ليبيا ما بعد مؤتمر برلين: حرب يا غالب يا مغلوب

يعتبر المحلل السياسي الليبي فرج العشة أن مؤتمر برلين حول الحرب الليبية لم يغير من حقيقة غياب حل سياسي ينهي الحرب المحتدمة داخل ضواحي جنوب طرابلس. فهي ليست حرباً بسبب خلافات سياسية يمكن حلها بتقاسم مناصب السلطة في ليبيا ما بعد القذافي.

الكاتبة ، الكاتب: Faraj Alasha

أثمر مؤتمر برلين حول ليبيا عن وثيقة سياسية جاءت في 54 نقطة. وقبل طرح أي تساؤلات أو تحليلات، بشأن مخرجات المؤتمر ومألات تأثيرها الفعلي والعملي في حلّ الأزمة الليبية، ينبغي تشخيص الحالة الليبية كما أنتجها واقعها الداخلي الذاتي وتأثير التدخلات الخارجية فيها ما بعد مقتل الديكتاتور معمر القذافي.

بموت الديكتاتور، صاحب نظام الشخص الواحد، تبخر جيشه (الكتائب الأمنية) وشرطته ومؤسسات دولته المهلهلة. وإذا كان التدخل العسكري الجوي من خلال الناتو في ليبيا عملاً صائباً كما كان يعتقد الرئيس الأمريكي السابق أوباما، إلا أنه اعترف أن خطأه الأسوأ خلال فترته الرئاسية كان الفشل في التخطيط لمرحلة ما بعد سقوط نظام القذافي.

لا غرو أن توصيف أوباما صحيح إذ سقطت البلاد في الفوضى التي ولّدتْ، حسب تشخيص وثيقة مؤتمر برلين "انعدام الاستقرار في البلاد، والتدخلات الخارجية، والانقسامات المؤسسية، وانتشار كميات كبيرة من السلاح دون رقابة، واستمرار الاقتصاد القائم على السلب والنهب، يمثل تهديداً للسلام والأمن الدولي، حيث يوفر كل ذلك تربة خصبة للمهربين، والجماعات المسلحة، والمنظمات الإرهابية. وقد سمح ذلك أيضاً لتنظيمي «القاعدة» و«داعش» بالازدهار في الأراضي الليبية، وتنفيذ عمليات داخل البلاد وفي دول الجوار. كذلك يسّر حدوث موجة مسببة لعدم الاستقرار من الهجرة غير الشرعية في المنطقة، وتدهور كبير للوضع الإنساني. ونحن ملتزمون بدعم الليبيين في معالجة تلك المشكلات المتعلقة بالهيكل الحكومي والأمن."

غسان سلامة، المبعوث الأممي لحلّ النزاع في ليبيا
أعلن غسان سلامة، المبعوث الأممي لحلّ النزاع في ليبيا عن استقالته من مهامه، بسبب مشاكل صحية، حسب ما كتبه اليوم الاثنين (الاثنين من مارس/آذار 2020) على صفحته على تويتر. وغرّد سلامة قائلا: "سعيت لعامين ونيف للّم شمل الليبيين وكبح تدخل الخارج وصون وحدة البلاد"، متابعًا أن مسارات المفاوضات لحلّ الأزمة انطلقت "رغم ترّدد البعض"، قبل أن يشير إلى أن صحته "لم تعد تسمح بهذه الوتيرة من الإجهاد"، مبرزاً أنه تقدم بطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة لأجل إعفائه من مهامه.

أما فيما يتعلق بدعم الليبيين في معالجة تلك المشكلات، فإن الوثيقة تقترح ثلاثة مسارات متوازية لحل سلمي للأزمة الليبية، إذ أن أي حل عسكري في ليبيا غير ممكن.

