سياحة فكرية في ربوع الثقافة المغربية

ما دعا الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة إلى الكتابة عن المغرب -كما يقول- ليس إلا رد دين في عنقه لساعات جميلة قضاها بين الكتب، فاسحا المجال لعقله ووجدانه للسياحة الفكرية والفنية في ربوع الثقافة المغربية، "ففيها من سمو الفكرة الفلسفية ما يضاهي قمم الأطلس ومن جميل الإبداع ما يحاكي جمال سهوله ومرابعه حتى إن "طنجة لتبكي على من لم يرها".

الكاتبة ، الكاتب: إبراهيم مشارة 

ما دعاني إلى الكتابة عن المغرب الشقيق إلا رد دين في عنقي لتلك الساعات الجميلة التي قضيتها بين الكتب، فاسحا المجال لعقلي ووجداني للسياحة الفكرية والفنية في ربوع ثقافته، ففيه من سمو الفكرة الفلسفية ما يضاهي قمم الأطلس ومن جميل الإبداع ما يحاكي جمال سهوله ومرابعه حتى إن "طنجة لتبكي على من لم يرها" كما تكرس ذلك في الأمثال عن السياحة، حيث يتناغم الجمال: جمال المكان وجمال الإنسان وجمال الذكريات.

مكان سامق في ساحة الإبداع العربي

وإذا التقى عند قدميه المحيط الأطلسي -بحر الظلمات كما أسماه العرب قديما- والبحر الأبيض -بحر الروم- فقد التقت الثقافات المختلفة على أرضه من  أمازيغية وعربية وغربية وسامية، فكان هذا الالتقاء الجغرافي صَنْواً [ونظيراً] للالتقاء الفكري، وفي عنق الحسناء يُستَحسن العقد كما قرر شاعرنا العربي الكبير قديما.

فالمغرب بجدارة وجه شمال إفريقيا المشرق ثقافيا وفكريا واقتصاديا، ولرب زاعم يزعم أن ذلك وليد اليوم أو أنها طفرة من الطفرات كتلك التي تحدث لبعض بلدان العالم اليوم في إفريقيا وآسيا غير أن الذي يتعمق في التاريخ والثقافة المغربية يدرك أن للمغرب جذورا ضاربة في أعماق التاريخ.

 

 

فذلك البلد الشقيق الذي نفي إليه المعتمد بن عباد -أحد ملوك الموحدين- من قبل يوسف بن تاشفين، ونظم في سجنه نغمات قصائده الغنائية الرقيقة التي تفيض حزنا ورثاء لمصيره ومصير عائلته، وزاره فيلسوف قرطبة ابن رشد كما زاره ابن باجة صاحب "تدبير المتوحد" وابن طفيل صاحب قصة "حي بن يقظان"، ومنه انطلق رحالة العالم ابن مدينة طنجة ابن بطوطة في تلك الرحلة التاريخية التي خلدت أدب الرحلات العربي  ثم ليون الإفريقي، يستحق اليوم أن يجد له مكانا سامقا في ساحة الإبداع العربي بل والريادة، فجامع القرويين في فاس ربما نافس الأزهر يوما، كما كان لابن آجروم قصب السبق في تقعيد النحو العربي.

يهود في رحاب مؤسسة الإسلام

هل يمكن القول إن المغرب هو الوارث الشرعي للإرث الأندلسي بعد نزوح اليهود والمسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة؟ من المفيد القول إن السياسة المغربية في تعاملها مع اليهود اتسمت بالحكمة والرشد، فهؤلاء اليهود المضطهدون في الأندلس وجدوا الترحاب والمعاملة الحسنة من قبل المغاربة، فمارسوا حياتهم دون إبهاض أو تضييق ومازالوا كذلك إلى اليوم، وهي بذلك صورة ناطقة للتعايش السلمي بين الأجناس في رحاب مؤسسة الإسلام.

وكان لهؤلاء اليهود إسهامهم في الثقافة والاقتصاد في المغرب إلى الحد الذي يرفض فيه الآلآف الهجرة إلى إسرائيل مادام وطنهم المغرب يعشون فيه بكل كرامة ومساواة وحرية.

إنها صورة أخرى للحياة في رحاب الأندلس أيام الحكم الإسلامي وذاك ما دعا آبا إيبان وزير خارجية إسرائيل السابق إلى القول: "إن اليهود عاشوا بكل كرامة وحرية مرتين في التاريخ، مرة مع المسلمين في الأندلس واليوم في أمريكا".

إذا كان المغرب مصهرا للتلاقح الثقافي العربي والأمازيغي والأندلسي فشأنه شأن الضوء تراه أبيض لكنه في الحقيقة سبعة ألوان،  ومن المفيد القول إن النظام السياسي حافظ على الوزن الثقافي للمغرب وشجع الثقافة ودعمها وتعهدها بالرعاية لذا وصل المغرب اليوم إلى المستوى الفكري والثقافي الحقيق بكل تقدير واعتبار.

