ثقافة فلكية متجذرة في الأدب العربي والعقل الإسلامي

كواكب ونجوم متناثرة في الأدب العربي: من الشعر الجاهلي إلى النثر الحديث. ومعارف فلكية قديمة هضمها العقل المسلم ثم شرع في نقدها وإثرائها وتطويرها، في اكتناه لسر المجهول واستجابة فطرية للآية "سنريهم آياتنا في الآفاق"، فالقرآن صريح في الحديث عن عظمة الله في خلق السماوات والنجوم والكواكب والحاجة إلى ضبط أوقات الصلوات، وهكذا حتَّمَتْ المواسم الدينية واتجاه القبلة على المسلمين تحري هذه المعارف وضبطها وتدوينها وإتاحتها للناس لحاجتهم الماسة إليها. الكاتب إبراهيم مشارة والتفاصيل لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: إبراهيم مشارة 

في ثقافتنا العربية الإسلامية شكلت المعارف الفلكية زادا خصبا لقريحة الفلاسفة والشعراء والنثار، بل الفلك نشأ أول الأمر من رحم الملاحظة المستديمة بدافع الفضول الإنساني أو الحاجة البشرية المرتبطة بالطقس والمطر وما يتعلق به من رزق ومن كلأ ومراع وسفر في الفيافي وفي أعالي البحار أو ضبط الزمن ومعرفة المواسم الدينية والعبادات.

وكان للإنسان العربي فضل في إثبات ملاحظاته وتدوين أرصاده شأن الشعوب القديمة كالبابليين والفراعنة والإغريق، فالآيات القرآنية صريحة في الحديث عن عظمة الله في خلق السماوات والنجوم والكواكب، والحاجة إلى ضبط أوقات الصلوات والمواسم الدينية واتجاه القبلة تحتم على العقل المسلم ضرورة تحري هذه المعارف وضبطها وتدوينها وإتاحتها للناس لحاجتهم الماسة إليها.

علم الفلك - نشأته ومساهمة علماء الإسلام فيه

والمسلمون الذين عنوا بنقل المعارف القديمة الهندية والفارسية والإغريقية عنوا بترجمة التراث الفلكي القديم وهضمه ثم الإضافة إليه. فالبابليون مثلا تركوا معجزات في المعرفة الفلكية لعل أهما "الساروس" أي الدورة والتي تعني أن كل كسوف شمسي يتكرر بعد 11 سنة تقريبا، كما اكتشفوا فلك البروج  ويعني ذلك المسار الذي تتبعه الشمس في حركتها الظاهرية خلال العام.

والإغريق منذ أرسطارخس وإيراتوستين قعدوا المعارف الفلكية مستعينين بالرياضيات، فاستطاع إيراتوستين حساب محيط الأرض مسترشدا ببئر شهيرة في الإسكندرية،  ويعد بطليموس أبا العلوم الفلكية فهو الذي جمعها ونسقها وبوبها في كتابه العظيم" المجسطي في الفلك"، والعنوان يوحي بالفخامة والعظمة.

وهضم العقل المسلم تلك المعارف  ثم شرع في نقدها وتقديم الإثراء والقواعد والاكتشافات الجديدة، شأن عبد الرحمن الصوفي الذي استدرك على بطليموس بعض النجوم فيما يعرف بالمجموعات النجمية في كتابه الشهير "صور الكواكب الثمانية والأربعين"، والبتاني دارس قوانين حركة القمر ، وعمر الخيام مصلح الأزياج، والبيروني المتبحر في النجوم حتى عده الغربيون أعظم عقل في التاريخ على الإطلاق. 

علماء الإسلام أعادوا الأرض إلى موقعها الحقيقي

كانت الاكتشافات الإسلامية قاعدة علمية. ولعل أعظم نظرية إسلامية هي تلك التي نسفت نظرية بطليموس الذي جعل الأرض محور الكون والنجوم والكواكب والشمس تدور حولها منخدعا بالحركات الظاهرة لها، فأعاد علماء الإسلام الأرض إلى موقعها الحقيقي فجعلوا الشمس محور الكون والكواكب تدور حولها.

