تجارب عراقيات شخصية مرآة لأحداث العراق السياسية

من عهد صدام حسين والحصار بعد حرب الكويت إلى الاجتياح الأمريكي البريطاني للعراق مرورا بحرب أهلية بين السُّنة والشيعة وحتى خلافة داعش المزعومة واحتجاجات ساحة التحرير في بغداد. أحداث نراها في أعمال كاتبات عراقيات شعرية ونثرية مجموعة في كتاب يستعرضه الصحفي الألماني كريستوفر ريش لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Christopher Resch

إنَّ مَنْ يتغلب على النظام التسلطي الذكوري لن يدع فيروس كورونا يُعيقه. ذلك لأنَّ قيام الكاتبات العراقيات الثلاث والصحفية الألمانية (المقيمة في بغداد) بجولة قراءة في ألمانيا يعتبر بمثابة حدث مثير نوعًا ما بالنظر إلى تفشِّي الجائحة: الشاعرة والمترجمة أمل إبراهيم والكاتبة والصحفية أزهار علي حسين وطالبة الدكتوراة رولا براق وبيرغيت سفنسون - عرضن (في ألمانيا) الجزء الثاني من مختاراتهن "عيون إنانا" - وهي نافذة رائعة للغاية تطلّ على العراق بعيون نسائية فقط.

يضم الجزء الثاني من كتاب "عيون إنانا" تسع قصص قصيرة وسبع عشر قصيدة لكاتبات معروفات، بالإضافة إلى ستة نصوص لكاتبات ناشئات. هؤلاء الاثنتان والثلاثون كاتبة ينحدرن من جميع أجزاء العراق كما أنهن من خلفيات سنِّية وشيعية وكردية ومسيحية.

وهذا بالذات ما يجعل هذا الكتاب جديرًا بالقراءة، مثلما تقول المُبادِرة في تحريره بيرغيت سفنسون: "كلُّ امرأة منهن عايشت وشاهدت أشياء مختلفة تمامًا".

ولهذا السبب فإنَّ العنوان مناسبٌ تمامًا؛ إذ إنَّ إنانا -إلهة الحرب والحبّ والخصوبة والدمار السومرية الشهيرة- هي أيضًا متناقضة ومُتعدِّدة الأوجه، بحسب تعبير بيرغيت سفنسون: وإينانا حاربت مع والدها من أجل السلطة في أوروك القديمة - وانتصرت كامرأة. إنَّ تصوير منحوتة الإلهة إنانا العارية على غلاف الكتاب مثَّل حدثًا مثيرًا في المجتمع العراقي المحافظ، مثلما تقول بيرغيت سفنسون.

"النساء ساهمن مساهمة كبيرة جدًا في التغييرات الحاصلة في العراق المعاصر"، مثلما تقول أمل إبراهيم، وهي شاعرة ومترجمة تعيش في بغداد شاركت في تحرير هذا الجزء وكانت مشاركة أيضًا في الجزء الأوَّل من "عيون إنانا"، الصادر في عام 2013 باللغة العربية ثم صدرت ترجمته الألمانية في عام 2015.

"يمكن ملاحظة التغييرات في كلِّ مكان، ليس فقط في الأدب، ولكن بالواقع في جميع قطاعات المجتمع"، على حدّ تعبير أمل إبراهيم: وقوف النساء في وجه مختلف أنواع القمع المنهجي في العراق -الذي يُهَيْمن عليه الذكور- كان واضحًا خاصةً في ساحة التحرير ببغداد.

 

    كاتبات عراقيات في الجزء الثاني من كتاب "عيون إنانا": أمل إبراهيم  وَ أزهار علي حسين وَ رولا براق. . (Foto; Birgit Svensson)
Ein anderes Bild des Alltags und der gelebten Realität im heutigen Irak: Einige Gedichte und Kurzgeschichten sind ein Aufschrei gegen die religiöse und patriarchalische Gesellschaft, die sich in jüngster Zeit wieder verfestigt hat und die Freiräume der Frauen einschränkt. Die Lebenswirklichkeit des Irak scheint in vielen der hier vorliegenden Texte durch.

 

احتجاجات على التدخُّلات الخارجية

هناك في ساحة التحرير، تتظاهر منذ أكثر من عام العراقيات والعراقيون من أجل مستقبل أفضل. تقول أزهار علي حسين إنَّ الاحتجاجات يقوم بها ناشطون وناشطات أغلبيَّتهم من الشباب، وأيضًا عراقيون من جميع الأجيال يتجاوزون الحدود الطائفية والاجتماعية.

