أرمن لبنان...القومية تأتي قبل الدين

إحياء للذكرى المئوية لمجازر الأرمن، خرج آلاف اللبنانيين الأرمن في مسيرة إلى الشوراع شمال بيروت. بالمقابل حمل سكان طرابلس أعلام تركيا تضامنا مع أنقرة.
إحياء للذكرى المئوية لمجازر الأرمن، خرج آلاف اللبنانيين الأرمن في مسيرة إلى الشوراع شمال بيروت. بالمقابل حمل سكان طرابلس أعلام تركيا تضامنا مع أنقرة.

بين 140 ألفا و160 يتراوح تعداد الأرمن في لبنان. لهم ميزاتهم في نظام يُوزع الحصص الوزارية، النيابية والإدارية على طوائفه. في "بلاد الأرز" معالم أرمنية روحية، وثقافية، ويتشاركون مع بقية اللبنانيين العادات والتقاليد، وحتى فنون الطبخ. خلدون زين الدين يسلط الضوء لموقع "قنطرة" في هذا التقرير على واقع أرمن لبنان لمناسبة مئوية الإبادة الأرمنية.

الكاتبة ، الكاتب: خلدون زين الدين

نحن الآن في الباحة الداخلية لـ"كاثوليكوسية بيت كيليكيا" في انطلياس، شمال بيروت. تُسرع "كارولين" الخطى. بيدها وردة بيضاء، سترة سوداء على كتفيها، ونظارات شمسية لا تحجب علامات تأثرها عند النصب التذكاري لشهداء الإبادة الأرمنية 1915... تبدو الصورة جلية، للمكان رمزيته؛

ورود وأكاليل مستلقية أرضاً. شموع كثيرة مرصوفة فوق بعضها البعض عشية إحياء مئوية الذكرى. تضيء السيدة الأرمنية شمعتها، وتستعجل الرحيل: "أنا في طريقي إلى يريفان -تقول- وكان لا بد أن أصلي هنا. عذرا دهمني الوقت"، وتكمل مسرعة.

على بعد أمتار قليلة من زهرة "كارولين"، لهيب نار، ومجسم زجاجي يحوي عظاما يحفظها النصب كدليل على ما ارتكب من مجازر. في الجوار أيضا المقر البطريركي الأرمني، تقابله كنيسة ومدفن للبطاركة. كل المعالم هذه تحتضنها "كاثوليكوسية بيت كيليكيا". هي بمثابة مركز الإستقطاب الروحي الأبرز لأرمن الشتات.

حضور روحي في "بلاد الأرز"

الكاثوليكوسية وإن كانت الأبرز الا أنها ليست المقصد الروحي الوحيد للأرمن في لبنان والعالم؛ ففي بلدة بكفيّا دير أرمني، كما أن هناك ديرا أرمنيا ضاربا بجذوره في عمق التاريخ، هو "دير بزمّار" ويعود للعام 1749، بناه وقتذاك البطريرك أبراهام أرزييان وهو شاهد على حقبة مهمة من تاريخ الأرمن، إذ لعب دورَ العرّاب في عمادهم اللبناني، وهم مُشيد قبل الإبادة بعشرات السنين.

مقر البطاركة الارمن في بيروت.  تصوير خلدون زين الدين ، انطلياس 22 ابريل 2015
يحظى وجود الأرمن في لبنان بامتيازات رعاها النظام الطائفي؛ فلهم ستة نواب في المجلس النيابي، ووزيران (إذا كانت الحكومة مشكلة من أربعة وعشرين وزيرا وما فوق) أو وزير إذا كان عدد الوزراء أقل من 24 وزيرا، إضافة الى مناصب في الإدرات العامة تماما كإمتيازات بقية الطوائف في الفسيفساء الطائفية اللبنانية.

ليس غريبا أن يكون للأرمن في "بلاد الأرز" هذا الحضور الروحي والثقافي. فلبنان، كان من بين الدول التي "إستقبلت الأرمن الهاربين من المجازر العثمانية. كان ذلك قبل نحو خمسة وتسعين عاما، تحديدا ما بين العامين 1920 و1921"، على ما تقول فيرا يعقوبيان، المديرة التنفيذية للهيئة الوطنية الأرمنية في الشرق الأوسط لـ "قنطرة". لا إحصاءات دقيقة حول تعدادهم  تقول، لكنها تستند إلى لوائح الشطب الجديدة لتُبيّن أن "الأرقام تتراوح ما بين 140 و160 الفا". وقد سعى الأرمن جاهدين للحفاظ على لغتهم وهويتهم القومية، ولولا ذلك "لما حافظنا على وجودنا"، تؤكد.

100 عام مضت على حوادث الـ 1915.  "أرمن الشتات، وبينهم طبعا اللبنانيون، ما زالوا متمسكين -وبإصرار أكبر- بمطالبتهم أنقرة بالاعتراف بالمجزرة وإعطائهم حقوقهم"، تقول يعقوبيان.  أكثر من اثنتين وعشرين دولة إعترفت بالابادة. والمسألة اليوم إختلفت عما كانت عليه في الماضي. "المئوية" برأيها تشكل منعطفا تاريخيا، تماما كما كانت الذكرى الخمسين: و"قتذاك في العام 1965 بدأ العالم يسمع بالقضية الارمنية. الآن، البابا فرنسيس وصف الجريمة بأنها الإبادة الأولى في القرن العشرين، أقرها أيضا للمرة الثالثة البرلمان الأوروبي كإبادة جماعية، وهناك موقف مشابه صدر عن الخارجية الاميركية، التي طالبت تركيا بأن تتصالح مع تاريخها حتى تستطيع أنقرة، أرمينيا والعالم العيش بسلام (...)".

