يهود مدينة البليدة
إرث أندلسي عربي عبري تركي فرنسي بمدينة جزائرية

رغم كر قرون ومر أزمان ما زالت مدينة البليدة تحتفظ بملامح تأثير أندلسي وعثماني. إبراهيم مشارة عن مدينة جزائرية لجأ إليها يهود ومسلمون عقب سقوط الأندلس عام 1492.

البليدة تصغير كلمة (البلدة) تلك المدينة الرابضة على سفوح جبال الشريعة وعلى ضفاف وادي سيدي الكبير، والمتاخمة للجزائر العاصمة، تختزن في وهادها وعلى تلالها وحاراتها القديمة قصصا من عبق التاريخ الأندلسي.

فأثناء سقوط الأندلس عام 1492 تعرض المسلمون واليهود هناك لمحنة تاريخية فقد اضطهدوا وصودرت أملاكهم وقتل الكثيرون مما اضطر العائلات الأندلسية المسلمة واليهودية على السواء إلى الهرب باتجاه شمال إفريقيا، المغرب الأقصى والأوسط والأدنى، المغرب والجزائر وتونس حاليا.

وبسرعة اندمج النازحون في المحيط المغاربي العربي والإسلامي وصاروا مغاربة فالمسلمون يقاسمون سكان المغرب العربي الدين واليهود هم أهل كتاب ولا مشاحة في استقبالهم ومنحهم اللجوء وقد تعرضوا لفتنة رهيبة كالمسلمين.

الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة. Brahim Mechara Algerischer Autor Foto Privat
يكتب إبراهيم مشارة: "تعالج هذه المقالة قضية يهود شمال إفريقيا وتحديدا يهود الجزائر في مدينة البليدة التي تأسست في الزمن المورسيكي حيث لجأ إليها المسلمون الفارون من الأندلس عقب سقوطها في 1492 بمعية اليهود وقد تعرض الجميع لفتنة من محاكمات ومصادرة الأملاك وتنصير قسري وسجن وتنكيل وقتل وإرغام على الهجرة ومغادرة الجنة الأندلسية. وفي نفس الوقت وجد اليهود حسن الاستقبال في شمال إفريقيا المغرب الأقصى- المغرب حاليا- والأوسط –الجزائر- والأدنى –تونس- وليس في ذلك عجب فالإسلام كدين يوصي خيرا بأهل الكتاب ويأمر بمجادلتهم بالحسنى وحفظ حقوقهم فقد قال النبي: من( آذى ذميا فقد آذاني). نمت البليدة سريعا في العهد العثماني وبسقوطها في يد الاستعمار تغير الوضع وضع الأهالي واختار اليهود الجنسية الفرنسية ثم نزحوا عن البلد بعد استقلال الجزائر عام 1962، ولا تزال البليدة هي مدينة الورود والأبواب السبعة كما يظهر في مدينتها العتيقة".

هكذا نشأت البليدة التي كانت تسكنها قبيلة أولاد سلطان وهم فرع من بني خليل،  ففي عام 1535 تأسست هذه المدينة بعد أن طلب الولي الصالح سيدي أحمد الكبير من خير الدين السماح باستقبال العائلات الأندلسية الفارة بدينها ووافق خير الدين  وبنى لهم أحياء في "الجون" و"ساحة التوت".

وسرعان ما اندمج مسلمو الأندلس في الحياة الجديدة بالتفاعل مع السكان الأصليين والتصاهر والعلاقات التجارية والمهنية، لكن خير الدين ضرب حول المدينة الناشئة بسور يحميها من غوائل العدوان وجعل لها سبعة أبواب من الخشب تفتح مع الفجر وتغلق عند آذان المغرب باستثناء باب الجزائر الذي كان يغلق عند آذان العشاء نظرا لوقوعه جهة الطريق المؤدي إلى العاصمة ولبعد المسافة تتأخر عودة المسافرين الذين  أمهلوا حتى العشاء.

