تقاسيم بيروت

من معرض مروان رشماوي الفني "واستمرت الأشجار في التصويت للفأس" في لبنان.
من معرض مروان رشماوي الفني "واستمرت الأشجار في التصويت للفأس" في لبنان.

أعمال فنية معقدة وبسيطة تجسد تقاسيم بيروت - معروضة في أول معرض تقيمه قاعة غاليري صفير زملر بعد انفجار مرفأ بيروت. الصحفية لينا بوب تسلط الضوء على هذه الأعمال.

الكاتبة ، الكاتب: Lena Bopp

يصنع الفنَّان مروان رشماوي أعماله من مواد يجدها دائمًا في المدينة: خرسانة وإسمنت وأسلاك وخشب وسيراميك وكثيرًا أيضًا ألمنيوم ومعادن، كان يوجد منها كميات كبيرة في غاليري صفير زملر بعد انفجار مرفأ بيروت في آب/ أغسطس 2020.

لقد أدَّت موجة الضغط الناجمة عن هذا الانفجار إلى تمزيق جدران الجبس الفاصلة إلى قطع وإلى ثني دعاماتها المعدنية واقتلاع إطارات النوافذ المحطمة المصنوعة من الألمنيوم.

وكان غاليري صفير زملر مثل نصف المدينة مليئًا بالدمار والأنقاض. بدأ مروان رشماوي في تصنيف هذه الفوضى: وراح يفرز الأجزاء المعدنية وقطع الألومنيوم بحسب حجمها، وكدَّس القطع المشوَّهة على نحو لا يمكن إنقاذه في كوم بلغ ارتفاعه بعد فترة قريبة ارتفاع هامة الرجل، وصار ينظر إلى هذه المواد ويتفحَّصها لبضعة أشهر.

وبعد ذلك اعتاد مروان رشماوي - وهذا شيء سريع بشكل ملحوظ بالنسبة له خاصة وأنَّه كثيرًا ما يعمل على أعماله طيلة سنين - على رؤية هذه المواد بحيث أنَّه ترك الدعامات المصنوعة من الألمنيوم مثلما وجدها متسخة في يوم حادث الانفجار، غير أنَّه قام بترتيبها بطريقة جرَّدتها من منظرها المرعب.

 

من معرض مروان رشماوي الفني "واستمرت الأشجار في التصويت للفأس" في لبنان. Marwan Rechmaoui, Slanted Squares, 2019, Exhibition view Sharjah Art Foundation, Exhibition View. Photo SAF/ (c) Sfeir-Semler Gallery Beirut/Hamburg.
Marwan Rechmaoui, Slanted Squares, 2019, Exhibition view Sharjah Art Foundation, Exhibition View. Photo SAF/ (c) Sfeir-Semler Gallery Beirut/Hamburg.

 

وهي الآن معروضة في أوَّل معرض تعرضه أندريه صفير زملر في صالة معرضها بعد الانفجار. وعنوان المعرض "واستمرت الأشجار في التصويت للفأس" هو استعارة رائعة للوضع غير الممكن إنكاره: إذ إنَّ على الأقل بعض الأزمات الكثيرة التي يعيشها حاليًا لبنان هي أزمات محلية الصنع.

فقد لعب أيضًا الفساد والإهمال دورًا كبيرًا في الانفجار، الذي تذكِّر بكارثته دعامات الألمنيوم المعلقة الآن على الحائط المصفوفة بشكل ضيِّق بجانب بعضها مثل نوافذ باهتة وتدور مع الريح كقطع متحرّكة.

كُتلٌ بأشكال مكعَّبة وبحجم حقيبة السفر تم ترتيبها بذكاء وقد جمَّعها مروان رشماوي بواسطة آلة مع بعضها من بقايا القطع المعدنية الملتوية تمامًا في المعرض.

تجتاز هذه المعروضات الصالة مثل أشخاص هاربين، وتتحرَّك باتجاه جدارية "بيروت والبحر" وتواصل رحلتها من دون رادع على الجانب الآخر من الجدار.

وُصول ومغادرة، وهجرة واغتراب - إشارات تعيدنا إلى بيروت المعاصرة، هذه المدينة الممزَّقة بشدة حاليًا لدرجة أنَّ أعداد الناس الباحثين عن نجاتهم وخلاصهم في السفر والاغتراب باتت تزداد أكثر من أي وقت مضى؛ متنوِّعون جدًا مثل تنوُّع تاريخ مدينتهم، التي امتدَّت عبرها موجات متوازية من الهجرة منها والهجرة إليها.

ولكن حتى الآن لا يريد اللبنانيون غناء أغنية الوداع، فحتى إن كانت بيروت قد تغيَّرت خلال فترة قصيرة بسبب فقر وجوع الكثير من اللبنانيين المتضرِّرين من الانهيار الكبير لسعر عملتهم، فليس من المؤكَّد كيف سيستمر هذا التدهور.

