
كتاب "تجليات السيرة النبوية عبر العصور"كيف روى المسلمون سيرة صور نبي الإسلام محمد؟
يروي لنا المؤرخ الفلسطيني طريف الخالدي في كتابه "أنا والكتب" علاقته بالكتب والأفكار. ومن بين اللحظات التي يقف عندها لحظة تعرفه على كتاب ميشيل فوكو "أركيولوجيا المعرفة". ويعترف بأنه فهم منه عندما قرأه للمرة الأولى حوالي عشرة في المئة فقط، لكن تلك النسبة الضئيلة كانت كافية لإحداث تأثير عميق في فهمه لتاريخ الفكر.
وانطلاقا من سؤال فوكو "ما الذي يجعل النص ممكنا؟" سيرى الخالدي أنّ على المؤرخ التنقيب المستمر عن علاقة النص بالخطاب المحيط به، ما يجعل المؤرخ أقرب إلى عالم آثار ينقب في طبقات مختلفة من أرض ما.
ستتبلور هذه الرؤية بشكل واضح مع كتابه المرجعي "كتابة التاريخ عند العرب"، الذي حاول من خلاله إعادة وضع المؤرخين المسلمين ضمن السياقات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي كتبوا فيها، من خلال تقسيمه لهذه السياقات إلى ما سماه بالقبب.
فجل المؤرخين حتى أيام الطبري تقريبا كانوا تحت قبة الحديث، بمعنى أنّ آفاق الحديث ومنهجيته هي التي حددت في تلك الآونة شكل التاريخ ووظيفته ومغزاه. لاحقا سنكون أمام قبة الأدب، التي كتب تحتها مؤرخون كاليعقوبي والمسعودي، ومن ثم قبة الحكمة، وأخيرا قبة السياسة. ومن خلال هذه التقسيمات حاول الخالدي القول إن المؤرخين في الحضارات والأزمنة كافة، غالبا ما يستمدون تحليلاتهم النظرية من المناخات الفكرية السائدة في زمانهم.
ألف سيرة وسيرة
وبالعودة إلى كتاب "أنا والكتب" كان الخالدي وهو يكتب تفاصيل من ذكرياته وعلاقته بالنصوص والمكتبات، قد وصل إلى قناعة فرجينيا وولف التي ترى أن المرء قد يكون لديه ما يربو على ألف سيرة وسيرة، لكن يبدو أنّ هذه الرؤية لم تتشكل لديه خلال تدوين جزء من ذكرياته، وإنما هي قناعة أخذت تتشكل لديه وهو يقرأ في حياة الناس في العالم العربي في الحربين العالميتين، إذ سيكتب يومها خلال تقديمه لكتاب "دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام" تحرير عصام نصار وسليم تماري، أنّ السيرة الجديدة لم تعد تتحدث عن «سيرة فلان» بل هي «اختراع فلان». ولعل هذه الرؤية ستتبلور بشكل أكثر وضوحا في كتابه «صور محمد» الذي حاول من خلاله الإجابة عن سؤال كبير: كيف روى المسلمون سيرة النبي العربي؟
كان الخالدي قد أصدر كتابه عن النبي في عام 2009، ومما يذكره عن ذاكرة تأليفه، أنّ أحد الناشرين اقترح عليه كتابة سيرة للنبي العربي، فتهيب الأمر واقترح في المقابل كتابة تاريخ لكتابة السيرة، خاصة أنّ الخالدي يجيد الطوفان في عالم المؤرخين المسلمين ونصوصهم، ولذلك ذهب نحو رسم خريطة لهذا التراث الكتابي، وأيضا التعرّف على التواريخ الثقافية والاجتماعية التي كانت تحيط بكتابة السيرة النبوية، وكيف تسرّبت هذه التواريخ إلى نصوصهم.
فالسيرة النبوية، في رأي البعض، هي سيرة جامدة رسمت خطوطها العريضة منذ زمن سحيق، لكن هذا الرأي لن يصمد مع الخالدي، إذ سنكتشف معه أنّ الأجيال المتعاقبة صاغت لأزمانها سيرا نبوية متعدد بما يلائم تطلعات تلك الأزمنة، وإضافة إلى هذا التأثر بفكرة وولف عن «ألف سيرة وسيرة«، فإنّ الخالدي يذكر أيضا في كتابه «أنا والكتب» أنّ كتاب مؤرخ المسيحية المبكرة ياروسلاف بليكان بعنوان «يسوع عبر العصور ومكانته في تاريخ الحضارة» كان من أهم ما استلهمه من كتب في هذا المجال.

بعد صدور كتاب الخالدي عن النبي محمد، ظل العديد من القراء العرب ينتظرون فرصة الاطلاع عليه، وهذا ما يبدو أنه سيتحقق مع انتهاء منشورات الجمل من ترجمته (يصدر قريبا) تحت عنوان «تجليات السيرة النبوية عبر العصور» بترجمة أزدشير سليمان.
سيبدو الكتاب في مقدمته، وكأنه قد ألِّف للقارئ الغربي. وهذا ما يعترف به الخالدي، خاصة أنه يخصّص الصفحات الأولى للحديث عن الخطوط العامة التقليدية للسيرة، لكن ما أن نعبر الأبواب الأولى حتى نكتشف أننا أمام نص ورحلة فكرية مشوقة. وفي هذه الرحلة سنتعرف على تواريخ ثقافية كانت تحيط بكتابة السيرة النبوية. يرى الخالدي أنه يمكن لكاتب السيرة أن يقسم حياة أبطاله إلى ثيمات، مثل السياسي، الكاتب، المصلح، أو أن يجمع كلا الاستراتيجيتين.
لكن مهما كانت الاستراتيجية المعتمدة، يبقى السؤال ما الذي كان عليه حقا، وهل الحياة مرتبة إلى حد يمكننا رسمها كمنحى بياني. وبالانتقال إلى موضوعه، تبدو سير النبي محمد المبكرة للقارئ المعاصر غير منظمة ومشوشة، كما قد يرغب لها أي من قراء فرجينيا وولف، ولذلك سيقترح علينا وضع الكم الكبير من السير التي كتبت ضمن حقب تاريخية؛ وهنا يبدو أنّ الخالدي يقرّ، كما أقرّ جاك لوغوف، من أنّ منهج الحقب أحيانا لا يمكن الأخذ به بحذافيره، لكنه يصلح لفهم أفضل للتاريخ الثقافي للسيرة النبوية.
.................
طالع أيضا