وكان "البراح" ينادي: الباب،  الباب.. ليخرج الأجانب ومن تأخر يضطر للمبيت مع نعوش الموتى خارج المدينة منتظرا حلول الفجر ليدخل. والأبواب الأخرى هي باب الرحبة وبقربه الكنيسة البروتستانتية وما زالت قائمة إلى اليوم ولكنها مغلقة  وباب القبور بجواره مقبرة لغير المسلمين ثم باب الزاوية  ومن خلاله يمر السابلة إلى زاوية الولي سيدي مجبر وباب الخويخة وهو تصحيف لكلمة الكويخة التركية الأصل وتعني الباب الصغير  وباب القصبة سمي بهذا الاسم لوقوعه في ناحية يكثر بها نبات القصب الحر وأخيرا باب السبت وهو باب شهير ومن خلاله يعبر المتسوقون  بمنتوجاتهم  الفلاحية والراغبون في التبضع إلى سوق موزاية الذي كان ينعقد كل سبت.

وبالرغم من كر القرون ومر الأزمان مازالت البليدة تحتفظ بملامح التأثير الأندلسي والعثماني في ذات الوقت في أزقتها وحاراتها وأحيائها العتيقة ومبانيها القديمة ومساجدها التاريخية وأشهرها مسجد الحنفي  والنباتات الجميلة كالياسمين والحبق ومسك الليل تتدلى من الأسوار والنوافذ حتى أطلق على البليدة لقب مدينة الورود ومدينة الأبواب السبعة.

حرب استعمارية فرنسية على الشخصية الوطنية

 

كان اليهود يعيشون خارج الأسوار ولكنهم يمارسون التجارة في المدينة العتيقة والحرف وجلهم كانوا من الفقراء الكادحين، ومع سقوط المدينة في يد المستعمر الفرنسي عام 1840 دخل اليهود إلى المدينة وأسسوا حيا لهم يعرف بزنقة اليهود.

وقد لجأ الاستعمار في حربه للشخصية الوطنية إلى تغيير معالم المدينة فاستبدل الأبواب الخشبية بأخرى من الحجر وجعل تخطيط المدينة يبدو على  شكل صليب وقد حول مسجد بابا محمد إلى ثكنة عسكرية لكنه أعيد إلى أصله غداة الاستقلال عام 1962.

وامتدت  حرب المستعمر للشخصية الوطنية إلى غلق الزوايا ومحاربة اللغة العربية وتجريد المواطنين من أراضيهم في سهل متيجة وأراضيه من أجود أراضي البلد وتحويل الشعب برمته إلى سخرة لخدمة المعمرين باستثناء فئة  قليلة انتهازية متعاونة معهم.

المعبد اليهودي بالمدينة العتيقة والذي يسميه البليديون "الشنوغة" - مدينة البليدة  الجزائرية. Synagoge 02 Blida ist eine Großstadt im Norden Algeriens FOTO BRAHIM MECHARA
المعبد اليهودي بالمدينة العتيقة والذي يسميه البليديون "الشنوغة": أعلام يهود عرفتهم البليدة - اشتهروا بالفن والإعلام والمحاماة: كما عرفت البليدة أعلاما يهودا اشتهروا بالفن والإعلام والمحاماة وتعاطفوا مع المدينة مسقط الرأس والمواطنين العرب بل كانوا جزائريين في الصميم لولا الظروف المتدهورة خاصة الأمنية في مطلع التسعينيات، كما يكتب إبراهيم مشارة.

أما اليهود فقد صدر مرسوم يعرف بمرسوم كريميو عام 1870 منح على إثره اليهود الجنسية الفرنسية وغدا ولاء اليهود للفرنسيين باستثناء فئة قليلة وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن عددهم غداة الحرب العالمية الثانية ناهز 141 ألف يهودي، وغداة الاستقلال غادر اليهود البلد طوعا باتجاه فرنسا وإسرائيل في حين ظلت عائلات يهودية قليلة بالبليدة شأن المدن الأخرى، فولاؤهم كان للجزائر وتعامل الناس معهم لم يكن فيه ما يمس بحقوقهم أو ديانتهم وشؤونهم الخاصة لكن مع تدهور الأوضاع الأمنية عام 1991 وتعرض بعضهم للاغتيال جعلهم يغادرون البلد بالكلية شأن بعض الجاليات الأجنبية القليلة الأخرى.

وإلى اليوم مازال بعض اليهود يزورون البلد لماما في إطار زيارات الأقدام السوداء يتجولون في أزقة المدينة العتيقة وزنقة اليهود ويتنسمون عبير الزمن الغابر ويعيشون حكايات الحارات القديمة التي احتضنتها هذه المدينة التاريخية ذات يوم، بل يتردد أن قلة قليلة منهم ما زالت تمتلك محلات بشارع الشهداء تؤجرها لجزائريين بأسعار زهيدة وتأتي مرة في العام لتحصيل الإيجار وزيارة المدينة وقضاء أيام بها.

معبد يهودي قرب مسجد بالمدينة العتيقة

 

المعبد اليهودي بالمدينة العتيقة والذي يسميه البليديون "الشنوغة" مصحفا من الشنورة وتعني المعبد اليهودي الذي يقع بالقرب من مسجد الحنفي مازال قائما وقد تأسس عام 1861 ووسع عام 1866 وبني على الطراز العثماني تتخلله حديقة واسعة وهو مغلق وفي حالة تصدع وتآكل جدرانه  كما بقيت الكنيسة البروتستانتية بالقرب من باب الرحبة ولكنها مغلقة أيضا.

وكانت وزارة الشؤون الدينية قد راسلت ممثل الجالية اليهودية منذ زمن  للسماح بتحويل المعبد إلى مدرسة قرآنية تابعة لمسجد الحنفي ووافق ممثل الجالية لكن الموضوع قيد الانتظار، ولو رمم المعبد وحافظ على هويته لكان مثلا للتسامح الديني وشاهد على حقبة تاريخية تعايش الأندلسيون واليهود والسكان الأصليون قبل مداهمة الاستعمار الغاشم للجميع.

"يهودي ولا مئة بليدي" – من أين جاء هذا المثل؟

 

يردد الناس في  البلد كافة هذا المثل ويراه البليديون مثلا يعكس الذكاء وينصفهم وفي مورد المثل تروى قصص عديدة لكن أشهرها  اثنتان فالقصة الأولى تقول إن قرويا فلاحا جاء إلى المدينة العتيقة بسلة فاكهة لبيعها لكن لا أحد اشترى منه فاكهته مما اضطره إلى التوجه إلى زنقة اليهود فاشتراها منه يهودي وزاده في الثمن فهكذا وجد غنيمة في يهودي ولم يجدها في مئة بليدي فأطلق المثل أول مرة لكن سياق المثل لا يرجح هذه الحكاية إذ السياق أن اليهودي خلص القروي من محنته واشترى منه في حين  أن رواد السوق لم يأبهوا به واقتضى السياق أن يقول " يهودي ولا مئة بليدي".

والقصة الثانية وربما هي الأرجح وهي أن قرويا ألجأته الأمطار الغزيرة إلى الاحتماء بمحل ليهودي في زنقته لكن صاحب المحل طرده وجعله بمعية تجار آخرين مسخرة وهزأة فوقف في ناصية المحل حيث عرض صاحب المحل أكياس الدقيق التي كانت مفتوحة للمشترين، وتشاء الصدفة أن "قلمون" (غطاء للرأس يلتصق بالقشابية وهي العباءة المغاربية المعروفة أو البرنوس المغاربي) كانت تتسرب منه الأمطار إلى الكيس فلما ذهب القروي اكتشف صاحب المحل أن السميد  قد تلف وصار عجينا فأطلق المثل لأول مرة وهكذا تحول ذلك القروي الذي كان يسخر منه إلى رجل ضحك في الأخير بغير قصد منه على صاحب المحل والساخرين منه.

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة