سلام لبنان يتطلب شفاء المجتمع من صدمته النفسية

الصراعات العنيفة قد تؤدي إلى إصابة مجتمعات كاملة بصدمات نفسية تنتقل من جيل إلى جيل. أعاد انفجار مرفأ بيروت 04 / 08 / 2020 ذكريات الحرب الأهلية لدى كثيرين في لبنان. مريم مدلل وَ دليلة روبن-شميا تسلطان الضوء على التعاون الألماني مع لبنان في معالجة الصدمات الجماعية والشفاء منها والعمل من أجل السلام.

الكاتب، الكاتبة : Miriam Modalal & Dalilah Reuben-Shemia

اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 واستمرَّت حتى عام 1990 وتركت جراحًا كثيرة ومجتمعًا يعاني من انقسامات طائفية عميقة. وبعد انتهاء الحرب الأهلية، تم كبت ذكريات الماضي بشكل جماعي لثلاثة عقود. وكانت الدولة تروِّج لذلك على أمل التمكُّن من خلق شعور بالحياة الطبيعية. وبينما كان ذلك يُخَدِّر الألم في البداية، ظلّ هناك شعور عميق بالخسارة والعار واليأس.

لم يكن يتم تناقل قصص الضحايا الجماعية إلَّا بين أبناء كلِّ مجموعة من المجموعات السكَّانية المنقسمة. لا يزال الماضي من المحرَّمات في الكتب المدرسية حتى يومنا هذا، وكذلك لم يجرِ أيُّ حوار عمومي واسع منذ فترة طويلة. وبدلاً من ذلك يتم اعتبار المهاجرين واللاجئين وحتى القوى الأجنبية كبشَ فداء مسؤولًا عن الأوضاع الأمنية ​​السيِّئة والظروف السياسية والاجتماعية الهشَّة في بعض الأحيان. تستخدم الأحزاب السياسية في لبنان لغة الخوف وانعدام الثقة من أجل التلاعب بحاجة الناس القوية إلى الأمن والأمان.

عملت الانتفاضة - التي شملت جميع أنحاء لبنان وبدأت في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019 والمعروفة باسم ثورة تشرين الأوَّل - على التشكيك في هذه الحقائق والهويَّات المحدَّدة من خارج البلاد. وبعد أن أعلنت الحكومة فرض ضريبة جديدة على المكالمات الصوتية عبر الإنترنت، انتفض المتظاهرون في جميع أنحاء لبنان مطالبين بوضع حدّ للفساد والمحسوبية وانعدام المسؤولية.

أدَّت ثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر إلى انهيار الحكومة، بينما وقفت البلاد لعدة أشهر على شفا الإفلاس المالي. اتَّحد المجتمع اللبناني المنقسم -الذي ظلّ فيه الكثيرون صامتين لفترة طويلة- خلف المطالبة بتغيير جذري على المستويين الاجتماعي والسياسي. واستطاع المتظاهرون -لأوَّل مرة منذ فترة طويلة- إيقاظ المجتمع من سباته السياسي العميق.

 

 

ضرورة مراعاة الصدمات الجماعية عند العمل من أجل السلام

من الممكن أن تؤدِّي الصراعات العنيفة إلى إصابة مجتمعات كاملة بصدمات نفسية، وكذلك يمكن أن تنتقل هذه الصدمات أحيانًا من جيل إلى جيل. والصدمة الجماعية حاضرة في كلِّ مكان داخل لبنان. تطبق منظمة السلام الألمانية "منتدى خدمة السلام المدني" (Forum ZFD) مبدأ تعدُّد وجهات النظر في مشاريعها الخاصة بالتعامل مع الماضي.

يفترض مبدأ تعدُّد وجهات النظر أنَّ التاريخ أمر ذاتي ويرتبط بالتفسير. يطوِّر الناس في محادثات حول الماضي فهمًا لكيفية تأثير التجربة المَعيشة في الهويَّات الفردية والجماعية؛ وهذا يساهم في عملية الشفاء من الصدمات الجماعية.

ضمن مجموعة تدريبات بعنوان "ذاكرة الحرب"، تبادل نشطاء سلام قادمون من مختلف مناطق الصراع المتجاورة أفكارهم حول روايات الهوية الجماعية المتأثِّرة بالحرب الأهلية. وفي ضوء ثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019، تم التركيز أيضًا على أهمية عملية الحداد الصحية.