 

 

المركزية المشرقية

من المفيد هنا الإشارة إلى تلك المماحكات والخصومات بين المشرق والمغرب فالمركزية المشرقية ترى في المغرب العربي كم الثوب تارة وذيل الطائر كرة أخرى، أي تسمه بسيماء التبعية وتنكر عليه الفرادة والإبداع والخصوصية وينسحب هذا على المغرب كما ينسحب على الأندلس عامة.

فمما يروى أن ابن عبد ربه لما ألف كتابه الشهير "العقد الفريد" وحذا فيه حذو التأليف في المشرق، فحشده بأشعار المشارقة وخطبهم فلما تأمله الأديب الصاحب ابن عباد قال جملته المشهورة: "ظننا فيه شيئا من أخبار بلادهم فإذا هو أخبار بلادنا، بضاعتنا ردت إلينا". إن هذا المنحى من ابن عبد ربه يعني اقتناع المغاربة -ونحن هنا نقصد المغرب ونضيف إليه الأندلس- بأن الشهرة وافتكاك المكانة الأدبية والجدارة لا تتحقق إلا بتقليد المشرق والسير على هداه.

غير أن هذا لم يدم قَطّ، فالجغرافيا وتنوعها والتماس مع أوروبا والجذر الأمازيغي سرعان ماوسم الشخصية المغربية بخصوصياتها الأمازيغية والإفريقية والمتوسطية في تفاعلها مع الثقافة العربية الإسلامية.

لعل الفلسفة أول ميدان لازدهار الفكر في المغرب ولعلها وريثة للفلسفة الأندلسية منذ أيام ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، فليس من البدع أن ترى محمد عزيز الحبابي يؤسس مذهب الشخصانية ولو تحامل عليه طه حسين وادعى عدم فهم مذهبه، ثم محمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي وما أثاره من توابع وزوابع في تقسيمه العقل العربي إلى عقل عرفاني وعقل برهاني وكان العرفان قسمة المشرق بينما البرهان هو قسمة المغرب (الأندلس)، ورأى بعضهم أنها قسمة ضيزى كما ذهب إلى ذلك جورج طرابيشي.

ثم نجد الآن اسما لامعا هو طه عبد الرحمن الفيلسوف الصوفي الذي له قدرة فائقة في نحت المصطلحات العربية الخالصة، وكأنه يسعى تطبيقيا لتأسيس فلسفة عربية لا تتنكر للوحي ولا تخاصم الفلسفة الغربية ولكنها لا تعتبر نفسها مجرد تلميذ لها أو تابع في أحسن الأحوال على الرغم من تهكم عبد الله العروي من مذهب طه عبد الرحمن وتسميته بالإشارة والكناية صاحب مذهب "اعلم أن".

ولا يمكن نكران جهود عبد الله العروي وإسهاماته الفكرية والفلسفية ذات الشأن الوطني والقومي وكم كانت سعادةً غامرة أن يكرس كرسي عبد الله العروي هذه الأيام في الجامعة المغربية، وهو ما يؤكد القيمة التي تعطى للمثقف المغربي من لدن الحاكم السياسي والمواطن المغربي، ولو أن عبد الله العروي في كثير من طروحاته ينتهي إلى كثير من الإجحاف في الحق الثقافي العربي، ولعل كثيرا من طروحاته تجاوزها الزمن وأثبت عدم صلاحيتها، ولكن لا ننكر جهود العروي في محاولة النهضة بالعقل العربي والدخول إلى معترك التاريخ من جديد من باب الحداثة الفكرية أولا.

 

 

قصب السبق في قضايا المرأة

في قضايا المرأة -وللمغرب قصب السبق في الدفاع عن حقوق المرأة ومساهماتها في التنمية الاجتماعية والسياسية والفكرية- لا يمكن القفز على جهود فاطمة المرنيسي وفي هذا هي تشبه نوال السعداوي وتختلف عنها كثيرا.

فهي أكاديمية في مجال عملها الذي يتسم بالتنظير والحكمة والموضوعية والروح الإنسانية منذ كتابها البديع "الجنس كهندسة اجتماعية" الذي فتحت فيه المجال أمام معاناة الأنوثة في المغرب في مجتمع ذكوري يلوي عنق النص لصالح مركزية الرجل وهامشية المرأة ودفاعا عن مصالحه الاستراتيجية، بدراسات تتلمس علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ والفقه، فهي بحق رائدة الدراسات النسوية في المغرب العربي.

 

 

وثبة فكرية متمردة على الطابع المدرسي

كما عرف الأدب المغربي الحديث منذ القرن العشرين وثبة فكرية تتمرد على الطابع المدرسي الذي يحتفي بما هو مشرقي ويتمرد على مقولة الصاحب ابن عباد بضاعتنا ردت إلينا، فالبضاعة المغربية ليست مشرقية البتة إنها إبداع مغربي فيه خصوصية الريف المغربي وجبال الأطلس، إنها حصيلة التلاقح العربي الأمازيغي في كدحه من أجل غد أفضل أمام كافة المثبطات، وللمغربي الحلم الذي ككل إنسان، وله خصوصياته التي تميزه عن كل إنسان.

لذا جاء الأدب المغربي أدباً خاصاً في همومه عربي في لغته، ولا يستثنى من ذلك الأدب المكتوب باللغة الفرنسية الذي مارسه إدريس شرايبي في "الماضي البسيط "، برغم الاعتراضات السياسية المغربية على هذه الرواية، وعبد الكريم غلاب من رواد المقالة في الأدب المغربي بمقارباته النقدية. وقد كان ازدهار الصحافة في المغرب بين صحافة فرنسية وعربية دافعا ومشجعا لازدهار الأدب، وغني عن البيان أن فن المقالة بالذات شديد الارتباط بفن الصحافة.  

لعل محمد شكري صاحب الأعمال التالية :"الخبز الحافي" و"الشطار" و"مجنون الورد" هو أيقونة الأدب المغربي. إن كثيرا من الكتاب العرب مروا بتجارب حياة شكري كعيسى الناعوري في الأردن مثلا وحنا مينة في سوريا، لكن خصوصية شكري هي الواقعية والبساطة والعفوية والصدق مع النفس ومع الحياة والاسترسال في الحكي الصادق والصادم عن الحياة الدنيا والمهمشة "حياة الحضيض" إلى درجة الصدام الأخلاقي والديني في صراحة البوح وصادميته، ومن عاش حياة شكري على ما فيها من سوداوية وعفن ووحل وشظف عيش ثم ما فيها من حلم ومن رغبة في الصراع بكل شرف مع الحياة وبطولة ثم هذا الإصرار على تثقيف الذات والمعرفة فلا بد أنه واجد قصة بطولية مدغمة في سيرورة تاريخية لبلد -من الحماية الفرنسية إلى الاستقلال- عبر شخص بسيط كُتِبَ له أن يكون أيقونة الأدب المغربي.

ولا يختلف محمد زفزاف عن شكري كثيرا في القيمة والعطاء والصدق مع النفس ومع الحياة وفي الحب الإنساني، غير أن زفزاف له جانب هو أقرب إلى الصوفية دون أن يتنكر إلى واقعيته بل كان الواقع في حضيضه هو ما يشغله. أليس الأدب كفاحا من أجل سعادة الإنسان ومساواته أمام أخيه الإنسان وخصوصا في وطن واحد ؟ أليس الأدب رسالة في الحياة من أجل الأفضل دون إكراه إيديولوجي أو دعاية سياسية تضليلية؟ لعل رواية " محاولة عيش" هي من أجمل ما كتب زفزاف، رغم الجدل الذي أثاره الإسلاميون حول قرار وزارة التربية بتدريس هذه الرواية في المرحلة الثانوية واعتراضهم عليها -بحجة منافاتها للآداب العامة- وهي معضلة عربية كبيرة حين يتولى الأصوليون تقرير ما يجوز وما لا يجوز في الإبداع والفكر.

 

 

وزفراف بلغته البسيطة الآسرة ولمحاته السردية العابرة التي لا تهتم بالتفاصيل بقدر ما تعتمد على التكثيف والمعاني الجمة الكامنة وراء العبارات هي صور حافلة بالمعضلة الإنسانية والمصير أمام واقع صعب يزحف أمام برد الواقع ووحله وعفونته، ولئن انتصرت الواقعية على المثالية في هذه الرواية فهي صدقية الأديب أمام نفسه وأمام العالم ولعله انتصار مؤقت فرضه جدل التاريخ الذي ينضح الواقع الخشن من مساماته، ولكن لا بأس فالصراع التاريخي وجدل الأفكار والأشياء يتطلبان الصبر والكفاح والتفاؤل والأمل.

وهل يمكن الاكتفاء بهذه الأسماء دون المرور بمحمد بنيس الشاعر الرقيق المبدع، والناقد الكبير محمد برادة وما أضافاه إلى ساحة النقد العربي، وعبد الفتاح كليطو الذي صار اسما لا معا في ساحة النقد العربي؟

تزدحم في رأسي الأسماء وتتاخم الذكريات الجميلة التي سرعان ما تتحول إلى وردات من كل الألوان ومن كل أريج، فتعطر أرجاء النفس وحنايا الروح بأريجها.

يسعى المغرب اليوم سعيا حثيثا إلى تنمية حقيقية في مجال الزراعة والصناعة والتجارة مع العالم، وهو يحقق نجاحا لا سبيل إلى نكرانه، كما يسعى سعيا حثيثا في مجال حقوق المرأة وحقوق الإنسان عامة معترفا بكل أخطاء الماضي ونقائصه، مما جعله بلدا عربيا رئدا أدبيا وتربويا وفلسفيا حقيقا بكل احترام ومودة واحتفاء.

 

إبراهيم مشارة

حقوق النشر: إبراهيم مشارة / موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

 

 

[embed:render:embedded:node:38704]

 

 

[embed:render:embedded:node:34129]

 

 

[embed:render:embedded:node:31817]

 

 

[embed:render:embedded:node:28461]