ليبيا ودبلوماسية أطول ماراثون في التاريخ

هل يكون وقف إطلاق النار الليبي طويل الأمد برعاية عواصم دولية متصارعة على مصير ليبيا، وتنبثق عنه حكومة وحدة وطنية -بمدينة سرت الليبية- بين إخوة ليبيين أعداء؟ أم يتدهور الوضع إلى صراع إقليمي خطير ويكون البديل اشتعال نزاع دموي تدميري موسع ليبي-ليبي في ليبيا وإقليمي-إقليمي على ليبيا؟ الكاتب الليبي فرج العشة يستحضر لموقع قنطرة بعض ما شهده خط سرت-الجفرة من صراعات دولية على مدى 2500 سنة.

الكاتبة ، الكاتب: فرج العشة

منذ 2014، تحديداً، وليبيا خائضة في متوالية نزاعات داخلية مسلحة، لأسباب متباينة ومتقاطعة: سياسية/ أيديولوجية/ جهوية/ قبلية/ عرقية/ لصوصية إجرامية.

نزاعات تضخمتْ شيئاً فشيئاً بمزيد من التدخل الخارجي السلبي (إقليمياً ودولياً) إلى أن وصلت الأحوال إلى حافة حرب فاصلة بين قوات شرق البلاد التي يقودها الجنرال خليفة حفتر وقوات غرب البلاد التابعة لحكومة الوفاق في طرابلس. حيث يُشكّل خط سرت ـ الجفرة جبهة المعركة الكبرى المحتملة.

وهي كبرى لأن مآلها (حرباً أو سلماً) صار موضوع مخططات جيوسياسية بيد متنازعين إقليميين ودوليين على ليبيا وليس لصالح ليبيا. وأبرزهم الأتراك (في صف قوات حكومة الوفاق في الغرب) والروس (في صف قوات الجيش الليبي بقيادة الجنرال حفتر في الشرق) كأنهما (الأتراك والروس) يُعيدان إنتاج لعبتهما المعتادة في سوريا، يتجاذبان ويتشدان ويتفاهمان.

هنا في ليبيا يرسم خط سرت ـ الجفرة حدّاً فاصلاً بين غرب البلاد وشرقها، تعود الذاكرة التاريخية بالليبيين إلى ما قبل نحو 2500 سنة، عندما باتتْ بلادهم موضوعاً للتقسيم بين امبراطوريتين متصارعتين في سبيل الهيمنة على سواحل البحر الأبيض المتوسط. وهما الإغريق المسيطرون على شرق ليبيا وعاصمتهم "قوريني" (مدينة البيضاء الحالية) والفينيقيون المسيطرون على غرب البلاد وعاصمتهم "أويا" (مدينة طرابلس الحالية).

أسلوب الدبلوماسية الرياضية

كانت المنازعات والاشتباكات الحربية دارجة بينهما قبل أن يتفقا على ترسيم حدود فاصلة بين مستعمرتيهما على الساحل الليبي. ونظرا لأن، آنذاك في تلك العصور، لم يكن ثمة مؤرخون مدونون للوقائع الموثقة، تَحضُر الحكاية الشفوية المتداولة عبر القرون بروحها الميثولوجية بديلاً لتفسير أحداث التاريخ الماضية.

 

بيان المجلس الأعلى للدولة في ليبيا (حكومة الوفاق الوطني الليبية)
وقف الأعمال القتالية: أعلنت حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، المعترف بها دوليا ومقرها طرابلس، يوم الجمعة 21 / 08 / 2020 وقف إطلاق النار كما دعا رئيس البرلمان في الشرق أيضا لوقف الأعمال القتالية في البلاد. لكن جهودا سابقة للتوصل لوقف إطلاق نار دائم باءت بالفشل. ولا يملك الزعماء السياسيون الكثير من النفوذ على الجماعات المسلحة في غرب وشرق البلاد المقسمة منذ 2014. وتحتشد قوات موالية للجانبين وداعميهم الدوليين حول مدينة سرت في وسط البلاد وسط جهود دبلوماسية لتجنب التصعيد. وبعد مناشدات دولية لوقف إطلاق النار وإعلان محيط مدينة سرت منطقة منزوعة السلاح، ذكرت حكومة الوفاق الوطني أن رئيسها فائز السراج أصدر "تعليماته لجميع القوات العسكرية بالوقف الفوري لإطلاق النار وكافة العمليات القتالية في كل الأراضي الليبية". ولم يصدر تعليق بعد من حفتر ولا من جيشه "الوطني الليبي" لكن عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي في الشرق، الموالي لحفتر، كان قد أصدر بيانا يوم الخميس يناشد بإنهاء الأعمال القتالية في أنحاء البلاد.

 

تقول المرويات القديمة (التي كُتبتْ بعد ذلك بقرون) إن الإغريق والفينيقيين التجأوا إلى أسلوب الدبلوماسية الرياضية من خلال إجراء سباق ماراثوني متعاكس لتحديد الحد الفاصل بينهما. بحيث ينطلق عدّاءان فينيقيان من مدينة صبراتن (صبراتة الحالية) التي تبعد عن أويا (طرابلس) قرابة ستين كيلومتر، في الوقت نفسه الذي ينطلق فيه عداءان إغريقيان من مدينة أريوثريوم (الأثرون الحالية) التي تبعد بالمسافة نفسها تقريبا عن العاصمة "قوريني". على أن يكون الموضع الذي يلتقي فيه العداؤون الأربعة نقطة ترسيم الحدود. (يذكر المؤرخون الرومان القدامى اللقب العائلي للعدّائين الفينيقيين. وهما الأخوين أو التوأمين فيليني (Philaeni). دون ذكر لاسمي العدائين الإغريقيين!).

وهكذا جرى أطول ماراثون عرفته البشرية في حضور مراقبين مُحكَّمين من فريقين مختلطين من الفينيقيين والإغريق. فريق في الشرق ومثله في الغرب يرافقون عدائي الطرفين طوال مسيرة ركضهم واستراحاتهم لمئات الكيلومترات حتى وقت التقائهم. وللحكاية نهايات متباينة. لكن كلها تتصل بمصير الأخوين فيليني.

فعند نقطة التقاء المتسابقين الأربعة احتج المراقبون الإغريق متهمين الفينيقيين بالغش والتلاعب من طريق استغلال فارق توقيت شروق الشمس بين الشرق والغرب. وأنهم أكثروا عن قصد من إكرام المراقبين الإغريق بموائد الطعام والخمر وأجمل النساء ليستيقظوا بعد ساعات من انطلاق الموعد المحدد لانطلاق السباق المعاكس.

أنكر الأخوان فيليني التهمة المهينة وطالبا في حالة انفعال وطني أن يدفنا حيين في موضع الالتقاء، تضحية من أجل شرف فينيقيا. فقبل الإغريق بالأمر. دُفن الأخان في نقطة الالتقاء بمنطقة ماكوماديس بالقرب من سرت الحالية. وأقيم مذبحان مقدسان لقبريهما تكريما لتضحيتهما البطولية. وسوف يذكر المؤرخ اليوناني الشهير استرابون  Strabon أن المذبح لم يكن له وجود في عصره (66 ق.م. – 21 م) عندما قهر الرومان القوتين الفينيقية والإغريقية معاً، ووحدوا البلاد تحت سلطانهم الجامع المانع.

 

......

طاِلع أيضا

آن الاوان لاستعادة الدور المحوري لمصر في ليبيا

تنافس بين تركيا وفرنسا على "كعكة المغرب العربي"

هل تحوِّل روسيا ليبيا إلى سوريا جديدة؟

......

 

حكاية شفوية مُشوِّقة

لكن الحكاية الشفوية المُشوِّقة عن الموضع الحدودي المندثر بقيت حية في أذهان السكان. مرّ، بذلك الموضع، الجيش الإسلامي القادم من الشرق بقيادة عقبة بن نافع داحراً الرومان، ثم مرّ جيش موسى بن نصير في طريقه لفتح الأندلس.

جاء المستعمرون الطليان في صورة رومان جديد متماهمين بعظمة روما القديمة. ورغم أنهم وحدوا ليبيا في خريطتها الحديثة بحسبانها ملحقة بإيطاليا، إلا أن الحكاية القديمة عن الحد الانفصالي بين الإقليمين كانت في ذهنهم، فلما أكملوا مد الطريق الساحلي المعبد العام 1937 من حدّ البلاد غرباً إلى حدّها شرقاً، استهواهم  أن يتركوا في الموضع الحدودي المندثر أثراً تذكارياً يُمجد عودتهم. وهم من حددوا، بحسب تكهنهم، موقع مذبح الأخوين فيلاني المُفترض. حيث شيدوا نصباً تذكارياً ذا فخامة، مزيناً بقوس نصر تمجيداً للأخوين فلليني. وبنوا لهما ضريحين من الحجر الرملي. وصُنعوا لهما تمثالين ضخمين من البرونز بطول 5 أمتار، وهما في وضعية الاضطجاع.

 

 

وكان الدوتشي موسوليني (قيصر روما الفاشستية) هو من أزاح الستار عن النصب أثناء زيارته لمستعمرته الليبية بتاريخ 16 مارس 1937م ناظراً بعظمته المسرحية المعهودة إلى أعلى القوس حيث نُقشت العبارة اللاتينية:" ALME SOL POSSIS NIHIL VRBE ROMA VISEREMAIVS" وتعني:"لن ترى شيئاً في العالم أكبر من روما ".

بعد استقلال ليبيا

وبعد استقلال ليبيا (1951) طُمست العبارة اللاتينية في تمجيد روما ونُقش بدلا عنها أبيات شعر وطني ركيك على منوال: شاد البغاة بناء يبتغون به/ تخليد روما وشاء الله أن يقعوا/ ما شأن روما بقوم أصلهم عرب/ ودانوا بما قال خير الخلق واتبعوا/ هذى بلادى هدى الإسلام يحفظها/ والله أكبر فى الآفاق ترتفع.

وكان دستور دولة الاستقلال الملكية قد اعتمد نظام الحكم الفيدرالي المُكوَّن من ثلاثة أقاليم (برقة شرقا وطرابلس غربا وفزان جنوبا) باسم "المملكة الليبية المتحدة". ثم جرى تعديل الدستور العام 1963 لصالح إلغاء نظام الحكم الفيدرالي وإحلال نظام الحكم المركزي باسم "المملكة الليبية".

ولما سقط النظام الملكي بانقلاب الضباط القومويين العرب الصغار، كان من أهم توجهاتهم هدم النصب من أساسه ومسح أي أثر له، بحسبانه رمزاً تاريخياً مهيناً لانفصال البلاد بين الشرق والغرب، وهم الذين ثاروا في سبيل توحيد الأمة العربية برمتها.

حكاية بائدة تعاود نفسها عند خط سرت-الجفرة

وها هي الحكاية البائدة تعود لتطرح نفسها عند ما صار يُعرف بـ" خط سرت ـ الجفرة" القريب شرقاً من موضع نصب "الإخوة فيليني" المندثر، وقد استعرت الأحقاد والثارات بين ليبيي الغرب وليبيي الشرق، وعلتْ الدعوات إلى عودة النظام الفيدرالي، وانتعشت النعرة الانفصالية.

 

مقاتل تابع لحكومة الوفاق - ليبيا.
ترحيب بمسعى وقف إطلاق النار: رحبت جهات عديدة يوم الجمعة 21 / 08 / 2020 بمسعى وقف إطلاق النار في ليبيا ومنها مصر والإمارات والسعودية. وأشادت قطر، المتحالفة مع تركيا وحكومة الوفاق، بالخطوة أيضا. وزاد التدخل الدولي في الشأن الليبي منذ بدأ جيش حفتر "الوطني الليبي" هجومه على طرابلس في أبريل نيسان من العام الماضي 2019. ويحظى حفتر بدعم من مصر والإمارات وروسيا. ولا تسيطر حكومة الوفاق سوى على غرب البلاد، ويدور صراع بينها وبين قوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي) بقيادة خليفة حفتر بعد أن شن حفتر حملة عسكرية منذ 14 شهرا من أجل السيطرة على العاصمة قبل أن يُمكّن الدعم التركي حكومة الوفاق من إجبار حفتر على التقهقر في يونيو حزيران 2020.

 

الآن على جهتي الخط الجديد (سرت ـ الجفرة) تتحاشد القوات المتجابهة، وكل جهة مدفوعة ومدعومة من قوى إقليمية ودولية متنازعة النفوذ، فيما تدخل أمريكا على الخط على مستوى منخفض ممثلاً في السفير الأمريكي في ليبيا ريتشار نورلاند، مدعوماً عند الحاجة بتدخلات ترامب الهاتفية مع ماكرون الفرنسي وإردوغان التركي وجوزيبي الإيطالي والسيسي المصري (بينما بقي بوتن الروسي خارج التغطية!).

وقف إطلاق نار طويل الأمد؟

الأفكار الأمريكية المقترحة، التي يحملها ريتشار نورلاند بين العواصم الإقليمية، المتصارعة على مصير ليبيا، مبنية على منع تدهور الوضع إلى صراع إقليمي خطير، من خلال وقف إطلاق نار طويل الأمد، يهيئ لمشروع نزع السلاح حول سرت وإيجاد نوع من الترتيبات الأمنية المحايدة للمدينة، لتصبح أشبه بمنطقة خضراء وسط البلاد تحتضن أعمال حكومة الوحدة الوطنية، التي سوف تنجم عن اتفاق توافقي بين الإخوة الليبيين الأعداء. والبديل اشتعال صراع دموي/ تدميري موسع: ليبي/ ليبي في ليبيا، وإقليمي/ إقليمي على ليبيا.

 

فرج العشة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

 

 

من عاصمة ليبيا وزير خارجية ألمانيا يحذر "هدوء خادع" بينما توقّف القتال بمحيط مدينة سرت الليبية.
من عاصمة ليبيا وزير خارجية ألمانيا يحذر "هدوء خادع" بينما توقّف القتال بمحيط مدينة سرت الليبية.

 

 

[embed:render:embedded:node:38752]