قصة نجاح مصحوبة بتحولات سياسية

تمثل العوامل السياسية الإقليمية والدولية والتطورات الأمنية والمتغيرات الديموغرافية وانعكاساتها على عملية التمثيل الديمقراطي تحديات كبرى تواجه إسرائيل في عامها الستين وفق تحليل ماريتن بيك، الباحث في معهد دراسات الشرق الأوسط في هامبورغ.

الاحتفالات الرسمية بالذكرى الستين لقيام دولة إسرائيل، الصورة: أ.ب
الاحتفال بمرور 60 عاما على قيام إسرائيل يقابله على الجانب الآخر 60 عاما من النكبة، كما يرى الفلسطينيون

​​عدد قليل من البلدان استطاع كإسرائيل أن يحقق القفزة من مجتمع نام إلى اقتصاد ذي مقومات عالية. غير أن إسرائيل لا تثير الإعجاب فقط بسبب نجاحها الاقتصادي، فنحن إذا ألقينا نظرة على مؤشر التمنية البشرية الذي يقيس مستوى التنمية في المجتمعات، سنجد أن إسرائيل احتلت في عام 2005 مرتبة متقدمة، وتحديداً الثالثة والعشرين، خلف ألمانيا مباشرة. أما قصة النجاح السياسية فيمكن تلخيصها في عبارة: إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تتمتع بالديمقراطية في الشرق الأوسط.

لكن إسرائيل تواجه تحديات جديدة في مجالي السياسة والاقتصاد. صحيح أنها استطاعت بسياستها الاقتصادية الليبرالية أن ترفع من سقف انتاجيتها، لكن ذلك جاء على حساب ما تميزت به الدولة من الماضي من مستوى مرتفع في مجال الخدمات الاجتماعية. ويظهر ذلك في التوزيع غير المتكافئ للدخل وفرص التعليم المتباينة. وتتوقف درجة التباين على الانتماء إلى مجموعات عرقية أو أيديولوجية معينة.

فوفقاً لدراسة نشرها "بنك إسرائيل" في مارس (آذار) 2008 يعيش 60% من عدد السكان تحت خط الفقر، وهم ينتمون إلى مجموعيتن رئيسيتين من الأقليات: مجموعة الفلسطينيين ومعظمهم مسلمون، ومجموعة الإسرائيليين من اليهود الأرثوذكس المتطرفين.

عوامل سياسية أمنية

وبغض النظر عن التحديات السياسية والاجتماعية فإن إسرائيل تواجه تحديات أكبر في مجال الأمن، إذ إنها لم تستطع أن تعقد معاهدة سلام سوى مع مصر (1979) والأردن (1994). لذلك، فما زالت عواقب حرب الأيام الستة عام 1967 تهيمن على الشرق الأوسط حتى اليوم.

صور من حرب الأيام الستة، الصورة: د.ب.ا
حرب الأيام الستة شكلت حلقة أخرى من حلقات الصراع الشرق أوسطي

​​وعلى الرغم من أن هناك استعداداً مبدئياً في إسرائيل لإعادة المناطق العربية المحتلة (باستثناء القدس الشرقية) عبر المفاوضات (الأرض مقابل السلام)، فقد تم رفض منظمة التحرير الفلسطينية رفضاً قاطعاً كشريك للمفاوضات في السبعينيات والثمانينيات. وإذا نجحت إسرائيل في عقد اتفاق سلام مع مصر، فإنها فشلت في تأمين السلام في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني وتهميش منظمة التحرير الفلسطينية: ثم أظهرت الانتفاضة التي تفجرت عام 1987 أن الشعب الفلسطيني يتبنى الهدف المعلن لمنظمة التحرير، وهو إقامة دولة فلسطينية.

تاريخ حاسم: اتفاقية أوسلو للسلام

أدت اتفاقية أوسلو إلى تغيير سياسي: ففي إطار عملية أوسلو للسلام اعترفت إسرائيل بالفلسطينيين كشعب له كيانه المستقل، غير أن الآمال بانتهاء الصراع سلمياً لم تتحقق حتى الآن.

عبر الانتفاضة الثانية عام 2000، انتفاضة الأقصى، قام سكان المناطق المحتلة المحبطون من واقع عملية السلام بفسخ هذه الاتفاقيات "من أسفل". ورغم أن هياكل عديدة مما أفرزته معاهدة أوسلو ظلت قائمة فإن الوضع السياسي الأمنى في إسرائيل تغير تغيراً دائماً.

بعد تفجر الانتفاضة الثانية تزايد عدد العمليات العسكرية في المناطقة المحتلة وداخل إسرائيل. وقد أدت الإجراءات المضادة - لا سيما بناء السور الفاصل في الضفة الغربية - إلى تراجع تلك العمليات. أما الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة في سبتمبر (أيلول) 2005 فلم يؤد إلى النتيجة المرجوة. حتى اليوم ليس هناك حماية أكيدة لإسرائيل من الهجمات التي تُشن بصواريخ القسام.

تبعات الانتفاضة سياسيا

ولم تظهر أهمية حل إشكاليات الوضع السياسي الأمني إلا على خلفية تأثيرها على السياسة والاقتصاد. وقد أدت المساوئ الاقتصادية لسياسة الاحتلال إلى تغير سياسي في نهاية الثمانينيات. ويدين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق رابين بالفضل في نجاحه في انتخابات عام 1992 – وهي الانتخابات التي جعلت عملية أوسلو ممكنة من الأساس – إلى قناعة عدد كبير من الإسرائيليين من أن سياسة الاستيطان تأتي على حساب الانجازات السياسية والاجتماعية.

فلسطينيون يرشقون عناصر الشرطة الإسرائيلية بالحجارة في مدينة القدس، الصورة: أ.ب
زيارة شارون إلى الأقصى كانت الشرارة في اندلاع الانتفاضة الثانية

​​بالمعنى الإيجابي ترسخ هذا الشعور في التسعينيات عندما شهدت إسرائيل إقبالاً من جانب المستثمرين الأجانب لم تشهده من قبل، وذلك بعد تفاهمها مع منظمة التحرير الفلسطينية. غير أن نشوب انتفاضة الأقصى أدى في خاتمة المطاف إلى كساد هائل لم تستطع إسرائيل أن تعالجه إلا بسياسة بالغة القسوة.
وكانت قضية سياسة الاحتلال والمشاكل السياسية المتعلقة بها من المنظور الديمقراطي قد لعبت دوراً كبيراً إبان عملية أوسلو للسلام، لا سيما في الدوائر اليسارية الليبرالية، وهي قد احتلت الآن موقعاً مهماً تحت مسمى "العامل الديموغرافي" على أجندة حزب "كاديما"، حزب يمين الوسط الذي يقوده رئيس الوزراء أولمرت منذ عام 2006.

البعد الديموغرافي

وفق بيانات "المكتب الإسرائيلي المركزي للإحصائيات" كان يعيش في نهاية عام 2006 حوالي 5,4 مليون يهودي و1,4 مليون عربي. أما بيانات "المكتب الفلسطيني المركزي للإحصائيات" فتقول إن عدد السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في "فلسطين التاريخية" (أي على الأراضي الإسرائيلية والأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل) بلغ في نهاية 2005 حوالي 4,9 مليون نسمة.

عمال فلسطينيون على معبر إيريز، الصورة: د.ب.ا
سياسة الإغلاق وعدم تحقيق إنجازات سياسية عملت على تأزم الأوضاع في الأراضي الفلسطينية

​​وحسب تحليل قام به "مركز بيغين-السادات للدراسات الاستراتيجية" فإن عدد السكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة قد تناقص بوضوح في يناير (كانون الثاني) 2004، فانخفض من 3,8 مليون إلى 2,5 مليون نسمة.
غير أن الإحصاء السكاني الذي جرى في عام 2007 أكد بيانات "المكتب الفلسطيني" إلى حد كبير. فبينما توقع "مركز بيغين-السادات للدراسات" وجود أغلبية يهودية في فلسطين التاريخية حتى عام 2025، فإن "المكتب الفلسطيني" يعتقد بأن عدد السكان الفلسطينيين في إسرائيل والأراضي المحتلة سيتعادل مع عدد السكان اليهود في عام 2010، بل وسيفوقه.

إشكالية التمثيل الديمقراطي

وبغض النظر عن التوقيت الذي سيمثل فيه الفلسطينيون الأغلبية داخل فلسطين التاريخية، فإن النقاش الدائر حالياً يشير إلى مشكلة سياسية وسيادية قائمة منذ بدء سياسة الاحتلال عام 1967. وحتى إذا كان للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل تطلعات سياسية مختلفة تماماً عن فلسطيني المناطق المحتلة، فإن كلا الفريقين يستهجن السياسة الإسرائيلية في نقاط جوهرية: فسكان القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة يقاومون سياسة الاحتلال، أما الفلسطينيون في إسرائيل فهم ساخطون على شكل الدولة الإسرائيلية باعتبارها دولة يهودية.

ويعني هذا أن إسرائيل الحالية، منذ عام 1967 (بالإضافة إلى المناطق المحتلة)، دولة بها أقلية من السكان ستتحول في وقت قريب إلى أغلبية، وبالتالي لن تتمتع سوى بشرعية محدودة. وبهذا تظل العوامل السياسية الأمنية والاحتلال والصعوبات الاقتصادية وثيقة الصلة بالسؤال عن مدى التمثيل الديمقراطي في إسرائيل.

مارتين بِك
ترجمة: صفية مسعود
قنطرة 2008

د. مارتين بِك أستاذ مُحاضر في جامعة هامبورغ وباحث في معهد دراسات الشرق الأوسط في هامبورغ. في الفصل الدراسي الشتوي 2007/2008 تقلد بك بالنيابة منصب الأستاذية في مادة العلاقات الدولية بجامعة بريمن.
قنطرة

إسرائيل والفلسطينيون:
وطن جديد ....وطن ضائع
ولدت أفيتال بن كورين في مدينة آيسناخ الألمانية، لتجد لها في إسرائيل بعد ذلك وطنًا جديدًا لها، في حين فقدت عائلة أبو ستة البدوية وطنها مع تأسيس دولة إسرائيل. واقعان متناقضان وحلمان متغايران؛ واحد تحقق وآخر تحطم على أرض الواقع. بتينا ماركس في عرض لتجربتين مختلفتين.

الذكرى الستون لقيام دولة إسرائيل:
ستون عاما على قيام إسرائيل ـ ستون عاما على النكبة
فيما تحتفل إسرائيل بمرور 60 عاما على تأسيسها، يطلق العرب على هذه المناسبة وصف النكبة، لكن حتى بالنسبة للإسرائيليين فإن هذا اليوم ليس في حقيقة الأمر مناسبة للاحتفال، فتحقيق حلم الدولة كان بداية لكابوس آخر. بيتر فيليب يلقي نظرة تاريخية على تطور هذا الصراع.

مناقشة
انتقاد إسرائيل ومعاداة الساميّة
هل يمكننا أن نفسر الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل وممارساتها في المناطق الفلسطينية بظاهرة العداء للسامية؟ هذا هو موضوع السجال التالي بين الفيلسوف البريطاني بريان كلوغ والمؤرخ الإسرائيلي روبرت فيستريش

WWW

رابط خارجي للنسخة الأصلية من تحليل الباحث مارتين بِك