وتقوم المسارات الثلاث المقترحة على مسار عسكري أساسه وقف دائم لإطلاق النار والامتناع عن التدخل الخارجي ومراقبة دولية لأي خروق لكسر حظر توريد السلاح، ووضع آلية لتفكيك الجماعات المسلحة، وإدماج منتسبيها المناسبين للمؤسسة العسكرية، وإنشاء قوات أمنية وقوات عسكرية موحدة.

وفي المسار السياسي تقترح الوثيقة استئناف العملية السياسية من خلال تشكيل لجنة من أربعين عضوا ممثلين بالتساوي عن الاجسام السياسية المنقسمة والمتعادية بين سلطتين (شرقاً وغرباً) وإليهم شخصيات مستقلة وازنة، يجتمعون في جنيف لأجل حوار سياسي فاعل يضع إطاراً عملياً للحل السياسي الذي دعت إليها وثيقة برلين، وأساسه إنشاء مجلس رئاسي فعّال وتشكيل حكومة ليبية واحدة موحدة وشاملة وفعالة، تشرف على تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، تحت رقابة دولية.

بينما يعمل المسار الاقتصادي على توحيد المؤسسات الاقتصادية السيادية المنقسمة بين سلطتي طرابلس وبنغازي، وهي: البنك المركزي، المؤسسة الوطنية للنفط، هيئة الاستثمار، وديوان المحاسبة..

ويبدو لي، حيث أعيش تفاصيل الوقائع الليبية المأزومة، أن وثيقة برلين، بمساراتها الثلاث، محمولة على نوايا حسنة في أفضل توصيف لها (حتى لا نقول تصورات ساذجة) إذ تراهن على أن الحل السلمي هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة الليبية. وهو ما يخالف التشخيص الواقعي للواقع الليبي على الأرض، حيث وصلت تفاعلات الصراع المسلح، المتصاعد على نحو مُركّب منذ نحو ستة سنوات، بين تحالف الميليشيات الإسلامية الآيديولوجية والجهوية القبلية المسيطرة على طرابلس وبين القوات العسكرية الموحدة بقيادة الجنرال حفتر، إلى حرب طاحنة داخل ضواحي العاصمة طرابلس، من جهة القوات المسلحة المسماة "الجيش الليبي الوطني" بقيادة الجنرال حفتر وتسيطر على نحو 90% من أقاليم البلاد (كل شرقها وكل جنوبها وجزء معتبر من غربها) وتتحكم في آبار النفط وموانئ تصديره.

ومن الجهة الأخرى تسيطر ميليشيات قوات حكومة الوفاق (المعترف بها دولياً برئاسة فائز السراج) على العاصمة طرابلس وبعض مدن ساحل الإقليم الغربي الهامة مثل مصراتة والزاوية.

معركة حاسمة في طرابلس

إنها المعركة الفاصلة للسيطرة على طرابلس/ العاصمة (الغنيمة الكبرى). فمن يسيطر عليها يسيطر على ليبيا. هكذا كان الحال منذ احتلها الصليبيون (فرسان القديس يوحنا) العام 1523م وعينوا عليها واليا هو القسيس "جسباري دي سنقوسا" وحكموها، لقرابة ثلاثة عقود، إلى أن استنجد سكانها بالعثمانيين فحرروهم من الصليبيين العام 1551 ليحكموا ليبيا لمدة 360 عاماً، أي حتى العام 1911 لما تنازلت الدولة العثمانية عن ليبيا للمستعمر الإيطالي بموجب "معاهدة لوزان" التي فرضت على الباب العالي سحب جميع الجنود والضّباط والموظفين العثمانيين من طرابلس وبرقة.

 

وهاهو التاريخ يعيد نفسه في صورة هزلية، على قولة ماركس:" التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة"، إذ استنجدتْ حكومة طرابلس باردوغان، رئيس الجمهورية التركية العلمانية الأتاتوركية (المستهام بنستالوجيا سلاطين المجد العثماني المستحاث). فنجده يبادر مسرعاً إلى إرسال مستشارين عسكريين ومعدات حربية نوعية ومرتزقة من مقاتلي المعارضة السورية من أثنية التركمان (أي ذوي الأصول التركية).

والمُتبيَّن من تصريحات أردوغان المتواترة، أن غايته السياسية، من وراء التواجد التركي العسكري المباشر في قلب طرابلس، ليست لمجرد دعم وحماية حكومة الإسلاميين بحجة أنها تمتلك الشرعية الدولية. وأكيد ليس لأجل حلّ الأزمة الليبية سلمياً، لأن الأزمة أصبحت بسبب تدخله العسكري أكثر تأزماً سياسياً وعسكرياً.

لقد غازل أردوغان جماهير حزبه المتحالف مع حزب الحركة القومية الفاشية بلغة شعبوبة حول تعاظم قوة تركيا إقليمياً بعد توقيع اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع سلطات طرابلس. فأصبحت تركيا، كما يرى، تحوز على جبهة متقدمة في البحر المتوسط لمواجهة تجمع إسرائيل ومصر واليونان وقبرص أصحاب منتدى غاز للشرق المتوسط.

"التدخل التركي والروسي في ليبيا سيفاقم حالة الفوضى القائمة برسم نموذج مصغر للكارثة السورية"

ويلوح رجب طيب إردوغان بمكاسب التدخل التركي الذي يلبي تطلعات  المقاولين الأتراك الذين امتلكوا مشاريع في ليبيا بقيمة 28.9 مليار دولار خلال السنوات السابقة على ثورة 17 فبراير 2011. ووصل به الأمر إلى استخدام تبريرات استعمارية بالية، أثناء حديثه في حفل تدشين أول غواصة تركية الصنع، ذاكراً أن:" الزعيم كمال أتاتورك كان ضابطاً مقاتلًا بالجيش العثماني أثناء الغزو الإيطالي لليبيا. ولذا يجب علينا اليوم أن نتواجد هناك ونقاتل أيضًا. ولدينا مليون نسمة من أصل تركي يعيشون في ليبيا."

والشاهد أن التدخل التركي والروسي في ليبيا سيفاقم حالة الفوضى القائمة برسم نموذج مصغر للكارثة السورية. فعلى المقلب الآخر، في مواجهة الميليشيات الإسلامية وحليفها التركي، يتحفز الجنرال حفتر بقواته المتقدمة داخل ضواحي العاصمة، مدعوما عسكرياً من مصر والإمارات بشكل مباشر، ومن فرنسا وروسيا بشكل مخفي، لاقتحام العاصمة وإسقاط حكم الإسلاميين. وهو لن يقبل إلا بالسيطرة التامة على العاصمة أو التراجع عنها بقوة عسكرية متفوقة، وذلك مستبعد إلا بتدخل جيش تركي جرار عدداً وعتاداً.

أما تعاطي الجنرال حفتر مع سريان الهدنة ووقف إطلاق النار ومشاريع التسوية السياسية فليس سوى مناورات تكتيكية لتلافي تحميله المسؤولية دولياً.

إذن الخلاصة: لا يوجد حل سياسي يُتوقع له إنهاء الحرب محتدمة داخل ضواحي جنوب طرابلس. فهي ليست حرباً بسبب خلافات سياسية يمكن حلها بتقاسم مناصب السلطة على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، إنما هي حرب غلبة بمنطق: يا غالب يا مغلوب.   

 

فرج العشة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

 

 

اقرأ/ي أيضًا: المزيد من مقالات موقع قنطرة 

 

الحرب في ليبيا...الحاضر الغائب في مؤتمر الأمن في ميونيخ

حسابات الربح والخسارة في ″مغامرات أردوغان العربية″

الكاتب الليبي هشام مطر

الزمن لا يعود إلى الوراء...الربيع العربي لم يتحطم

حفتر...مشروع إسقاط الإسلام السياسي في ليبيا

دور أوروبي خجول إلى متفرج ومتردد في الأزمة الليبية