وكانت هذه النظرية سندا لكوبرنيكوس في إذاعة نظريته الجديدة تلك التي شكلت ثورة في علم الفلك في العصر الحديث، ثم استعان بها كبلر وغاليليو ونيوتن. ويكفي العقل المسلم فخرا أن أسماء كثير من النجوم مازالت بأسمائها العربية في الأطالس الفلكية الحديثة  كفم الحوت والدبران وسعد السعود والطائر وهناك أكثر من تسعين نجما مثبتا باسمه العربي في الأطالس الفلكية الأمريكية والأوروبية. واستدرك البيروني على إيراتوستين  في حساب محيط الأرض واقترب كثيرا من الرقم الحقيقي.

 

 

هذا غيض من فيض المعارف الإسلامية الفلكية التي توجت المسلمين سادة العلوم الفلكية في العصر العباسي خاصة، مما جعل العلامة جورج سارتون يفرد لهم جزءا خاصا في كتابه العظيم "مقدمة لتاريخ العلم" وأثنى عليهم كل المستشرقين الغربيين كتوينبي وستانوود كوب وآدم ميتز وغوستاف لوبون وغيرهم.

علاقات تاريخية بين الأدب والفلك

عرف ابن خلدون الأدب بأنه الأخذ من كل فن بطرف، أي: نصيب. ولا غرو إن وجدنا الثقافة الفلكية حاضرة في الشعر والنثر القديم والحديث، بل رأينا كثيرا من الأدباء يتوفرون على معرفة فلكية دقيقة وصحيحة بحسب ما توفر في ذلك الزمن من معارف.

والمعرفة الفلكية حاضرة بمفرداتها في النص القرآني وتشكل دافعا للعقل لسبر أغوار الكون وللعين لتسريح النظر في آفاق السماء: "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون"، "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول الخلق نعيده"، "وعلامات وبالنجم هم يهتدون"، "والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب"، "وأنه هو رب الشعرى".

وترى تلك المعرفة الفلكية البسيطة -المبنية على الملاحظة والتجربة والتي شكلت نواة المعرفة الفلكية قبل الإسلام- حاضرة في الشعر والنثر ففي الأمثال العربية القديمة: "أريها السها وتريني القمر"، فالسها نجم خفي في كوكبة الدب الأكبر وفي الذيل تحديدا كانت تمتحن به قوة البصر ومن يراه بعينه المجردة فإن بصره حديد، ومعنى المثل أنك توضح لشخص أمرا دقيقا أو خفيا فيعرض عنه ويتحدث لك عن الجلي الواضح كمن يشير إلى القمر، ومن لا يرى القمر؟

نجوم وكواكب في الشعر العربي

وشكلت النجوم بجمالها وسموها والشمس بعظمتها وفائدتها والقمر بلونه الماسي تشبيهات بليغة وكنايات لطيفة واستعارات بديعة في الشعر كما جاء في قول النابغة:

فإنك شمس والملوك كواكب *** إذا طلعت لم يبدُ منهن كوكب

فإنك كالليل الذي هو مدركي *** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وفي قول لبيد بن ربيعة:

 

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع *** وتبقى الديار بعدنا والمصانع

 

وفي معلقة امرئ القيس الشهيرة الخالدة المتأملة في جمال الليل ووحشته والوسواس الطارئ على الخاطر والخوف المقترب من صميم القلب:

 

وليل كموج البحر أرخى سدوله      علي بأنواع الهموم ليبتلــــــــي

قفلت له لمـــــــا تمطى بصلبه        وأردف أعجـازا وناء بكلـــكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجــــلِ      بصبح وما الإصباح منك بأمثـل

فيا لك من ليل كأن نجومــــــــه      بكل مغار الفتل شدت بيذبــــل

 

 

ويرد كثيرا في شعر الجاهليين ذكر الأنواء ومفردها نوء وهي تعني أفول نجم في المغرب وطلوع نظيره من المشرق، والنوء مرتبط بنزول الغيث  ونمو النبات وتوفر الكلأ حتى قالت العرب في أقوالها: "مطرنا بنجم السماك الأعزل" أو بنجم الشرطان أو النثرة ... وبقيت هذه الكلمة في كلامنا الدارج فنطلقها على المطر عامة.

والأنواء مرتبطة بمنازل القمر في ثمان وعشرين منزلة ينزل القمر في كل ليلة في واحدة ومنها الشرطان والبطين والدبران وسعد السعود وسعد الأخبية وسعد الذابح وسعد بلع ... ويحضر ذكر هذه المنازل في أشعار الجاهليين كثيرا.

القاهرة - مدينة فلكية بامتياز

ومن الطرائف التي تساق في هذه المقام أنه إذا كان نجم الشعرى اليمانية قد ارتبط بضبط السنة الشمسية وكان شروقه في الفجر إيذانا بفيضان النيل وما يتبع ذلك من ماء وطمي ورزق وزراعة فإن القاهرة عاصمة المعز اسمها فلكي تماما فالقاهر اسم المريخ، كما أن كيوان اسم زحل والمريخ في العربية الجميل الحسن، فلا شك أن ذلك الكوكب الأحمر الجميل والمرهب قد أثار بحسنه خيال المعز وبُناة العاصمة فقرر تسمية المدينة الجديدة على القاهر أي المريخ وهكذا طلعت القاهرة فلكية بامتياز.

ومما ورد من إشارات فلكية لطيفة في الشعر الأموي قول شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة:

 

أيها المنكح الثريا سهيلا *** عمرك الله كيف يلتقيان؟

هي شامية إذا ما استقلت: وسهيل إذا استقل يمان

 

والثريا التي يتحدث عنا الشاعر كانت امرأة فاتنة أحبها عمر لكنها تزوجت من سهيل وهو غير كفؤ لها بحسب رأي الشاعر فكيف تم الجمع بينهما؟ وهل يمكن الجمع بين الثريا تلك النجوم الست المجتمعة في برج الثور والتي تنتمي للسماء الشمالية ونجم سهيل في كوكبة الجؤجؤ  المنتمي لجنوب الكرة السماوية والذي يرى من نصف الكرة الجنوبية وهو نجم عملاق يبعد عن الأرض بـ 400 سنة ضوئية ويتخذ كنقطة مرجعية في توجيه السفن الفضائية في رحلاتها بين الكواكب إضافة إلى الشمس.

معرفة فلكية عجيبة

لكن المعرفة الفلكية تظهر بشكل جلي في شعر أبي العلاء المعري والذي يدفع إلى الحيرة في ذلك كون الشاعر ضريرا، فكيف تهيأت له هذه الدقة في الوصف للكواكب والنجوم  والتي يعجز عنها المبصرون؟

في مرثيته الشهيرة لأبي حمزة الفقيه والتي مطلعها:

غير مجد في ملتي واعتقادي *** نوح باك ولا ترنم شاد

الأبيات الأخيرة فلكية بامتياز:

 

زحل أشرف الكواكب دارا *** من لقاء الردى على ميلاد

ولنار المريخ من حدثان الد *** هر مطف وإن علت في اتقاد

والثريا رهينة بافتراق الــ *** شمل حتى تعد في الأفـــــــــراد

واللبيب اللبيب من ليس يغت *** ر بكون مصيره للفســـــــاد

 

 

وفي قصيدته الشهيرة "عللاني" وهي قصيدة شبابية نافس فيها المعري المبصرين معرفة دقيقة بالمجموعات النجمية وحركتها الظاهرية وغروبها وشروق غيرها بلغت حد الإعجاز:

 

رب ليل كأنه الصبح في الح *** سن وإن كان أسود الطيلسان

ليلتي هذه عروس من الز *** نج عليها قلائد من جمــــــــــــان

وكان الهلال يهوى الثريا *** فهما للوداع معتنقــــــــــــــــــان

وسهيل كوجنة الحب في اللو *** ن وقلب المحب في الخفقان

ضرجته دما سيوف الأعادي *** فبكت رحمة له الشعريـــــــان

ثم شاب الدجى وخاف من الهجـ *** ـر فغطى المشيب بالزعفران

ونضا فجره على نسره الوا *** قع سيفا فهم بالطيـــــــــــــــــران

 

فهو هنا يشير إلى الهلال والثريا والشعرى الشامية واليمانية والنسر الواقع بشكل دقيق لا يعرفه المبصرون.

وتحدث المعري في أشعاره عن الاقتران أي اجتماع الكواكب، وهي ظاهرة فلكية دورية حيث تقترب الكواكب من بعضها للراصد الأرضي ومن أهمها اقتران المشتري بزحل وكان العرب يتفاءلون به خيرا:

 

قران المشتري زحلا يرجى *** لإيقاظ النواظر من كراها

وهيهات البرية في ضلال *** وقد فطن اللبيب لما اعتراها

تقضى الناس جيلا بعد جيل *** وخلفت النجوم كما تراهــا

بل تساءل عن مولد الشمس القديم في مثل قوله:

 

ومولد هذي الشمس أعياك حده *** وخبر لب أنه متقادم

 

وفي قصيدة وصف" معركة عمورية" وهي قصيدة خالدة من قصائد الشعر العربي العباسي يتحدث الشاعر عن ظهور مذنب لعله مذنب هالي وتشاؤم المنجمين منه واعتقادهم بخسارة المعركة إذا قرر المعتصم خوضها والمذنب في السماء، ومن الحكمة تأجيل الحرب لكن المعتصم كفر بالمنجمين واحتكم إلى السيف وحرر عمورية وكسب المعركة:

 

السيف أصدق إنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعــــــــب

بيض الصفائح لا سود الصحائف *** في متونهن جلاء الشـــك والريب

والعلم في شهب الأرماح لامعة *** بين الخميسين لا في السبعة الشهــــب

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة *** إذا بدا الكوكب الـــــــغربي ذو الذنب

وصيروا الأبراج العليا مرتبة *** ما كــــــــــــــــان منقلبا أو غير منقلب

 

معارف فلكية برهانية وعيانية في النثر العربي

كما تحضر المعارف الفلكية البرهانية والعيانية في النثر في خطب الإمام علي في نهج البلاغة وفي مقامات الهمذاني والحريري ناهيك عن نثر الرازي والكندي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وإخوان الصفا وغيرهم.

الثقافة الفلكية في الأدب الحديث ونماذج لأدباء اشتغلوا بالفلك

بتطور العلوم في العصر الحديث هذا التطور الرهيب ومنها علم الفلك الذي كشفت لنا فيه المراصد عن عوالم جديدة لم نكن نسمع بها ولا أسلافنا من سدم ومجرات وكوازارات وعدسات تثاقلية وثقوب سوداء وغيرها، وأمام الفضول المتزايد لاكتناه سر المجهول واستجابة فطرية لقوله تعالى"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" خاض كثير من الأدباء في لجة السماء راصدين ودارسين ومستمتعين، ونجد حضورا قويا للنجوم والكواكب والأقمار في أشعارهم، حتى إن السياب الذي أقعده المرض في عز شبابه وطوح به الألم تمنى نفسه سندبادا لا يخوض في بحر الأرض بل في بحر السماء حيث النجوم سفن والهلال زورق وهو السندباد:

 

وفي المساء كنت أستحم بالنجوم

عيناي تلتقطهما نجمة فنجمة وأركب الهلال سفينة

كأني سندباد في ارتحال

شراعي الغيوم ومرفئي المحال

 

 

ولعل محمود باشا الفلكي هو أكبر عربي خاض في الفلك وجمع بين التاريخ والأدب والعلم، وقد حقق الكسوف الذي وقع في زمن النبي عليه السلام يوم وفاة ولده إبراهيم وحدد مدته والساروس الذي ينتمي إليه والمناطق التي مسها من الكرة الأرضية.

ولعميد النثار في القرن التاسع عشر الشيخ ناصيف اليازجي في كتابه البديع " مجمع البحرين" أي الشعر والنثر مقامة فلكية ذكر فيها منازل القمر، وأسماء البروج، والأنواء وأسماء الشهور القمرية قديما وأيام الأسبوع الجاهلية، وحذا حذوه ولد إبراهيم فاشتغل بالمعارف الفلكية فضلا عن تبحره في اللغة العربية، وتحضر المعرفة الفلكية في كتابات جرجي زيدان ويعقوب صروف وشبلي شميل وفرح أنطون وغيرهم.

ولعل المعرفة الفلكية تحضر بشكل جلي في كتبات الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي السابق والعالم الكيمائي وصاحب كتاب فلكي أدبي بامتياز "مع الله في السماء". وفي كتابات مصطفى محمود الذي اشتغل بالفلك وهو الطبيب المختص في الأمراض الصدرية والصوفي النبيل وقد بنى مسجدا في الزمالك وبنى إلى جواره مرصدا صغيرا حتى يتعبد المؤمن في المحراب وفي قبة السماء معا، وقد دعا الكاتبَ الكبير نجيب محفوظ إلى زيارة المرصد ولبى نجيب الدعوة وقال عقب ذلك: لقد رأيت أشياء رهيبة.

 

فالعلم يقود إلى الإيمان والعلم غذاء والدين دواء كما ذكر حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي.

 

إبراهيم مشارة

حقوق النشر: إبراهيم مشارة / موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de