
ما هو التصوف الإسلامي؟كيف نفهم الصوفية في الإسلام؟
ذات مرة سأل طالب معلمه الصوفي: مَن هو الصوفي بحق؟ فأجابه المعلم: الصوفي لا يَسأل مَن هو الصوفي. لم يكن تعريف الصوفية سهلاً على الإطلاق يوماً. والاتفاق حول من هم الصوفيون فعلا والمتصوفون حقا، يبدو أمرا غير موجود، حتى بين المتخصصين: فهل الصوفيون هم جماعة دينية إيمانية عقائدية داخل الإسلام؟ أم يعتبرون منفصلين عن المسلمين؟ هل يمارس الصوفيون الإسلام في جوهره الروحي أم أنهم ابتعدوا عن قواعد الدين؟
أي شخص يتعمق أكثر في هذه الأسئلة ويتعامل مع التيارات الصوفية من المغرب وحتى ماليزيا فسيكتشف سريعا أن: حتى تصنيف "التصوف" (ضمن مفاهيم يوضع في نهايتها المقطع اللغوي الألماني المُؤَدلِج: ismus، الذي هو في الإنكليزية ism) هو أمر مضلل، لأنه يوحي إلى انتماء الصوفية -قليلا أو كثيرا- إلى نظام أيديولوجي صارم. انظر مثلا إلى مصطلحات مثل الماركسية (Marxism) أو الاشتراكية (Socialism) ذات المعتقدات والقناعات المحددة بوضوح.
ولكن ليست الصوفية وحدها التي تعرضت لهذا الخطأ المفاهيمي، إذ لاقت التقاليد الروحانية المتنوعة للهند مصيرا مشابها، وجُمِعت في ديانة موحدة أطلقوا عليها مصطلح "هندوسية" (Hinduism)، والتي لا وجود لها على هذا النحو.
في الحقيقة، ظهرت كلمة "Sufism" لأول مرة في كتابات المستشرقين الغربيين الذين عكفوا على استكشاف الديانات غير المسيحية. وفي ظل هذه الروح البحثية نشأ المشروع الإمبريالي لأوروبا ومعه ظهر السؤال: هل يمكننا السيطرة بشكل أفضل على الشعوب التي قمنا بغزوها من خلال استغلال نقاط ضعفها؟

خاصة في البلاد -التي واجهت فيها القوى الاستعمارية حركات مقاومة ذات طابع صوفي- كان من المطلوب فهم أفضل للعدو - على سبيل المثال في حالة الزعيم الصوفي الجزائري والمناضل من أجل الحرية الأمير عبد القادر في حركة المقاومة ضد الفرنسيين، أو في انتفاضة المهدي ضد الحكم البريطاني المصري في السودان في أواخر القرن التاسع عشر.
في الوقت نفسه، قدم الرحالة الأوروبيون خلال فترة الاستعمار تقارير غرائبية مثيرة عن الجماعات الصوفية التي راقبوها على حدود أوروبا. وسرعان ما ألهمت صور أتباع الصوفية الرفاعية بالأناضول وهم يجأرون على نحو غريب -وكذلك صور الدراويش الراقصين في غالاطا مولى حسني "Galata Mevlevihanesi" في إسطنبول- الخيالات الشرقية لدى الجمهور الأوروبي.
"الصوفية هي علم الآثار العميق لدين الإسلام"
ولكن بعيدا عن كل هذه التخيلات، كيف يمكن فهم الصوفية من الداخل؟ يقول العالم الإسلامي التركي والباحث الصوفي محمود إرول كيليتش: "الصوفية هي علم الآثار العميق لدين الإسلام".
يسعى الصوفيون جاهدين إلى فهم جوهر التراث الإسلامي واستيعابه وعيشه بنشاط. ويستخدم المتصوفون من أجل هذا تشبيه حبة الجوز: فالأشكال الطقسية الخارجية ووصايا الدين تشبه القشرة التي تحمي نواة الجوز بداخلها، لكنها تستمد وجودها من وجود نواة الجوز الداخلية. بعبارة أخرى، إذا تمسكتَ بالقشرة فقط ولم تخترقْ اللب الداخلي فسوف تخطئ الهدف.
لذلك يعطي الصوفيون الأولوية للداخل دون إهمال للخارج. وينبغي أن تهدف جميع الممارسات الصوفية في نهاية المطاف إلى الاقتراب من الله من الداخل. وفي النهاية فقد ورد في حديث مشهور (الأحاديث هي الأقوال والأفعال المنقولة عن النبي محمد)، أن: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
بالنسبة للصوفيين، تمتد الجذور الروحية لتقاليدهم إلى النبي محمد نفسه، ويمكن القول بأنه كان أول صوفي، من خلال دوره كزعيم روحي، إلا أنه في ذلك الوقت لم يكن من الضروري بعد إعطاء التقليد الداخلي للإسلام اسما خاصا، لأنه كان الشيء الوحيد الموجود. وقد شكل الصحابة -وهم يشبهون المسيحيين الأوائل حول المسيح- أول مجتمع إسلامي وأول نموذج من نوعه للجماعات الصوفية.
بعد وفاة النبي محمد أدى التهاون والاستخفاف والاستغلال وصراعات السلطة والانشقاقات -كما يحدث بمرور الوقت في جميع الأديان والحركات الروحية- إلى الابتعاد عن جوهر الرسالة الروحية والعملية للإسلام. ومع مرور الوقت، تم إطلاق اسم "صوفي" على أولئك الذين أرادوا التوجه نحو البعد الداخلي للإسلام لتمييزهم عن الحركات الأخرى. وكلمة "صوفي" مشتقة من كلمة "صوف" باللغة العربية، حيث ارتدى الزاهدون الأوائل في الإسلام ألبسة من الصوف.
غموض مصطلح "صوفي" في المصادر الإسلامية
ومع ذلك، حتى في المصادر الإسلامية، فإن مصطلح "صوفي" يشوبه الغموض. ففي بعض الأحيان يكون إيجابيًا، وأحيانًا أخرى سلبيًا: ومن ناحية توصف الصوفية بأنها الطريق المثالي لكمال الذات روحيا وأخلاقيا، ومن ناحية أخرى يتم استنكارها لتحريفها التعاليم الإسلامية، وبسبب التجاوزات وسوء استخدام السلطة (وفي الواقع، فإن مثل هذه التوجهات كانت أيضًا موجودة بالصوفية دائمًا).
على سبيل المثال نجد كلمة "صوفي"، لها دلالة سلبية بالتأكيد لدى الشاعر القومي الفارسي حافظ الشيرازي، إذ يفضح حافظ أولئك المعاصرين الذين يرتدون ملابس مثل الصوفية ويظهرون بمظهر الأتقياء، ولكن سلوكهم بعيد كل البعد عن المثل الروحانية.

يواجه المرء اليوم مرارًا وتكرارًا محاولة تصوير الصوفية على أنها منفصلة عن الإسلام. وقد ظهر هذا الاتجاه في العقود الأخيرة لأول مرة في الأبحاث الغربية، التي حاولت تفسير الصوفية كاقتباس من تقاليد روحانية أخرى. وحتى وإن كان هناك تبادل حيوي قد حدث بين تقاليد المتصوفة -على سبيل المثال في العصر الذهبي للأندلس- فإن هذا التفسير يعد قاصرا للغاية.
لا تشير أوجه التشابه في كتابات وتقاليد المتصوفين من الديانات الأخرى إلى أن الصوفيين قد قلدوا ونقلوا أي شيء، بل تشير هذه المتوازيات إلى وجود جوهر إنساني فطري يجد تعبيرا عنه في أماكن مختلفة وبطرق مختلفة. أولئك الذين يتعمقون في التقاليد الإسلامية ويتعاملون مع مصادر النصوص الصوفية سوف يدركون أن أسس الصوفية تكمن في القرآن وفي أقوال النبي محمد.
بالإضافة إلى ذلك فإن الانطباع بأن التصوف لا علاقة له بالإسلام ينبع من صورة أحادية الجانب ومتجذرة في الوقت نفسه بأن الإسلام "دينُ سيفٍ". فكيف يمكن لدين قائم على العنف بل و"منزل من قبل الشيطان" -كما ظل الادعاء لفترة طويلة في الكنيسة– أن ينتج جمالَ القصائد الصوفية وتسامحَ الشعرِ الصوفي للشاعر الفارسي جلال الدين الرومي؟
وفي نقاشاتنا الحديثة أيضا، يمكننا أن نجد منظورا مماثلا: فمن تكون صورته عن الإسلام متأثرة بقوة بأخبار الإرهاب والأصولية فستظهَر دهشته حين يدرك أن الثقافة الصوفية والإسلام مرتبطان.
الانقطاع عن البعد الداخلي للإسلام
ومن المفارقات الداعية للسخرية أن منظور الصوفية كظاهرة منفصلة عن الإسلام يجد انعكاسه اليوم بين الأصوليين الإسلاميين في المجتمعات الإسلامية. ومن يختصر الدين في مجموعة خارجية من القواعد -ويقصر "الإسلام الحقيقي" على نفسه فقط- هو معزولٌ تمامًا عن البعد الداخلي للإسلام. ولا يعرف إسلاميون وإسلامويون أن الصوفية شكلت وأثرت بقوة في الطريقة التي مارس بها المسلمون دينهم لقرون. وبسبب غطرستهم، التي تنبع من الجهل التام بالتاريخ الإسلامي، يصورون التصوف على أنه إسلام مزيف.