مركز أتاتورك الثقافي الجديد في إسطنبول
الحداثة الثانية في تركيا

بين حداثة أتاتورك الجمهورية وإسلام القرن الحادي والعشرين الإردوغاني تم افتتاح مركز أتاتورك الثقافي الجديد مقابل مسجد تقسيم الجديد. توماس أفيناريوس كان هناك.

عندما ينظر المهندس المعماري الإسطنبولي مراد تابانلي أوغلو من واجهة مبناه الزجاجية، يرى ساحةً ومدينةً وبلدًا وفكرةً. يسير مسرعًا عبر موقع البناء الكبير؛ ويتفحَّص هنا، ويُصحِّح هناك، ويكتشف عيبًا ما هنا، ويرفض شيئًا آخر.

قبل أيَّام قليلة من افتتاح مركز أتاتورك الثقافي الجديد، يرى الزائر (2021) المجمع الكبير المطل على ميدان تقسيم وقد أوشك على الانتهاء. والانتهاء يعتبر - مثلما الحال دائمًا في مثل هذه المشاريع - سِباقًا مع الزمن.

من المعروف عن المهندسين المعماريين أنَّهم يذكِّروننا بالقادة الميدانيين وأساتذة الفرق الموسيقية ومدرِّبي كرة القدم ومديري الشركات: فجميعهم لديهم فكرة كبيرة ويجب عليهم توجيه فرقهم وتحفيزها وقيادتها، لكي تتحوَّل الفكرة إلى حقيقة.

حتى وإن كان المهندس تابانلي أوغلو ما يزال يبدو هادئًا ومهذبًا بشكل واضح، فيجب ألَّا يشكّ أحد في أنَّه جاد فيما يبدو عليه: لأنَّ بناء مركز أتاتورك الثقافي هو مشروعه. غير أنَّ مركز أتاتورك الثقافي يعتبر أكثر من ذلك بكثير، فهو رمز سياسي وثقافي يمتد بريقه إلى أبعد من إسطنبول.

تم افتتاح مركز أتاتورك الثقافي الجديد المطل على ميدان تقسيم في إسطنبول يوم التاسع والعشرين من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2021، في عيد الجمهورية التركية، ومن المقرَّر أن يصبح المعبد الثقافي التركي في القرن الحادي والعشرين: ومن ملحقاته دار أوبرا وصالة للحفلات الموسيقية ودار سينما ومتحف ومكتبة وصالات عرض وأرشيفات ومقاهٍ ومطعم بشرفة ذات إطلالة جميلة خلابة على مضيق البوسفور.

هو قصر ثقافي متعدِّد الوظائف، عالم عالمي مصغَّر في مدينة عدد سكَّانها ستة عشر مليون نسمة، وموقع للفعاليات ومكان للقاء ونقطة راحة وأعمدة تحمل المشهد المعماري في المدينة. ومن المفترض أن يكون هذا المعبد الموسيقي على مستوى المنافسة الدولية، وطبعًا بمستويات عالية تضاهي أوسلو وهامبورغ، مثلما يقول مراد تابانلي أوغلو.

 

كلّ شيء موجود هنا: أوبرا وسينما ومتحف ومكتبة - وإطلالة خلّابة على مضيق البوسفور

 

لقد تم افتتاح مركز أتاتورك الثقافي القديم في عام 1969 واحترق في عام 1970 ومن ثم أُعيد ترميمه، وفي آخر المطاف تم هدمه في عام 2018.

وقبل هدمه كان مهملًا، ومَنْ زاروه قبل نهايته لا يتحدَّثون عن الأوبرا والحفلات الموسيقية بقدر ما يصفون الرائحة الكريهة في أروقة هذا المبنى المهمل تمامًا طوال سنين.

ومع ذلك فقد كان مركز أتاتورك الثقافي القديم خلال فترة مجده أكثر من مجرَّد دار أوبرا مع صالة للحفلات الموسيقية؛ فقد كان أيضًا مبنى له بريقه ورسالته.

وكمال أتاتورك، التركي الذي اقتلع كلّ شيء قديم من جذره، لم يكتفِ فقط بالتخلُّص من الحجاب والطربوش والكتابة بحروف عربية بعد عام 1923.

فبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، اكتشف في ثقافة أوروبا وسيلة إغراء لتحويل أنظار شعبه نحو الغرب. بعيدًا عن العثمانية والسلطنة والخلافة الإسلامية نحو الجمهورية والحداثة.

 

المهندس المعماري التركي مراد تابانلي أوغلو. Der türkische Architekt Murat Tabanlioğlu. (Foto: Christiane Schlötzer )
يعتبر مركز أتاتورك الثقافي أكثر بكثير من مجرَّد مشروع متميز: فهو أيضا مسألة عائلية بالنسبة للمهندس مراد تابانلي أوغلو، الذي قام والده المهندس حياتي تابانلي أوغلو بتصميم وبناء المركز القديم. وقد كان أوَّل مبنى بأسلوب حداثوي في تركيا. اعتمد البناء على طراز باوهاوس بواجهة زجاجية من الألومنيوم وسلالم درج معلقة وأرضيات خشبية ومساحات مُبلَّطة - وهي عناصر اقتبسها الابن في بنائه الجديد. يقول مراد تابانلي أوغلو وهو يشير إلى الدرج المصمَّم حسب الدرج الأصلي والمَعَارِض المنحنية قليلًا والخشب الساطع: "هذا مثل قطعة موسيقية كلاسيكية يُفسِّرها الجميع بشكل مختلف. الشكل محدَّد والأداء جديد".

