هنري كوربان. وأصبح جزءًا من حركة فكرية كان قوامها "الفلسفة الخالدة"، وهي أساس روحي مشترك لجميع البشر، وقد وضع الأساس للحوار بين الحضارات.

 

 

هذه الفكرة تبدو اليوم قديمة، بالإضافة إلى أنَّ اسم "الفلسفة الخالدة" أصبح اسمًا لموقع إلكتروني معادٍ للإسلام - وهذا مثال صارخ للتلاعب اليميني الجديد في التسميات. غير أنَّ أعمال شايغان تُظهر الإمكانيات التي لاتزال متأصِّلة في هذه الفكرة، خاصة حينما يتم ربطها بالتحليل النفسي وما بعد البنيوية، مثلما هي الحال في كتابه الأخير الأساسي "النور يأتي من الغرب" (La lumiere vient de l’Occident).

في هذا الكتاب يتم ربط الصوفيين المسلمين مثل ابن عربي والسهروردي وكذلك الحكيم الصيني تشوانغ تزو مع الفيلسوف التنويري الفرنسي دنيس ديدرو وأيضًا مع نظرية الجذمور [التشعُّب] للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. ومثلما هي الحال مع شبكة الجذور في بعض النباتات، فإنَّ كلَّ فكرة ذات معنى ترتبط بالعديد من الأفكار الأخرى في وقت متزامن - تمامًا مثل المحلات التي تُلبِّي مختلف الاحتياجات الروحية في شارع فينيسيا بيتش في لوس أنجلوس.

تتمثَّل المهمة في إدراك هذا التزامن والاستفادة من إمكانياته. غير أنَّ هذا لا يمكن أن ينجح إلَّا عندما يتم تطبيق "علم الميزان" (مثلما يُسمى لدى الصوفيين العرب): وهذا يعني عندما تتم إعادة الأمور المادية والروحية إلى توازنها.

 

 

شتيفان فايدنَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2018

ar.Qantara.de