مثول حرية الضمير والمعتقد أمام محاكم الجزائر

ترابط إعلامي وبشري كبير بين فرنسا والجزائر يجعل الجدل حول حرية الضمير والتعبير يأخذ منعطفا آخر من شأنه مفاقمة التوتر القائم فعليا على جانبي البحر المتوسط. نور الدين بسعدي يستعرض لموقع قنطرة نقاش حرية الضمير العائد للظهور دوريا في الجزائر، غالبا في قضايا جزائرية يبت فيها القضاء وتثير جدلا حادا.

الكاتبة ، الكاتب:  نور الدين بسعدي 

بعد استقلال الجزائر عام 1962، ووفقًا لإرادة السلطة السياسية في ذلك الوقت في إعادة صياغة "سمات الهوية الجزائرية"، تم تبني الإسلام كدين الدولة.

غادرت الأقليات المسيحية واليهودية -التي بقيَتْ خلال السنوات الأولى لاستقلال البلاد- تدريجياً وبشكل رئيسي إلى فرنسا. لم تعد هذه الأقليات ترى مستقبلاً واضحًا داخل الأمة الجزائرية الوليدة، لا سيما بعد اعتماد قانون الجنسية الجزائرية المثير للجدل لعام 1963 والذي بموجبه لا يمكن الحصول التلقائي على الجنسية الجزائرية إلا للأشخاص الذين لديهم أصول مسلمة أو كانوا يتمتعون بوضع "مسلم" خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية.

 أحمد رواجعية، مدير مخبر الدراسات التاريخية والاجتماعية والتغيرات السوسيواقتصادية في جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، في الجزائر.
يرى أحمد رواجعية، مدير مخبر الدراسات التاريخية والاجتماعية والتغيرات السوسيواقتصادية في جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، في الجزائر، أن "حرية الضمير لا توجد إطلاقا في الجزائر وهي تعتبر عند العامة، كما عند الخاصة، انتهاكا صريحا للمقدسات".

تعدد ديني في الواقع وتغييب في الدستور

بعدما عاشوا تحت سردية التجانس الديني لعقود من الزمان، اكتشف الجزائريون أن التنوع الطائفي في الجزائر -كما هو الحال في أي مكان في العالم- هو القاعدة وأنه يوجد مواطنون من مختلف الأديان وحتى من التيارات المختلفة داخل الإسلام نفسه. يكتشفون أيضًا أن هناك الكثير من الملحدين.

وهكذا يدخل الجدل حول الدين -أو الأديان- إلى الساحة العامة بنصيبه من الاختزالات والأحكام المسبقة، ولكن أيضًا بخطاب الكراهية، لا سيما في الصحافة المكتوبة وعلى الشبكات الاجتماعية.

منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ضاعفت الصحافة الجزائرية -وخاصة الناطقة بالعربية منها- من المقالات العدوانية التي تتهم الدولة الجزائرية بالسماح لهذه الجماعات بالتطور وعدم "حماية الإسلام"، وهو دين الدولة.

ينص مشروع تعديل الدستور الجزائري -محل الاستفتاء في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثّاني 2020- في مادته رقم 51 على أنه "لا مساس بحُرمة حرية الرّأي" وأن "حرية ممارسة العبادات مضمونة وتمارس في إطار احترام القانون".

غير أن المادة 37 التي تنص على شروط المساواة بين المواطنين لا تذكرالدين: " كل المواطنين سواسية أمام القانون، ولهم الحق في حماية متساوية. ولا يمكن أن يُتذرّع بأيّ تمييز يعود سببه إلى المولِد، أو العِرق، أو الجِنس، أو الرّأي، أو أيّ شرط أو ظرف آخر، شخصيّ أو اجتماعيّ".

تماما كما كان الحال في النسخات السابقة للدستور، تظهر كلمة "دين" فقط لتشير إلى أن الإسلام هو دين الدولة، ولا تظهر كلمة "أقلية" في أي مكان في نص الدستور.

حرية الضمير على المحك

وهكذا، تمت مقاضاة العديد من الأشخاص من الأقليات الدينية، وخاصة بين الأحمديين والمزابيين، بل وحتى سجنهم خلال السنوات القليلة الماضية كما تم غلق العديد من أماكن العبادة الخاصة بالمسيحيين البروتيستانت. بالإضافة إلى ذلك، يقع الملحدون أيضًا ضحايا للقمع وغالبًا ما تتم مقاضاتهم بتهمة "الإساءة" إلى الإسلام، خاصةً بعد متابعة منشوراتهم على الشبكات الاجتماعية.

 

 

يوم الخميس 8 أكتوبر / تشرين الأول 2020، حكمت محكمة مدينة خنشلة (مدينة في الشرق الجزائري) على ياسين مباركي (52 عاما)، ناشط في الحراك ومناضل أمازيغي، بالسجن 10 سنوات وغرامة قدرها مليون دينار جزائري. التهم الموجهة إليه هي "التحريض على الإلحاد" ""المساس بالمعلوم من الدين" و "النيل من الوحدة الوطنية".

وبحسب اللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين، فقد اعتقلته الأجهزة الأمنية في 30 سبتمبر / أيلول 2020 بعد تفتيش لمنزله عثر خلاله عناصر من الشرطة على كتب قديمة تتعلق بالدين والتاريخ، وكذلك 'نسخة قديمة من المصحف تعود لجده. بعد "فحص" هذه النسخة، اكتشفت الشرطة -بحسب ما ورد- أن إحدى الصفحات ممزقة. كما أشار البعض إلى بعض منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي التي نقد عبرها ياسين مباركي بعض الآراء الخاصة بالداعية المصري السلفي أبو إسحاق الحويني.

هذا ويرى الكاتب والفيلسوف حميد زناز أن "هذا الحكم البعيد تماما عن قيم العصر هو ضربة قاضية لقيمتين من قيم العصر المقدسة المتمثلة في حرية الضمير وحرية التعبير. لكل إنسان الحق في الإيمان أو عدم الإيمان والحق في نقد الدين. القانون يحمي الأشخاص لا أفكارهم.. اتهام شخص بازدراء دين من الأديان او نشر الإلحاد هذا يعني أن الدولة التي يعيش فيها ليست دولة عصرية ديمقراطية بل هي دولة قروسطية دينية".

ويضيف قائلا: "في الحقيقة يدفع المناضل ياسين مباركي ثمن نشاطه ونضاله في الحراك. هو حكم سياسي لا قضائي، الهدف منه أولا إسكات صوت من أصوات الحراك القوية وثانيا هو رسالة تخويف لجميع الحراكيين العائدين هذه الأيام للمسيرات وثالثا هو رسالة للإسلاميين لإقناعهم بأن الدولة تدافع عن الاسلام ولجرهم للتصويت بنعم على تعديل الدستور الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة".

حرية التعبير في مواجهة ما يعتبر من المقدسات

الكاتب والفيلسوف الجزائري حميد زناز.
يرى الكاتب والفيلسوف الجزائري حميد زناز أن "لكل إنسان الحق في الإيمان أو عدم الإيمان والحق في نقد الدين. القانون يحمي الأشخاص لا أفكارهم.. اتهام شخص بازدراء دين من الأديان أو نشر الإلحاد هذا يعني أن الدولة التي يعيش فيها ليست دولة عصرية ديمقراطية بل هي دولة قروسطية دينية".

إلى جانب الجدل الدائر في هذا الوقت -خاصة في فرنسا، والذي له صدى مباشر في الجزائر- حول ضرورة التمييز بين نقد الأديان -في هذه الحالة الدين الإسلامي- كأفكار ومعتقدات والتهجم على المسلمين كأشخاص من المفروض أن يتمتعوا بكامل حقوقهم الإنسانية، بدأ جدال آخر في الظهور في الجزائر حول إمكانية مناقشة التراث الثقافي الإسلامي، خاصة الدخيل منه على المجتمع الجزائري مثل الفكر السلفي الوهابي، وضرورة التفريق بين هذا التراث غير المتفق عليه والنص القرآني الذي تعتبره الأغلبية مقدسا.

من جهته يرى أحمد رواجعية، مدير مخبر الدراسات التاريخية والاجتماعية والتغيرات السوسيواقتصادية في جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، في الجزائر، أن "حرية الضمير لا توجد إطلاقا في الجزائر وهي تعتبر عند العامة، كما عند الخاصة، انتهاكا صريحا للمقدسات. التعصب الديني وعدم التسامح هي للأسف ثقافة يتقاسمها الجميع تقريبًا، بما في ذلك بعض النخب السياسية والثقافية. هذا التصور ذو الأفق الضيق للعالم يأتي من المبالغة في تقدير الإسلام ولكن أيضًا من الجهل التاريخي لهذا الدين الذي ظل جامدا عبر المراحل التاريخية، وذلك بسبب غلق باب الاجتهاد".

فهو يرى ان قضية الناشط ياسين مباركي المتهم تعسفيا بتدنيس الإسلام مثال آخرعلى هذا لأن، على حد تعبيره، " منشورات هذا الناشط لم تستهدف الإسلام القرآني، بل إسلام التخيلات والممارسات المخالفة لحريات الضمير الإنساني وحاجاته في الحرية".

ويضيف متحدثا عن "مفارقة" الدولة الجزائرية التي "تحارب التطرف الديني، لكنها في نفس الوقت تستعير منه بعض أفكاره غير المتسامحة. وهذا ما يفسر متابعة 'الكفار' قضائيا من قبلها".

بالإضافة إلى كل هذا، فإن قضية ياسين مباركي تذكرنا بالجدل ذو البعد العالمي حول قضية الرسومات في فرنسا، واغتيال أستاذ التاريخ صمويل باتي، وحملات مقاطعة المنتجات الفرنسية التي تم إطلاقها في بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة.

بالنظر إلى الترابط الإعلامي الكبير بين البلدين ووجود جالية جزائرية كبيرة في فرنسا، يأخذ الجدل حول مسائل حرية الضمير وحرية التعبير منعطفًا آخر في هذه الفترة، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يخشى الكثير من المراقبين أن من شأن هذا أن يؤدي إلى تفاقم الوضع المتوتر للغاية بالفعل ويسبب صعود الأصوات المتطرفة على جانبي البحر الأبيض المتوسط.

 

نور الدين بسعدي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:22395]