تتابع يعقوبيان أن إبادة العام 1915 ما زالت مستمرة حتى اليوم "لأننا نعتبر أنه كلما مرت فترات زمنية وأضاع أي أرمني هويته فهذه إبادة بحق الشعب الأرمني الذي سلخ عن أرضه (...)".

برأي يعقوبيان، "الشعب الارمني بات مهيأ للانتقال إلى مرحلة المطالبة بحقوقه الشرعية وليس فقط المطالبة بالاعتراف التركي. على أنقرة التعويض على شعبنا كل خسائره المادية والبشرية". 

100 عام مضت على الإبادة الجماعية الأرمنية. "الإستراتيجية الأرمنية متماسكة، ما يتغير هو التكتيك المُنسجم مع الظروف الدولية والإقليمية"، تقول المديرة التنفيذية للهيئة الوطنية الأرمنية،  فـ"حتى العام 1990 كان الشتات هو الوحيد الذي يطالب، أما اليوم وبعد العام 1990، باتت أرمينيا كدولة هي الممثل الشرعي للشعب الأرمني وهي تمثلنا في ملاحقة القضية، خصوصا وأن الملف وضع على جدول أعمال الخارجية الأرمنية".

إمتيازات... ونظام طائفي

إحياء للذكرى المئوية لمجازر الأرمن
"مئوية الابادة" الأرمنية: الجدل الحالي حول مسؤولية تركيا تجاه الضحايا الأرمن يتسم ببعده السياسي البحت وتجاهله للأبعاد الأخلاقية والحضارية.

يحظى وجود الأرمن في لبنان بامتيازات رعاها النظام الطائفي؛ فلهم ستة نواب في المجلس النيابي، ووزيران (إذا كانت الحكومة مشكلة من أربعة وعشرين وزيرا وما فوق) أو وزير إذا كان عدد الوزراء أقل من 24 وزيرا، إضافة الى مناصب في الإدرات العامة تماما كإمتيازات بقية الطوائف في الفسيفساء الطائفية اللبنانية.

ويتركز وجود الأرمن في منطقة المتن الشمالي (برج حمود، أنطلياس ومنطقة الزلقا) إضافة إلى العاصمة بيروت وعنجر، وبأعداد قليلة في صيدا (جنوب) وصور. هم أنشأوا على مر السنوات، إضافة الى الأديرة، مدارس وجمعيات ونواد ثقافية ورياضية، ولعل جامعة هايكازيان في بيروت هي الوحيدة كجامعة أرمنية خاصة بأرمن الشتات على صعيد العالم.

ويحرص الأرمن على إستخدام اللغة الارمنية في يومياتهم، تعاملاتهم، وحتى أسماء محالهم التجارية، كما هو الحال مثلا في منطقة برج حمّود. هنا تترافق الأرمنية كلغة مع العربية، لكن رغم تمسكهم بلغتهم فهم "ضمن المجتمع اللبناني لبنانيون بالدرجة الاولى"، على ما تقول لارا مغردشيان وتوافق عليه كارولين كالفايان. تؤكد الشابتان الأرمنيتان أن "اللغة الارمنية بمثابة اللغة الام لنا، طبعا الى جانب العربية ولغات أخرى تعطينا غنا ثقافيا مهما".

"القومية بالنسبة للأرمن تأتي قبل الدين"، تقول فيرا يعقوبيان، "نحن أرمن قبل أن نكون مسيحيين (...)". يؤكد ذلك أيضا جان بابيكيان، وهو أرمني خمسيني، يقول إنه "ليس عيباً إن أحب ارمينيا، فمن لا ماضي له لا مستقبل له، لا هوية ولا تاريخ".

في لبنان الأرمن الكاثوليك، الأرمن الأرثوذكس والإنجيليين، ولهم ثلاثة أحزاب هي: حزب الرامغفار، الطاشناق والهنشاك.

عادات الأرمن وتقاليدهم لم تتأثر بترحيلهم القسري من بلدهم الأم، فهم يحتفلون مثلا باستقلال أرمينيا في 28 ايار/مايو، وبعيد "الفارتان" الذي توارثه الأرمن عبر آلاف السنين، أي ذكرى حربهم مع الفرس في عام 451 م، وغيرها من المناسبات.

حالة إندماج تامة تميز علاقة الأرمن ببقية اللبنانيين. يقول جان بابيكيان، ضاحكا: "تعلمت التبّولة والكبة وورق العنب، وتشاركنا بعض المأكولات الارمنية كالسجق والبسترما". المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، فالإندماج يطال أيضا الاعمال الفنية، والحرف...

...100 عام على الابادة.

 الكل في الداخل الأرمني، والشتات يحيي الذكرى. العناوين العريضة تجمع. المطالبة بالاعتراف التركي نقطة مركزية، والتشكيك بسياسات الرئيس التركي قائم، "بعد توقيع إتفاق زيورخ العام 2009 وتملص أنقرة منه لأسباب سياسية". الأكيد أن الأرمني اللبناني يتمسك بهويته الارمنية كما بلبنانيته. يستعيد بعض الأرمن كلاما للبطريرك السابق يوحنا بطرس الثامن عشر كسباريان، من قال يوما إن  "لبنان هو الوطن الذي لا بديل منه وصيغة تعايشه لا غنى عنها، مهما كبر الإغراء الخارجي وتعاقبت المصاعب".

 

 

خلدون زين الدين

قنطرة 2015