"نحن نتظاهر بطبيعة الحال أيضًا من أجل المزيد من فرص العمل والوظائف وآفاق مستقبلية أفضل، مثلما تضيف الكاتبة والصحفية التلفزيونية أزهار علي حسين القادمة من بغداد: "لكن مطالبنا أعمق من ذلك. فنحن نطالب بأن تصبح الدولة أخيرًا قادرة على العمل والدفاع عن نفسها ضدَّ التدخُّل الإيراني والسعودي".

صحيح أنَّ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أعلن منذ توليه منصبه في شهر أيَّار/مايو 2020 عن نيّته بذل جهود كبيرة، وأنَّه يريد التصدِّي للنفوذ الإيراني ويرد بالتالي البدء في تجفيف مستنقع الفساد - وهذا عملٌ سِيزِيفِيٌّ ليست له نهاية.

ولهذا السبب فإنَّ الكاظمي يحظى من دون شكّ بتعاطف بين الثائرين في ساحة التحرير؛ ولكن مع ذلك، توجد عمليَّات اختطاف وإطلاق رصاص وعنف: "يتم فعل كلّ شيء لكي تموت الاحتجاجات"، مثلما تقول بيرغيت سفنسون. والفاعلون معظمهم ينتمون إلى صفوف المليشيات الشيعية.

من المفترض وجود نحو ثلاثين ميليشيا من هذه الميليشيات المتَّحدة بشكل مستقل تحت مظلة الحشد الشعبي. وهذه وغيرها من "قوَّات الحشد الشعبي" كانت موجودة بالفعل في عهد صدام حسين وازدادت تشكيلاتها بشكل أقوى بعد الغزو الأمريكي في عام 2003.

وفي عام 2017، نجحت قوَّات الحشد الشعبي في دحر تنظيم داعش وكان من المُفترض بعد ذلك أن يتم دمجها في قوَّات الأمن العراقية. ولكن هذه الميليشيات في الواقع تخضع بشدة لإيران، التي تقوم بتدريبها وتدفع لها رواتبها وتريد أخيرًا أن تكون بمساعدتها الآمر الناهي في العراق.

نصوص أدبية من الموصل المعقل السابق لداعش

لقد عاشت رولا براق بنفسها عهد الرعب والإرهاب خلال حكم ما يُسمى بالدولة الإسلامية. وهي الأصغر من بين الكاتبات الثلاث اللواتي سافرن إلى ألمانيا وتقوم حاليًا بتحضير أطروحة دكتوراه حول الأدب العربي في مدينتها الموصل - كانت معقل متطرِّفي داعش داخل العراق.

حكم تنظيم داعش هناك من عام 2014 وحتى عام 2017. وبما أنَّ أية محاولة للهرب كانت تتم معاقبها بالموت أو بأبشع أشكال الانتقام من أسرة الشخص الهارب، فلم يكن أمام رولا براق خيارٌ آخر سوى بقائها في المدينة. وحول ذلك تقول: "لقد كان أسوأ شيء هو الارتياب والشكّ. لم يكن يُعرف كم سيستغرق كلُّ هذا وإن كان سينتهي أصلًا".

صحيح أن تنظيم داعش انهزم عسكريًا، ولكن مع ذلك يوجد عدد كبير من الأطفال، الذين تم تلقينهم وتعرَّضوا لصدمات عميقة، مثلًا من خلال عمليات الإعدام العلنية، مثلما تقول رولا براق، وتضيف: "يجب أن نقلق على مستقبل هذه المدينة". غير أنَّ شبكة نساء "إنانا" تمثِّل - بحسب تعبيرها - بصيص أمل: اليوم تعمل النساء في وظائف قيادية داخل المجتمع المدني في الموصل.

وفي هذا الصدد تقول بيرغيت سفنسون إنَّ هذا الأمر كان حتى ذلك الحين مستحيلًا تمامًا هناك - وحتى قبل سيطرة تنظيم داعش على السلطة كانت الموصل تعتبر مدينة محافظة للغاية: "في الجزء الأوَّل (من الكتاب) لم تكن معنا أية كاتبة من الموصل، أمَّا الآن فتشارك معنا ثلاث كاتبات".

والكتابة لا تتيح فقط لكلِّ امرأة بمفردها فرصة للتحرُّر من الهياكل القديمة التي عفا عليها الزمن، بل تمكِّن النساء أيضًا من النهوض على المستوى الجماعي.

