في فصل الكلاسيكيات وهو فصل شيق وممتع يتحدث الكاتب عن الكلاسيكيات العربية والغربية فإذا كان العصر الكلاسيكي في الأدب الفرنسي هو القرن السابع عشر فالأمر يختلف مع الأدب العربي فلكل أدب عصوره الأدبية، هل الكلاسيكيات في الأدب العربي هي المعلقات مثلا؟ أم شعر النقائض؟ أم شعر أبي تمام والبحتري ونثر بديع الزمان والجاحظ وابن المقفع ولا يفوته أن يسوق رأي ابن خلدون في حصر الكلاسيكيات الأدبية في زمنه في أربعة عناوين هي البيان والتبيين والكامل في الأدب والأمالي وأدب الكاتب.

ومع اختلاف تحديدات الكلاسيكية فإيطالو كالفينو يسوق جملة من التعاريف فالأدب الكلاسيكي هو الذي نقول إننا نعيد قراءته ولا نقول إننا نقرؤه أو هو الذي نقارن أنفسنا به ونعارضه أو هو الذي يدرس في الصفوف الدراسية، ولاشك أن الإبداع الحقيقي هو الذي لا نكف فيه عن محاورة الأسلاف ومعارضتهم.
فلزوميات المعري حوار مع شعر السلف وخروج عن المألوف في اعتماد أكثر من رأي واحد وخروج أبي تمام ومسلم بن الوليد على عمود الشعر حوار مع الكلاسيكيات الشعرية والشدياق أنجز حوارا مع نثر السلف وعارضه بترك السجع ممهدا لظهور النثر الحديث.
لا شيء يقتل السلف مثل نسيانهم وعدم محاورتهم وإهمال نتاجهم وهذا ما عناه بودلير بقوله: يعاني الموتى، الموتى المساكين من آلام كثيرة فليست المعاناة سوى إهمالهم وعدم الحوار معهم.
يقول عبد السلام بنعبد العالي في كتابه "قراءات من أجل النسيان" الصادر عن دار المتوسط 2021 (من جملة الاستدراكات التي يوليها كيليطو أهمية في كتابه تلك التي تعلق بأحدث عناوين كتبه وهو كتاب بحبر خفي حيث يكتب تبين لي ذات يوم وعلى حين بغتة أنه يمكن بأن يقرأ بحبر (بالفتح) والحبر هو كما نعرف هو المتبحر في العلوم ولا غرو أن تتم الإحالة على البحر بصدده، يكفي تبديل شكل حرف ليختلف معنى العنوان بل معنى الكتاب بكامله، لم أكن واعيا بذلك كنت غافلا تماما عن الحبر وعن البحر لكن اللغة لا محالة واعية ودائما بالمرصاد تنتظر الفرصة والوقت المناسب للإفصاح عن المعنى المستتر).
هذا استدراك له مغزاه على فعل الكتابة والتأليف وقصة أخرى يرويها عن أكاديمية غربية راجعته حول حكاية نوم الثلاثة شهرزاد ودنيا زاد وشهريار في كتابه "أنبؤوني بالرؤيا "فكتب (تملكني غيظ شديد من نفسي ولمتها على التسرع وإلقاء الكلام على عواهنه والولع بالغرابة لدرجة أنني نسبت إلى النص ما لم يقله).
وهذا ندم معرفي آخر واعتراف بالخطأ، فإذا كانت الكتابة هي نسيان ما قرأناه لينصهر في عمق الذات لدرجة أننا لا نعود نعرف لمن قرأنا وماذا قرأنا، فالكتابة كذلك هي رحلة مع الخطأ والندم المعرفي على ما قيل وما لم يقل وقد أشار إلى ذلك العسقلاني منذ زمن بعيد.