صحيح أنَّ العديد من الفنَّانين اللبنانيين يحاولون مغادرة لبنان، كما توجد فرص لفعل ذلك: فعلى سبيل المثال لقد أطلقت السفارة الفرنسية للتو برنامجًا مع إقامات في فرنسا لمائة فنَّان لبناني. ولكن من المشكوك فيه إن كان من الممكن بهذه السهولة استبدال بيروت كمركز إبداعي حرّ نسبيًا في المنطقة.

إعادة بناء غاليري صفير زملر

 

أندريه صفير زملر صاحبة غاليري حدَّد منذ عقد من الزمن معايير الفنّ السياسي المعاصر في بيروت، وقد أعادت على أية حال بناء فرع معرضها الموجود في بيروت (إلى جانب فرع هامبورغ) ولم تنقله مثلًا إلى دبي، التي تعرض نفسها بحسب تقارير إعلامية حديثة كموطن جديد للفنَّانين اللبنانيين.

وحول ذلك تقول: "يوجد في بيروت قديم وجديد، ملتوٍ ومنحنٍ، توجد هنا أشياء يمكنك الاحتكاك بها من الصباح الباكر وحتى وقت متأخِّر". ومروان رشماوي يشير هو الآخر بالرفض ويقول: "في دبي لا يوجد أيّ تحدٍ. مَنْ أراد كسب المال فبإمكانه الذهاب إلى هناك. ولكن مَنْ يرغب في أن تكون لديه أفكار فلا يذهب إلى هناك".

ولا يمكن على أية حال تخيُّل مروان رشماوي في مكان آخر غير بيروت، لأنَّ أعماله تدور منذ عقود من الزمن حول مدينته التي وُلِد فيها عام 1964.

وهو متأثِّر كثيرًا - كغيره من الفنَّانين أبناء جيله مثل وليد رعد وأكرم الزعتري وربيع مروة - بفترة ما بعد الحرب، بإعادة الإعمار في التسعينيات، التي رافقتها في بيروت وعلى نحو متناقض أعمال تدمير لمركز المدينة القديم، الذي تم هدم مساحات واسعة من سوقه القديم وبنيت محله منطقة تسوُّق راقية ولكنها خالية من الناس. ومروان رشماوي يقترب دائمًا من مدينته بطريقة مميَّزة جدًا - ليس فقط في اختيار مواده.

وطريقة عمله أيضًا واقعية بمعنى أنَّه قد تجوَّل في جميع المناطق والأحياء وصوَّرها ورسم خرائط لها، محاولًا فهم الكثير من الانقسامات الدينية والاجتماعية والثقافية تمامًا مثل الطبقات المتعلقة بالأنساب والجغرافيا والتاريخ. ومن التعقيد الناتج عن ذلك - وهنا يكمن فنُّه - يقوم بتقطير أعمال كثيرًا ما تكون مختزلة إلى أدنى حدّ ولكنها تُظهر ذلك التعقيد المكسور متعدِّد الطبقات، الذي يميِّز بيروت.

 

 

ويتَّضح ذلك بشكل خاص في عمله "أعمدة"، الذي عُرض مؤخرًا في أمستردام والشارقة والآن لأوَّل مرة في بيروت. ولكن تلك الأعمدة التي كان يريد في الأصل أن يصنع منها عددًا قليلًا فقط، تجاوز عددها الآن الأربعين عمودًا. لقد أدخل مروان رشماوي على هذه الأعمدة الإسمنتية المربَّعة، التي يبلغ ارتفاع كلّ منها نحو مترين، جميعَ أنواع الإضافات الممكنة من المقاعد الخشبية إلى أجهزة التلفاز وحتى بلاط السيراميك، تاركًا فيها الفتحات ومحاور الرؤية هنا وهناك مفتوحة، بحيث أنَّها تنتصب مثل بنايات تروي قصص مدينتها:

قصص عن عمَّال بناء سوريين يعيشون في مواقع وورشات البناء التي يعملون فيها؛ وعن الطبيعة التي استعادت احتلال المباني المهجورة؛ وعن سلالم الدرج المفتوحة، التي يلتقي فيها الجيران خلال الصيف لأنَّ الريح تهبّ بشكل لطيف من خلالها.

وعلى الأرجح أنَّ هذه الأعمدة تبدو مألوفة تمامًا بما فيها من أضرار للجمهور البيروتي، الذي سيكتشف فيها أيضًا المزيد من الاقتباسات والإشارات المرجعية: والتي تشير أيضًا متجاوزةً المدينة إلى منطقة تزعزعت أسسها بشدة خلال السنوات الأخيرة. (الأسعار من خمسة عشر ألف دولار إلى ثلاثين ألف دولار)

 

لينا بوب

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: صحيفة فرانكفورتَر ألغماينه / موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de