 

وأسطورة تأسيس جمهورية أتاتورك تقوم أيضًا على ثورة سياسية وكذلك ثقافية. وقد كان مركز أتاتورك الثقافي مسرحًا لهذه التربية القومية: فقد كان هذا المبنى بأسلوبه الوظيفي الجديد -هذا البرنامج، هذه الروح الحرة- دليلًا على حداثة تركيا.

وهذا يحدِّد التطلعات التي يجب على المهندس المعماري مراد تابانلي أوغلو أن يفي بها، حتى وإن كان ذلك في تركيا مختلفة تمامًا.

يحكم تركيا منذ نحو عشرين عامًا رجب طيب إردوغان، وهو سياسي إسلامي محافظ يبدو أنَّ أكبر أمنياته أن يصبح أتاتورك الثاني - ولكن ليس كمحدِّث علماني، بل كرجل يبحث عن مستقبل يمكنه فيه أن يعيد تركيا إلى جذورها الإسلامية-العثمانية.

وثم كان هناك جدال كبير أيضًا حول الهدم والبناء الجديد، لأنَّ مركز أتاتورك الثقافي القديم يعتبر جزءًا من التراث الثقافي التركي الحديث ومن حمضه النووي.

وفي نهاية المطاف، سُمح فقط ببناء جديد بشرط أن تكون واجهته مبنية بحسب المواصفات الخارجية للمبنى القديم. وقد تم ذلك أيضًا.

أمَّا الشيء الأكثر غرابة بشكل ملفت للنظر في مركز أتاتورك الثقافي الجديد فيكمن أيضًا في داخله خلف غلافه الشفاف تمامًا على واجهاته: صالة الأوبرا مقامة على شكل حرف U ومصنوعة بالكامل من الخشب بمساحة تتَّسع لألفين وأربعين شخصًا، بمسرح حديث للغاية ونظام رقمي فنِّي بأحدث طراز.

وهذه الصالة متوارية في قبة ضخمة لونها أحمر بورجوندي، ومكوَّنة من ألف وخمسمائة قطعة بلاط لامع وتذكِّرنا بحبة رمان ناضجة.

وهذه القبة لا تملأ الردهة وحدها، بل يمكن رؤيتها من خلال الواجهة الزجاجية من الخارج، من ميدان تقسيم أيضًا.

يشرح المهندس المعماري مراد تابانلي أوغلو العنصر المثير للدهشة وغير العادي بكلُّ بساطة ممكنة قائلًا: "الأحمر بالنسبة لي هو لون الأوبرا".

ومركز أتاتورك الثقافي يعتبر بالنسبة للمهندس مراد تابانلي أوغلو، الذي يُصمِّم ويبني في إسطنبول وتركيا وفي جميع أنحاء العالم، أكثر بكثير من مجرَّد مشروع استعراضي. هو مسألة عائلية.

فقد صمَّم وبنى مركز أتاتورك الثقافي القديم والده المهندس حياتي تابانلي أوغلو. لقد كان أوَّل مبنى بأسلوب حداثوي في تركيا.

اعتمد البناء على طراز باوهاوس بواجهة زجاجية من الألومنيوم وسلالم درج معلقة وأرضيات خشبية ومساحات مُبلَّطة - وهي عناصر اقتبسها الابن في بنائه الجديد.

يقول مراد تابانلي أوغلو وهو يشير إلى الدرج المصمَّم بحسب الدرج الأصلي والمَعَارِض المنحنية قليلًا والخشب الساطع: "هذا مثل قطعة موسيقية كلاسيكية يُفسِّرها الجميع بشكل مختلف. الشكل محدَّد والأداء جديد".

ومع ذلك فهذا المبنى هو أكثر من محاولة لمراعاة عمل الأب وفي الوقت نفسه الخروج من ظله.

فمركز أتاتورك الثقافي الجديد يعتبر - تمامًا مثل سلفه القديم - مبنًى سياسيًا للغاية وهذا يعود أيضًا إلى موقعه. إذ يكاد لا يوجد أي مكان آخر يعكس وجوه تركيا المتعدِّدة وانقساماتها الداخلية أفضل من ميدان تقسيم، الذي كان يصفه الكثيرون بـ"قلب تركيا النابض" عندما كان الخروج في مظاهرات كثيرة ومفعمة بالنشاط لا يزال مسموحًا في تركيا.

وتحيط به مجموعة من المباني الوظيفية الخرسانية: فنادق وبنوك ومحطات مترو أنفاق وبينها ساحة فارغة ضخمة خالية من الزخرفة.

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة