"آخر الرجال في حلب"... بقايا الإنسانية في سوريا المنكوبة

لا يعتبر "آخر الرجال في حلب" مجرد فيلمٍ وثائقيٍ إضافي عن سوريا، بل يعتبر من الأفلام القليلة المصورة بشكل حَرِفي من الداخل السوري، وتركز على الجانب الإنساني للشخصيات ضمن الفيلم، بعيداً عن التركيز على الحدث السياسي والعسكري بحد ذاته. الفيلم يسلط الضوء على قصة اثنين من عمال "الخوذ البيضاء"، وتفاصيل الحياة اليومية أثناء الحرب.

الكاتبة ، الكاتب: راما الجرمقاني

أٌطفئت الأنوار في قاعة السينما، لتحبس الأنفاس أمام ما يقارب ساعتين من الألم والأمل المكثف، حملهما الفيلم الوثائقي "آخر الرجال في حلب"، لمخرجه فراس فياض، الذي يتناول تفاصيل الحياة اليومية لاثنين من عاملي الدفاع المدني في مدينة حلب السورية، أو ما يعرف بفريق "الخوذ البيضاء"، خلال عامٍ من الحرب والقصف المكثف على المدينة بين عامي 2015-2016.

الفيلم الوثائقي استغرق العمل عليه 3 سنوات، إذ بدأت التحضيرات منذ العام 2013، ليبدأ تصويره بالتعاون مع مكتب حلب الإعلامي، وبإنتاجٍ دنماركي، وذلك ضمن الجزء الشرقي من مدينة حلب الخاضع لسيطرة المعارضة.

وركز الفيلم على حياة عاملين من الدفاع المدني هما خالد ومحمود، حيث رصد تحركاتهما اليومية وكيفية أدائهما لعملها، وطريقة تعاملهما مع أسرتيهما وواقعهما، بما تحمله هذه اليوميات من تناقضات، تشبه قصص العديد من السوريين ممن يعيشون تحت نيران الحرب.

هكذا يعيش الناس في الحرب!

حول كيفية انجاز الفيلم، يقول المخرج فراس فياض "التحضير للفيلم استغرق ثلاث سنوات، ففي العام 2013 تواصلت مع رائد صالح وهو مؤسس "الخوذ البيضاء" وكنت وقتها قد دخلت مناطق المعارضة في سوريا عدة مرات، وكنت أساعد في التصوير، وأتعرف على ما يجري على أرض الواقع بدقة، وبعد ذلك عندما تكونت لدي الصورة كاملة. بدأت ببناء الشخصيات، والتواصل معهم، وكان هناك صراع حول ما الذي يجب تناوله في البداية: الحرب أم ظروف عملهم أم حياتهم الشخصية، حتى اكتملت الفكرة وبدأنا التصوير في العام 2013".

"آخر الرجال في حلب" حط رحاله في ألمانيا ضمن سلسلة من العروض الخاصة بحضور المخرج استمرت بين 26 شباط حتى أول آذار في عدد من المدن الألمانية، على أن يبدأ عرضه في بعض دور السينما بعد 16 آذار الحالي. 

وكان الفيلم قد حاز على جائزة مهرجان "سانداس" السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكية " كأفضل فيلم في العالم بداية العام 2017، حيث كان مرشحاً مع فيلم "سيتي أوف غوستس" (مدينة الأشباح) الذي يروي قصة نشطاء مجموعة "الرقة تذبح بصمت"، و"كرايز فروم سيريا" (صرخات استغاثة من سوريا) للمنتج والمخرج الأمريكي يفغيني أفينفسكي عن الحركات الاحتجاجية في سوريا.

بدأت في ألمانيا سلسلة عروض خاصة للفيلم الوثائقي السوري "آخر الرجال في حلب". الفيلم نال جائزة سانداس كأفضل فيلم بالعالم عام 2017.
بدأت في ألمانيا سلسلة عروض خاصة للفيلم الوثائقي السوري "آخر الرجال في حلب". الفيلم نال جائزة سانداس كأفضل فيلم بالعالم عام 2017.

ولا يعتبر "آخر الرجال في حلب" مجرد فيلمٍ وثائقيٍ إضافي عن سوريا، بل يعتبر من الأفلام القليلة المصورة بشكل حَرِفي من الداخل السوري، وتركز على الجانب الإنساني للشخصيات ضمن الفيلم، بعيداً عن التركيز على الحدث السياسي والعسكري بحد ذاته، إذ يظهر الفيلم الشخصيات تتمشى في أسواق حلب وترقص وتغني، وربما هذا ما استدعى بعض الحضور للتساؤل حول كيف يؤمن هؤلاء قوت يومهم. وهنا يشرح المخرج فياض "حلب وريفها مناطق زراعية، والناس تؤمن احتياجاتها مما تزرع، كذلك تساهم المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات الكردية في عفرين بمد حلب وريفها بالمؤن وهو أمر غير معروف لدى الكثيرين".

البعض رأى في حوار بعض الشخصيات نوعاً من التكلف والافتعال، حيث عرض الفيلم عدة مشاهد حوارية بين أبطاله جاءت بطريقة معدة مسبقاً، لا تتناسب مع العفوية التي كانت أثناء لقطات انتشال الجثث، لكن هذه الحوارات لم تكن خارج السياق إذ أظهرت بعض التناقضات التي يعيشها البعض، كالمشهد الذي أخبر فيه محمود رفاقه أنه عليه مغادرة مكان الهدم، والتوقف عن انتشال الجثث لأن لديه حفل زفاف يجب أن يحضره، ليتم تسليط الضوء على تناقضات قد لا تبدو معروفة لمن لم يعش داخل سوريا، إذ أن الحياة دائماً تستمر حتى في أسوإ الظروف.

يقول فراس فياض "أردنا أن نقوم بعمل يركز على الجانب الإنساني، وعلى العمل النبيل لعمال الدفاع المدني، أردنا الناس أن يعلموا بأن هؤلاء بشر لديهم عائلات، ويعيشون الحزن والفرح مثل جميع الناس، ويتحملون كل الظروف للبقاء في مدينتهم، فهم لا يملكون خيارًا آخر سوى الدفاع عنها، وأن من قرر اللجوء للخارج لم يأت ليتنزه إنما كان يعيش ظروف سيئة أجبرته على الهرب".

سوريا ليست القاعدة وداعش!

لم يتطرق "آخر الرجال في حلب" إلى المعارك التي كانت تدور في المدينة، فجاءت كحدث هامشي لم يذكر، كما لم يبرز المخرج المشاكل التي يتعرض لها أحياناً العاملون في الحقل الإنساني مع المقاتلين، كما لم يظهر أي من المقاتلين في الفيلم، ويوضح هذا المخرج فراس فياض: "لم نتطرق لهذه المواضيع لأن من شأنها أن تشوش على ما أردنا أن نقوله ونركز عليه، وهو العمل الإنساني، والحياة القاسية لمن اختار البقاء في بيته وأرضه، أردنا أن نقدم فيلم يتحدث عن الإنسان فقط، لا عن الحرب، بل كيف يعيش الإنسان في الحرب، فاليوم عندما تذكر سوريا يتبادر إلى أذهان الناس القاعدة وداعش فقط، لا أحد ينتبه إلى أن هناك بشر يريد أن يعيش بحرية".

لم يغفل الفيلم التطرق لعلاقة موظفي الدفاع المدني مع عائلاتهم وأسرهم، إذ يظهر خالد مع ابنتيه في أكثر من مشهد في الفيلم، كما يركز المخرج على حديثه معهم عبر برنامج "واتس اب" عندما يكون بعيدا، كذلك يبدي محمود قلقه أكثر من مرة على شقيقه الذي لا يريد أن يخرج معه في عمليات الإنقاذ كي لا يصيبه مكروه، ليشير المخرج إلى بعد آخر من حياة عمال "الخوذ البيضاء".

لكن النساء تم غبنهن في الفيلم بشكل كبير، حتى زوجة خالد لم تظهر في أي لقطة، ولو عبر تسجيل صوتي، ويقول فياض "ليس بين عمال الدفاع المدني نساء، لذلك كانت المرأة بعيدة عن الفيلم، وعندما كنت أقوم بالبحث، لم أجد ضمن الفريق سيدات يمكن أن يكن جزء منه، وجدت سيدات ناشطات بمجالات أخرى كالعمل الصحفي لكن هذا خارج إطار الفيلم".

في بداية الفيلم، تحكى المقدمة على خلفية سمكة تسبح ضمن حوض، ليعود السمك في لقطات وسط الفيلم، عندما يتوقف خالد لشراء بعض سمك الزينة الملونة، ويتم بعدها القطع بين حياة خالد وكيفية اعتنائه بالسمك، التي جهز لها حوضاً في مقر فريق الدفاع المدني. بضحكة طفولية، يشتري خالد سمكاته الملونة، ويخبر صديقه انه كالسمك لا يمكنه أن يخرج من حلب، فهل كان السمك رمزاً وضع عليه بناء الفيلم منذ البداية، يجيب فراس فياض "لم يكن الأمر مقرراً، لكن مرة اتصل بي المصور ليخبرني أن خالد يريد التوقف لشراء السمك، فقلت له: هذه هي القصة، دعه يشتريه وصور ما سيقوم به، وبعدها بدأنا نكتشف جانبا آخر من شخصية خالد، وأبرز السمك مدى تعلقه بالمدينة، ومقدار حبه للعائلة، من خلال اعتنائه بسمكه".

ليست "الخوذ البيضاء" فقط

الفيلم يختتم بجنازة خالد، الذي قتل خلال أدائه لمهمته الإنسانية، ويتبعه خروج محمود مع من تبقى من رفاقه إلى إدلب، بعد الاتفاق الأخير الذي أفرغ حلب الشرقية من المقاتلين وعائلاتهم والعمال الإنسانيين أيضاً، كذلك خرجت زوجة خالد وبناته إلى تركيا، بعد أن وضعت طفلاً أسمته خالد على اسم زوجها.

لم يخطر لأبطال الفيلم الخروج قبل وقت لحماية أنفسهم، هي نقطة يركز عليها المخرج فراس فياض، إذ أنهم اعتبروا أن وجودهم مهم جداً لحياة الآخرين، مع أن خالد يضعف في أحد المشاهد، ويحاول أن يتفق مع مهرب لتأمين خروجه من حلب، لكنه يستمر في عمله حتى موته.

بطل فيلم "آخر الرجال في حلب"..
بطل فيلم "آخر الرجال في حلب"..

جح "آخر الرجال في حلب" في إبكاء الجمهور وإضحاكه في مواقف عدة، كما نجح في إبراز حجم المأساة السورية، عبر نظرة أخرى غير موضوع اللاجئين، أو الصراع السياسي والعسكري، وعلى الرغم من غياب بعض التفاصيل التي اعتبرها بعض الحضور تجميلاً للواقع، لكن هذا الأمر كان متوقعاً وسط زوبعة النقاش التي أثارها فيلم "الخوذ البيضاء" الذي أنتجته شبكة "نيتفليكس" الأمريكية مسبقاً، وتمكن من الحصول على جائزة الأوسكار.

لكن المخرج يرفض المقارنة بين الفيلمين ولو كانا يتطرقان لنفس الجهة، ويقول فراس فياض لـ DW عربية "موضع فيلم "آخر الرجال في حلب" ليس فقط عن القبعات البيضاء كمنظمة، فالفيلم عن حكاية أب لديه طفلتين يعمل في مجال الإنقاذ، وأخ كبير لديه مسؤولية حماية أخيه الذي يعمل في مجال الإنقاذ أيضاً، ومن خلال هاتين الشخصيتين نتتبع التغيرات السياسة وتأثيرها على حياة المدنيين".

ويضيف فيلم "آخر الرجال في حلب" صنع من خلال صانع أفلام سوري، عاش التغيرات وكان جزءاً منها، كذلك من خلال فريق سوري، بينما كان مخرج فيلم "الخوذ البيضاء" بريطاني ما يعرفه عن سوريا هو ما يراه في الأخبار أو يقرؤه في الصحف، ومعرفته بالشخصيات لم تتجاوز فترة العمل علي الفيلم التي استمرت شهراً واحداً فقط، بينما معرفتي كمخرج بالشخصيات تمتد إلى سنوات وبالتالي فهم القصة، كما أن طريقة نقل القصتين مختلفة".

 

راما الجرمقاني

حقوق النشر: دويتشه فيله 2017