تُمثِّل عملية الحداد الصحية هذه شرطًا أساسيًا من أجل تحرير العقل والجسد من جمود الصدمة غير المعالجة، التي تفضي إلى خلق مشاعر جماعية بالخوف واليأس. تم تشجيع نشطاء السلام على النظر إلى الصراعات الحالية في بيئتهم من خلال منظور تعدُّد وجهات النظر واكتسبوا بذلك خبرات وأساليبَ جديدة للتعامل مع الماضي.

تحفيز التلاميذ والمعلمين

يُقدِّم منتدى خدمة السلام المدني (Forum ZFD) بالإضافة إلى ذلك الدعم للمعلمين من جميع أنحاء لبنان ومن جميع الطوائف الدينية في نقل أحداث الماضي على نحو يؤدِّي إلى سدّ الانقسامات بدلًا من تعميقها. يستخدم منتدى خدمة السلام المدني بالتعاون مع شريكته "الجمعية اللبنانية للتاريخ" أساليبَ إبداعية من أجل تحفيز المعلمين وكذلك التلاميذ على النظر في ضوء مختلف إلى الأحداث التاريخية المثيرة للجدل وذكريات العنف.

ويساعد في ذلك -إلى جانب تعدُّد وجهات النظر- الحوار مع الأجيال الأكبر سنًا أيضًا. يجري الحوار بين الأجيال مثلًا من خلال مشروع "من التاريخ المحلي إلى فهم أوسع للماضي". وفي هذا المشروع، يقوم التلاميذ بتسجل ذكريات من الحرب الأهلية يرويها أشخاص أكبر سنًا، ثم يسجلون هذه الذكريات من خلال وسائل فنِّية ويربطونها بحياتهم الحالية.

يركِّز منتدى خدمة السلام المدني أيضًا على حشد الناشطين بعيدًا عن الانقسامات الاجتماعية للعمل من أجل التخلص من العنف. وكذلك دعم منتدى خدمة السلام المدني بالاشتراك مع شريكته منظمة "التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني" تأسيس حركة نسائية مكوَّنة من ناشطات سلام سوريَّات ولبنانيَّات، اسمها "نساء قادرات".

 

ورشة عمل حول التواصل الخالي من العنف في المنظمة النسائية اللبنانية "نساء قادرات" في بيروت. (photo: Miriam Modalal)
العمل من أحل السلام كمساهمة مهمة في عملية الشفاء من الصدمات الجماعية: ورشة عمل حول التواصل الخالي من العنف في المنظمة النسائية اللبنانية "نساء قادرات" في بيروت.

 

ملجأ للنساء من جميع الجنسيَّات والأجيال

افتتح مشروع "نساء قادرات" في بعلبك مركزًا اجتماعيًا يُقدِّم ملجأً آمنًا للنساء المُتعَرِّضات للعنف بسبب جنسهن بصرف النظر عن جنسياتهن وأعمارهن. تلتقي النساء في هذا المركز ويتعاطفن مع بعضهن ويتناقشن حول الشعور بالوحدة ودور الضحية والعار، باستخدام أساليب التواصل الخالي من العنف والحوار بين المجموعات والرعاية النفسية الاجتماعية.

وعلى هذا النحو تتم -من ناحية- مراعاة الصدمة الجماعية في عملية تحويل الصراع، ومن ناحية أخرى تخلُق بالتالي عمليات تكوين المجموعات جوًّا من التعاطف يمكن فيه معالجة التجارب الفردية بمساعدة المجموعة وبدء عمليات التعلم. وعندما تتعامل عملية تحويل الصراع بحساسية مع الديناميات النفسية والاجتماعية الخاصة بالصدمة الجماعية فإنَّها تعزِّز بذلك القدرة على تجاوز الأزمات على المستويين الفردي والجماعي.

وبالإضافة إلى ذلك، من المهم استخدام وسائل الإعلام والمهرجانات والمعارض وغيرها من الأشكال الفنِّية الأخرى لتحويل روايات الماضي الجماعية وهويَّات الضحايا. وهذه المقاربات تساعد في التخلُّص من صورة العداء عن "الآخر". ومن خلال ذلك تزداد قناعة الفرد بقدرته الشخصية على تغيير شيء ما. وهذا يساعد على تجاوز الشعور بالعجز ويساهم بالتالي في تحويل السلبية واللامبالاة السياسية إلى قوة وقدرة على التعامل.

 

مريم مدلل وَ دليلة روبن-شميا

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: مجلة التنمية والتعاون / موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

تعمل مريم مدلل مديرة مشروع "منتدى خدمة السلام المدني Forum ZFD  في لبنان.

 

عملت دليلة روبن-شميا مستشارة لشؤون السلام والصراع في "منتدى خدمة السلام المدني" وتبحث في موضوع نبذ العنف والتخلص منه.