بروح الدعابة والحيوية

 

غلاف الجزء الثاني العربي والألماني من كتاب "عيون إنانا - نصوص لكاتبات عراقيات معاصرات"، تحرير أمل إبراهيم النصيري وبيرغيت سفنسون، ترجَمَهُ إلى الألمانية شتيفان ميليش وغونتر أورت. Verlag Schiler & Mücke, 2020.
دخلت كاتبات الجزء الثاني من كتاب "عيون إنانا" مرحلة جديدة من الكتابة. تعكس الكاتبات الشابات صورة عن حياتهن اليومية والواقع المعاش في العراق اليوم - صورة مختلفة تمامًا عما تعكسه زميلاتهن الأكبر سنًا. الآن بات ينصبّ التركيز على التعامل مع الدين والمتطرِّفين الدينيين وموجة اللاجئين إلى أوروبا. صدرت الترجمة الألمانية للجزء الثاني من كتاب "عيون إنانا"، الذي يحتوي على مجموعة مختارات رائعة من كاتبات عراقيات يعرضن في نصوصهن الشعرية والنثرية التحوّل في العراق من عهد صدام حسين إلى الاحتجاجات في ساحة التحرير ببغداد.

 

تُشدِّد رولا براق على أنَّ مصير الإيزيديين أثَّر بشكل خاص في الناس خلال فترة خلافة تنظيم داعش. وقصة قمعهم واضطهادهم لها تقاليد حزينة وطويلة حتى محاولة إبادتهم إبادة جماعية من قِبَل تنظيم داعش.

لقد عانت النساء الإيزيديات بشكل خاص؛ حيث تعرَّضن في كثير من الحالات للاستعباد والاغتصاب ولسوء المعاملة. رولا براق في قصيدة لها منشورة في الجزء الثاني من كتاب عيون إنانا بعنوان "نمط" [العنوان مُترجم عن الترجمة الألمانية] كتبت ما معناه: "الحرب لا تنتهي برحلة قصيرة، بتضحية، بخسارة".

تصف مساهمة أزهار علي حسين المنشورة في الكتاب تحت عنوان "فاترينا" مواقفَ تسمح على الرغم من كلِّ حزنها ومرارتها أيضًا بظهور روح الدعابة والحيوية لدى العراقيين. وأمل إبراهيم تحكي في قصيدتها "سير ذاتية" حول البراءة وكذلك حول جراح الطفولة في العراق.

صدام حسين والحصار بعد حرب الكويت والغزو الأمريكي البريطاني في عام 2003 وكذلك الحرب الأهلية بين السُّنة والشيعة وأخيرًا خلافة تنظيم داعش - أعمال هؤلاء الكاتبات الشعرية والنثرية تدمج كلَّ هذه الحِقَب، بحيث تنعكس الأحداث السياسية في مرآة تجارب النساء العراقيات الشخصية.

وهكذا نشأ مقطع عرضي من نصوص، على الرغم من أنَّها فردية للغاية ولكنها مع ذلك صالحة على نطاق واسع في مجمل وجهات نظرها، وهي بمثابة "وثيقة معاصرة من التاريخ العراقي الحديث"، بحسب تعبير معهد غوته المشارك في هذا المشروع.

وبينما تضمَّن الجزءُ الأوَّل من كتاب "عيون إنانا" أيضًا كاتبات عراقيات يعشن في المنفى، فإنَّ الجزء الثاني من هذا الكتاب بات الآن عراقيًا بحتًا: فجميع نصوصه كتبتها كاتبات يعشن ويعملن في العراق. وهذه بالنسبة لهن فرصة لمعالجة مشاعرهن وآمالهن وقلقهن.

تقول أمل إبراهيم إنَّ شبكة "عيون إنانا" باتت تمتد الآن إلى أعمق من ذلك بكثير، وتضيف أنَّ شبكة إنانا بدأت التبادل بين نساء العراق، ولكن الأمر لم يعد يتعلق بالكتابة فقط، بل بالمشاركة الفعَّالة وتشكيل المجتمع العراقي.

 

 

كريستوفر ريش

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

الجزء الثاني من كتاب "عيون إنانا - نصوص لكاتبات عراقيات معاصرات"، تحرير أمل إبراهيم النصيري وبيرغيت سفنسون، ترجَمَهُ إلى الألمانية شتيفان ميليش وغونتر أورت، صدر عن دار نشر شيلر وموكه، سنة 2020.

 

[embed:render:embedded:node:38254]