
محيي الدين بن عربي ظاهرة روحية كونيةرؤية ابن عربي من أجل حضارة عالمية إنسانية كاملة
ربما لم يكن لأي مؤلِّف إسلامي آخر غير ابن عربي هذا التأثير الكبير والمستمر في العالم العربي. لماذا؟
جيمس موريس: إن الجواب على سؤالك متناقض، لأن غالبية كتابات ابن عربي هي باللغة العربية. وهي تسلتزم معرفة بجميع مجالات الدراسات الدينية التي يلمّ بها فقط مجموعة صغيرة من علماء الدين. فكيف يمكن لشخص كتب لجمهور صغير كهذا أن يكون مؤثراً جداً لاحقاً، بما يتجاوز حدود العالم الناطق بالعربية؟
الجواب هو أسلوب ابن عربي التفسيري في ردّ التعاليم الدينية المُنزّلة إلى تجربتنا الروحية الضمنية، التي نتشاركها كبشر في كل الأزمنة والمواقف. لقد قدّم ما يمكن أن نسمّيه "ظاهرة روحية" عالمية، في إحالة إلى الأشكال الروحيّة للوعي والخبرة التي يستطيع البشر الوصول إليها مهما كانت ثقافتهم ولغتهم.
إذاً فقد لعب الشعر دوراً حاسماً في نشر أفكاره؟
موريس: هناك سببان لهذا. أخذ الموسيقيون والشعراء الأوائل أفكاره وترجموها إلى اللغات الجديدة التي عرفت الإسلام، لأن الأخير كان يتطوّر (بعد المغول) إلى دين عالمي حقاً. بدأ هذا التحوّل بالفارسية ثم توسّع ليضم ثقافات إسلامية جديدة في أفريقيا وفي جميع أنحاء آسيا.
ومن الأمثلة المذهلة: في إندونيسا، أدّت أفكار ابن عربي وظيفتين. شرحت كتاباتُه الاستخدامَ الشعبي لمسرحيات الظل (وايانغ) المُستخدمة للتعليم عن الإسلام. فهي توضح دور فنونٍ كهذه، بينما تبرِّرُ الإبداع الروحي للدين مقابل أولئك الذين يملكون وجهات نظر ضيقة ومتحجِّرة للدين. وحتّى اليوم، يمكن للشعراء والكتّاب والفنانين والأشخاص، الذين يسعون إلى تحقيق الحياة الروحية في كل أنحاء العالم الإسلامي، العثور على تفسيرات واضحة لما يخلقونه، في كتابات ابن عربي.
والسبب الآخر؟
موريس: السبب الآخر لتأثيره التاريخي أنه خلال حياة ابن عربي، كان الحكم السياسي الإسلامي مُهدَّداً بشكل كبير من قبل المغول من جهة والصليبيين من جهة أخرى. ولكن بعد وفاته بوقت قصير (1240)، بدأ الإسلام مجدّداً ينتشر بسرعة في جميع أنحاء آسيا، والبلقان (مع العثمانيين) وإلى جنوب أفريقيا كذلك.

وقد كانت وسيلة هذا الانتشار الشعبي للإسلام ما نسميه اليوم الطرق الصوفية في المقام الأول. بيد أنه قبل إنشاء هذه المؤسسات المحلّية، دائماً ما نجد بعض الأولياء الذين تجذب ممارستهم وفهمهم للإسلام بصورة طبيعية الآخرين إليهم. استندت معظم هذه المؤسسات الروحية والممارسات التعبّدية على الذكر، في الطقوس المألوفة من شعر، وموسيقى، وحج، ومهرجانات متجذِّرة في العادات واللغات المحلّية (غالباً مكتوبة بأحرف عربية). لكن حتّى الآن، إن أردنا فهم المعاني الأعمق لهذه الموسيقى والشعر الديني (على سبيل المثال، القصائد المشهورة في مدح النبي محمد، في الاحتفالات بالمولد النبوي وبرسالته) ينبغي علينا العودة إلى تفسيرات ابن عربي.
وماذا عن العالم المعاصر؟
موريس: هناك سلسلة معقّدة كاملة من التأثيرات تمتدُّ حتّى يومنا هذا. ويمكن أن نأخذ كمثال، تأثّر الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، الذي عاش بعد حوالي مئة عام، بعمق بتعاليم ابن عربي. ومن ثم بعد عدة قرون، تعلّم الشاعر والأديب الألماني "غوتة" الفارسية ليقرأ شعر حافظ. ليس فقط كتاب غوتة الشهير "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" بل أيضاً الكثير من مسرحيته "فاوست" تستند بعمق على فهم القرآن الذي نُقِل إلى الشاعر الألماني عن طريق شعر حافظ. ومن ثم في يومنا هذا، حين نواجه إعادة السرد الاستثنائي لفاوست في فيلم المخرج الألماني "فيم فيندرز" الشهير "أجنحة الرغبة"، تبقّى القصة بشكل مذهل قريبة إلى تعاليم القرآن لدرجة أنني غالباً ما استخدمها لتعريف طلاب السنة الأولى بالقرآن.
في مقام ابن عربي في دمشق، يُعتبرُ ولياً. يذهب الناس إلى هناك من أجل الدعاء والهداية. لكن ماذا عن جانبه الفكري؟
موريس: توجد ثلاث طرق لتصوّر الناس لابن عربي. من الواضح أن "الشيخ محيي الدين" يُعتبر أحد الأشخاص ذوي الكرامات في دمشق. علاوة على ذلك، ينبغي علينا التمييز بين كيفية استخدام عمله في العالم الناطق بالعربية وبين صورته في بقية العالم الإسلامي. ففي المناطق الناطقة باللغة العربية، يمكن لأي شخص تقريباً قراءة بعض كتاباته. ولذلك استخدم الباحثون، والخطباء والمعلّمون الصوفيون هناك، باستمرار تفسيرات القرآن والحديث المستقاة من كتابات ابن عربي، التي هي كلها في نهاية المطاف تعليقات روحيّة على القرآن والحديث.
بيد أنه في العالمين الإسلامي العثماني والآسيوي، لا يمكن لأعماله أن تُقرأ مباشرة إلا من قبل طلاب الدراسات الدينية القادرين على قراءة العربية الفصحى. لذلك ففي هذه المناطق (العثمانية والآسيوية) كان تأثيره إما بين المفكرين أو، بشكل أوسع، عبر الشعراء المؤثرين الذين أخذوا أفكاره التوجيهية وقاموا بتكييفها بصورة مبدعة في طقوسهم ولغاتهم المحليّة. فأصبحت أفكاره رائجة عبر الشعر والموسيقى ذات الصلة.
يُعرَف ابن عربي برؤيته للتسامح والتناغم بين الأديان. كيف استُقبِلت هذه الرسالة في الأوقات الحالية؟
موريس: غالباً ما أيّدت إمبراطوريات العثمانيين والمغول المتعددة الأديان في الهند تعاليم ابن عربي لأن أفكاره دعمت الإبداع والتنوّع الروحي من خلال تركيزها على أبعاد التجربة الروحية الفريدة لكل فرد.
فوجهات نظر ابن عربي (مثل وجهات نظر العديد من المعلمين الصوفيين الآخرين) تركّز على الواجبات والمسؤوليات التي يتشاطرها البشر -روحياً وأخلاقياً وفكرياً- بدل التركيز على ما يُفرّقهم. ولذلك لا يزال ابن عربي جذّاباً للغاية بالنسبة للباحثين الجدد. وإن كنا بصدد تشكيل حضارة عالمية إنسانية بالكامل، فمن الواضح أننا بحاجة إلى الإبداع والتعاون العميق الذي ينبع من فهم روحي حقيقي.
إلا أن فهمه للقرآن يبقى فهماً حرفياً؟
موريس: حرفي للغاية، بيد أنه يجب شرح ذلك، لأن هذا التعبير ينطوي على مفارقة. يستند فهم ابن عربي للقرآن بعمق على اللغة العربية، التي تملك جذورها (مثل الأحرف الصينية الكلاسيكية) معاني متعددة ومتداخلة. وهذا الواقع هو -أساساً- معاكس لفكرتنا الشائعة المتمثّلة في أن "الحرفي" يعني كل ما يُعلَّمُ للأطفال وما شابه ذلك.